نحن في عالم يفرط في التركيز على الثقافة الغربية كمركز أحادي للمعرفة، التدفق المستمر لنشرات الأخبار، والحوادث الصغيرة المرتبطة جميعها بكوارث واسعة النطاق – يبقينا متصلين ومعزولين (فاقدي الإحساس) في آن واحد. إن سديم الصوت والصورة الذي يغمرنا يطغى إلى حد كبير على أولئك الذين يعيشون دون هذا الحمل الحسي الزائد والمصطنع. لا بد أن الفجوة هائلة بين مقدار ما نراه ونسمعه ومقدار ما نستوعبه فعلياً، ولذلك تصبح مناطق عملية مثل الفاشر –السودان، غزة – فلسطين، محض أخبار وأرقام لا توقظ ضمير العالم.
قد تفترض أن الفيلم هو هجوم ليبرالي على سياسات جورج دبليو بوش. ليس الأمر كذلك على الإطلاق. تدور أحداث الفيلم قبل وقت قصير من بدء الغزو الأمريكي، وتتطلع الشخصيات فيه إلى الغزو وسقوط صدام حسين. كما أن الفيلم لا يعكس لاحقًا رأيًا مؤيدًا أو معارضًا للحرب. إنه يتعلق بالحياة الفعلية للاجئين، الذين يفتقرون إلى ترف الآراء لأنهم منشغلون بالبقاء على قيد الحياة في عالم لا مكان لهم فيه، أولئك الهامشيون الذين ليسوا بقيمة الرصاصة – كما يقول غاليانو.
تدور أحداث الفيلم في مخيم للاجئين الأكراد يقع على الحدود بين تركيا والعراق. وهذا يعني، نظريًا، أنه يدور في “كردستان”، وهي وطن موجود في أذهان الأكراد، على الرغم من إصرار جميع الحكومات الأخرى في المنطقة على أن الأكراد بلا دولة. حيث الحياة في عراق (بهمن قبادي) الكئيب الذي يشبه ما قبل نهاية العالم، حيث أطراف الأطفال أقل قيمة من الألغام التي قد يتمكنون من تفكيكها وبيعها، وحيث يبدو الكبار عاجزين عن تغيير مصائرهم مثل الرضع المكفوفين الذين ينتحبون أمام لفائف الأسلاك الشائكة. يجب عليهم ببساطة انتظار حرب قد لا تغير شيئاً للأفضل، فهم مواطنو بلد ليس مستقبلهم ملكاً لهم ليبنوه، يعيشون إحتضار دائم.
انا طفل العالم الثالث، أنا جيل المعاناة
ويومي ما له بعد، وعمري ما له وعد
فكيف ترونها تبدو، بدايات نهاياتي.(1)
السمة العامة للفيلم الموجة الجديدة الإيرانية — وهي حركة ظهرت في أواخر الستينيات وتُعرف بسردها الشعري، هي استخدامها لممثلين غير محترفين، وتركيزها على الموضوعات الفلسفية بلمسة من الواقعية. لا يظهر الأطفال في عالم قبادي كشذوذ عن النظام العام الذي وضعه الكبار، بل كأساس لذلك النظام العالمي. الشخصيات في الفيلم هم أطفال ومراهقون، جميعهم أيتام؛ هناك بالغون في المخيم، لكن الأطفال يديرون حياتهم بأنفسهم – خاصةً صبي ذكي واسع الحيلة يُدعى ساتلايت (سوران إبراهيم)، الذي ينظم مجموعات عمل من الأطفال الآخرين. و الفتاة الصغيرة الغامضة “أغرين” و الفتى مبتور الذراعين (هينغوف) والمتنبئ، تجسد الفتاة بشكل خاص حزن شعبها المتوارث عبر الأجيال: فعلى الرغم من أنها بالكاد في سنوات مراهقتها، إلا أنها غارقة جداً في سعيها المدمر للذات، يظهر عليها إرهاق منتصف العمر في كل لقطة قريبة مدهشة. يبدو أن شخصيات قبادي جميعها تشيخ بسرعة خلال أحداث الفيلم؛ تنتقل من الأمل إلى خيبة الأمل إلى تدمير الذات والعودة مرة أخرى. ورغم كل الصور المروعة والقوية التي يقدمها قبادي (أطفال يغمرون ملابسهم بالكيروسين، وأطفال صغار يبكون وهم يتشبثون بأسوار الأسلاك الشائكة في عواصف ممطرة موحلة، وفتى بلا ذراعين يفك غطاء لغم أرضي بأسنانه)، لا يبدو أنه يحاول أبداً أن يصدم المشاهد؛ كاميرته ببساطة تلتقط بقعة من الأرض تتحول فيها الطقوس اليومية ببطء إلى مادة للأسى.
