من (بناتيات) إلى (أوركسترا): الكتابة نجاة للروح
في البدء،كانت الكتابة مجرّد محاولة للفهم.
كانت سارة الجاك تبحث عن إجابةٍ لأسئلةٍ لا تكفّ عن الدوران في داخلها: من أنا؟ لمن أنتمي؟ ولماذا أنا هنا؟
تكتب لا لتُجيب، بل لتسكن اللغة، لتجد فيها شكلًا للحياة حين تضيق بها الأمكنة.
في ذلك الزمن البعيد،حين كانت طالبة جامعية، كانت البنات هاجسها،وصوتهن الخافت يسكن الورق قبل أن يصل إلى العلن.هناك، في صحيفة الأيام،في ركنٍ صغير حمل اسم “بناتيات”،ولدت كتابتها الأولى.
كتبت عنهن ولهن، تحت إشراف الكاتبة مديحة عبد الله، وكانت لا تزال غضةً، تتلمّس نغمتها الخاصة وسط صخبٍ من أصواتٍ تكتب بغير وعيها.
اليوم، وبعد أعوامٍ من الترحال،تعمل مع البنات أنفسهن،لا لتكتب عنهن،بل لتعلّمهن كيف يكتبن عن أنفسهن.
كانت بناتيات بابها الأول إلى النشر، لكن الحكاية بدأت أعمق من ذلك.
من نادي القصة السوداني، ومن المساحات الثقافية في صحف الأيام والصحافة والوطن والأحداث، تخلّقت ملامح صوتها.
أما أول نصٍ لم يُنشر، فكان رواية “المعتقة” التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة الطيب صالح عام 2012. لتصبح البذرة التي أنبتت كاتبةً تبحث لا عن الجوائز، بل عن المعنى.
سارة،المهندسة المعمارية، وجدت في العمارة والكتابة ممرّين متوازيين إلى الخلق.
كلاهما يعتمد على الموهبة، الإلهام، والتفرّد.كلاهما يحتاج إلى تصميمٍ وبناءٍ وصبرٍ على التفاصيل،وإيمانٍ بأن الجمال ليس صدفة، بل خطةٌ مدروسة في الروح حيث ترى أن الكتابة تشيّد بيوتًا للمعنى،كما تشيّد العمارة بيوتًا للجسد.
حين تكتب،لا تنفصل عن هويتها المتقاطعة: أنثى، أفريقية، سودانية، لاجئة، لا تنكرها ولا تختبئ منها؛ فهي نسيج تكوينها،لا يمكنها الفكاك منه.
تقول سارة: “وإن انفككت عنها، فماذا سأكتب؟”
لكنها تعترف أيضًا أن الكتابة أحيانًا تتخطّى الجسد والمكان والهوية،حين تصير اتصالًا خالصًا بين الروح وخالقها.في تلك اللحظة، تنفصل عن الماديّ،وتصبح الكتابة صلاةً،أو موسيقى شفافة لا تُرى.
من صلوات خلاسية إلى كمبا، كان الجندر والهوية حاضرين كنبضٍ في جسد السرد. الأدب عندها ليس ترفًا ولا زينة؛ إنه أداة مقاومة، محاولة لفهم ما هو مخفي، وتحليل ما لم يُقال، والبحث عن ممرّ الضوء في عتمة البنى الاجتماعية الثقيلة. ولهذا لا تشغلها التصنيفات:لا “أدب ما بعد الحرب”، ولا “أدب المنفى”؛ فهذه تسميات يضعها النقاد في دفاترهم، بينما هي منشغلة بالفعل ذاته، بالفعل الذي يصنع الحياة من اللغة.
الحرب غيّرت كل شيء: الفكر، والنظرة، والجملة. صارت الجمل أقصر، أصدق، نافذة كالسهام.
و صارت اللغة مزيجًا من الفصحى والدارجة، كما هي الحياة نفسها في السودان،حيث تتقاطع اللغات كما تتقاطع المصائر.
لم تكن الحرب مفاجئة لها،بل كانت نتيجة لاختلالٍ قديم كانت تستشعره،كزلزالٍ مؤجّل ينتظر لحظة وقوعه.
وفي المنفى، لم تحاول أن تبني بيتًا جديدًا؛ لأن الكتابة نفسها صارت وطنًا. لم تندمج في الخارج لأنها لم تنفصل عن الداخل.
ذلك أنها تقول: “اللغة لا تُفقد، لأنها ليست لغة الخطاب، بل لغة التفكير.”
في النزوح،كانت الذاكرة مأواها الأول، تعبّئ مخزنها بالصور والأصوات، بينما اللغة تتلكأ في تشييد المكان، أو ربما كانت هي التي لم تسمح لها بعد.
تجريب سارة في السرد ليس نزوة شكلية، بل بحث عن الدهشة.
تكتب لتصل إلى تلك اللحظة التي تُدهش فيها نفسها، لحظة يخرج فيها النصّ من بين يديها ككائنٍ حيّ له روحه المستقلة.
ففي صراع اللغة، لا تبحث عن القوة بل عن الصدق؛ فالنصّ، كما تقول، هو الساحة، واللغة سلاح المتصارعين، ومن يصدق أكثر، ينتصر.
قبل الحرب،كتبت مسلسلًا نسويًا للتلفزيون، تجربة جعلتها تكتشف أن الكتابة للدراما ليست مجرد سرد،بل حوار مع الصورة والزمن والإيقاع. تتمنى أن تعود إليها،لكنها تعرف أن الدراما تحتاج اهتمامًا من “أولي الأمر”، وهو ما لا يتحقق بسهولة في بلدٍ أنهكته التعقيدات.
تؤمن سارة أن الأغنية الشعبية النسوية هي شكل من أشكال السرد المقاوم، جزء من ذاكرة المجتمع وثقافته.
تقول: “أنا امتداد لهن، لتلك النساء اللواتي غنين في الأعراس والبيوت. تعلمت منهن الحكمة، والمرونة، والإيجاز في العبارة، والتناغم بين الصوت والجسد والحركة.”
وسط الدمار،لا تزال تؤمن بالحب.
ترى أن الكتابة يمكن أن ترسم طريقًا إليه،أن تحوّل حلمه إلى حقيقة نعيشها،لا نكتبها فقط.
واليوم،تعمل على روايتها الجديدة “أوركسترا: معزوفة مريم”،رواية يبدو فيها العنوان كإشارةٍ إلى المصالحة بين الفقد والموسيقى،بين الألم والإبداع.
وحين تسألها الحياة عن المستقبل، تبتسم وتقول:
“أرى نفسي فاعلة ثقافية، أنتمي للإنسان وللسودان في أي مكان، داخله كان أم خارجه.”
كأنما تقول إن الكتابة لا تعرف الحدود، وإن الروح، حين تكتب، لا تُنفى أبدًا.


اترك رداً على Razaz Fedail إلغاء الرد