ما الذي يشكل براءة الطفولة؟ ومن هم الأطفال المختارون الذين يُمنحون هذا الامتياز؟ فجميع الأطفال الأبرياء في العالم — ضحايا سياسات الديكتاتوريين والفاشيين
الأطفال في فيلم “السلاحف تستطيع الطيران” ليسوا ضحايا حرب سلبيين وهشين، يقود الأطفال الكاميرا بخفة ليعيدو تعريف السذاجة وبراءة الطفولة، التي تم التنظير لها، كمرحلة تحضيرية للبلوغ، تتطلب أن يكون الأطفال في وقت فراغ ويتعلمون تحت إشراف الكبار من حولهم. معظم هذه المبادئ التي تبدو طبيعية وعالمية والتي يجب اتباعها خلال السنوات الأولى من حياة الفرد، وفقًا لروسو، لكن في حالات الصراع والحروب يكون الأطفال هم ندوب حقيقية في التجسيد الغربي للإنسانية، في الجنوب العالمي يتعلم الأطفال خلال نشأتهم : “ألف” تعني “الجيش”، و “باء” تعني “الرصاصة”، و “تاء” تعني “الموت”، لكن لا تعني براءتهم في كونهم غير فاعلين، بل في إصرارهم على بناء عالم يرونه مناسبًا لأنفسهم، في مواجهة القوة الغاشمة للظالم. إنهم يقودون، يخططون، يلعبون، ويثورون، وبالتالي يكشفون عن الفشل المأساوي للنظام العالمي الرأسمالي في القرن العشرين في تجريدهم من حقهم الذي لا غنى عنه – الحق في البراءة.
القرية يائسة للحصول على معلومات حول الغزو الأمريكي القادم. لكن ما الذي سيفعله الأمريكيون من أجلهم؟ مأساة الشعب الكردي هي أنه لا يبدو أن أحدًا يريد أن يفعل الكثير من أجلهم. في هذه اللحظة الفاصلة يصبح للأكراد وهم جمعي بنهاية العالم، من جهة صدام يريد قتلهم، ومن جهة أخرى يظهر الأمريكان، “حرب! العالم في حالة حرب. الجميع يبحث عن الأخبار،” يصيح الكردي القادم من إيران، الذي يبحث عن هينغوف الفتي مبتور الذراعين وصاحب المقدرة على التنبؤ، فنبؤاته التشاؤمية والسحرية تصيب السردية الأمريكية في مقتل – ليست حرب على الإرهاب، جميعنا ستصيبه الألة الأميريكية، على النقيض يظهر ساتلايت مقتنعًا في الغالب بأنه يستطيع قيادة شعبه لإيجاد طريقهم للخروج من حرب المعلومات، إلا أنه هو نفسه ضحية لهذه الدعاية الغربية التي تعمل جنبًا إلى جنب مع هياكل القوة الاستعمارية بعد أحداث 11 سبتمبر. ففي البداية، وهو يتتبع حرفياً مسار الطائرات الأمريكية القادمة إلى العراق على خريطته، يقيسها بأصبعيه، ثم يهتف ساتلايت بابتهاج: “لم يعد يفصلنا الكثير عن مجيء الولايات المتحدة،” لكنه لم يكن يعرف بأنها ستزيد من تدمير حياة اللاجئين الأكراد.
وفي في أحد أكثر المشاهد تعبيرًا، تحلق طائرات هليكوبتر أمريكية فوق مخيم اللاجئين. هرب القرويون واللاجئون إلى تلة حيث يحاولون أن يبدوا كأنهم أشجار حتى لا تُقصف. تسقط الطائرات الأمريكية منشورات تقول: “سنجعل هذا البلد جنة. نحن هنا لنزيل مشكلاتكم. نحن الأفضل في العالم.” مما جعل ساتلايت يفكر: “هناك مال في كلمة ‘مرحباً’ هذه الأيام،” إنه وعي مُبكر بدور رأس المال الأميريكي، فعليهم أن يتعلموا الإنجليزية لأنها ستجلب لهم المال، حيث تساعده بضع عبارات إنجليزية مألوفة على كسب ثقة السكان المحليين وحتى التعامل مع العملاء الأجانب.
البطولة الأمريكية، التي ناصرها “ستالايت” في البداية، لا تنقذ أحداً في النهاية.
نادراً ما تشعر بأن فيلماً بهذا القدر من الإلحاح، كرسالة في زجاجة جرفتها الأمواج إلى الشاطئ عن طريق الخطأ. تجرأ المخرج على سرد قصة ركن من الكوكب ليس فيه حل، بغض النظر عن مدى صعوبة محاولة أولئك الذين يبعدون نصف عالم كامل بلا نهايات سعيدة.
هل حقاً تقلص الأفلام ضخامة أي هولوكوست (مذبحة) إلى قصص أصغر. إذا كان لا يوجد طريقة لسرد قصة كبيرة بما يكفي لاحتواء جميع ضحاياها، أو جميع الأرواح المتأثرة خيرًا وشرًا في الشرق الأوسط. حتى إذا كانت عقولنا لا تستطيع معالجة هذا العدد الكبير من القصص، إلا أن حقيقة قبح الحروب في النهاية لا تظهر في النياشين والرتب التي يتصعد لها الجنرالات ولا في الموارد التي تسرقها الشركات العابرة للقارات ولا في البذلات الأنيقة التي يرتديها السياسيون عند إبرام إتفاقيات السلام، إنها تظهر في الأطراف المبتورة للأطفال، في كوابيسهم ومخاوفهم.
المصادر
(1) طفل العالم الثالث – كلمات ليلى المغربي


اترك تعليقاً