One Flew Over the Cuckoo’s Nest – أحدهم طار فوق عش الوقواق

·

·

, ,

مدخل: هل حياتنا مجردة كذبة قائمة على الاستلاب والخداع؟

حسناً.. أحدهم سيخبرنا قصة.. عن “البصلة الفاسدة” عندما لا تكون فاسدة

“أحدهم طار فوق عش الوقواق”

بقلم : منصور الصويم

مقدمة

“الشيزوفرينيا” ثيمة تلتقي عندها ثلاثة من أشهر الأفلام الأمريكية الدرامية ذات البعد المأساتي، لكن بالتركيز عليها كدلالة على الصحة النفسية أكثر من كونها مرضاً أو جنوناً، أتحدث عن أفلام (فتاة قوطعت – 1999)، و(سائق التاكسي – 1976)، وأخيراً فيلمنا هذا (أحدهم طار فوق عش الوقواق). هي أفلام تصلح نموذجاً لسينما تعارض المفاهيم الشائعة عن المرض النفسي، وترحله من حقل الطب والسيكولوجي إلى الفضاء الاجتماعي والتاريخي والسياسي. تقول هذه الأفلام إن عكس الأشياء هو صحيحها، فمن نرى أنه فصامي – مريض – مجنون، هو السليم والمعافى والعقلاني.. والمرضى هم “نحن”! تناول فيلم (أحدهم طار فوق عش الوقواق) تلك العلاقة الشائكة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين المجتمع والدولة في العصر الحديث من جهة أخرى؛ الفرد بكل طاقاته الكامنة وحنينه الأبدي للحرية والانعتاق، والمجتمع والدولة بكل آلياتهما النظامية المعقدة وموقفهما التدجيني السلطوي من الفرد.

تدور أحداث الفيلم في أحد المستشفيات النفسية في واحدة من الولايات الأمريكية، وتحتدم الأحداث الدرامية مع وصول المريض – السجين الجديد راندل باتريك ماكمفري (جاك نيكلسون)، الذي بمجرد وصوله يبدأ في محاولة خلخلة الأنظمة والطرائق العلاجية والإدارية بالمستشفى، ويدخل في مواجهة حادة مع المشرفة والمعالجة النفسية في العنبر الذي ألحق به؛ الممرضة راتشيد (لويز فليتشر)، وذلك بالسخرية من أساليبها في العلاج وبتحفيز وتحريض بقية المرضى على مقاومة هذه الأساليب وإظهار شخصياتهم الحقيقة (الكامنة) مقابل محاولة المحو اليومي التي تمارسها عليهم راتشيد وطاقمها التمريضي سواء عبر جلسات المعالجة الجماعية الأقرب إلى (التحليل النفسي) أو من خلال تلك الأدوية المهدئة والمخدرة التي برمجتهم على تناولها. وعبر أداء درامي رفيع للممثل الأسطوري جاك نيكلسون؛ ينجح ماكمفري في زعزعة ثقة زملائه النزلاء في الممرضة راتشيد وفي إعادة بناء ثقتهم بأنفسهم، وبدأ بعضهم بالفعل في اكتشاف ذاته وأعماقه ومحاولات التحرر من القيد الصارم الذي تفرضه أنظمة المستشفى. يزخر الفيلم بالصور الحوارية المفعمة بالنقد للقيم السلبية في المجتمع الأمريكي الحديث، وبالدعوة إلى تحرر الفرد وتصالحه مع نفسه، كما تحتشد المشاهد بالأبعاد المأساوية ما بين رغبة الفرد بأن يكون ذاته في مقابل خضوعه وانكساره أمام قوانين الخارج. ينتهي الفيلم بذروة احتدام تتوزع ما بين النصر والانهزام، ففي ذات اللحظة التي يحقق فيها المرضى حلمهم بالحرية منحازين لرؤية ماكمفري المنطلقة والمتحررة، تحدث المفارقة بإسقاط الحلم ومحو – قتل ماكمفري وسحق أحد المتحررين (انتحاره)؛ وإن تمكن في النهاية نزيل واحد من الفرار والصعود صوب أعماقه حاملا معه روح الشهيد ماكمفري المغتالة، ومخلفا ثقبا لن يزول في دائرة الممرضة راتشيد وأنظمتها القامعة. الفيلم الحائز على تسع جوائز أوسكار، لو نظرنا إليه خارج إطارية قصته الدرامية، لاكتشفنا الأبعاد الفلسفية والفكرية للنص الأصلي “رواية كين كيسي”، متمازجة ومتداخلة مع الرؤية النقدية الرفيعة للمخرج ميلوش فورمان، فأحداث الفيلم ودراميته المحزنة والمخزية في آن، ما هي إلا رسالة إدانة للمجتمع الحديث بكل قيمه وقوانينه المكبلة للإنسان، بما تمارسه عليه من ضغط وتشييء يصيره في النهاية مجرد قطعة في لعبة شطرنج (ماسخة) يتم تحريكها يمينا ويسارا وكيفما شاء (النظام) بالدرجة التي تجعله -الإنسان- خاويا ومفرغا من الدخل و(محشوا بالقش).

الفيلم، من جهة ثانية، يعري الدولة بما تمارسه من سلطة باردة وغاشمة، لا تولي أي معنى للحياة، سلطة معادية للحرية والإبداعية وقامعة لرغبة (مواطنها) ونشدانه البشري للتغيير والاختلاف والخصوصية، دولة أنتجت أنظمة تعليمية (جلسات العلاج النفسي) وأسواقا استهلاكية (الحبوب المسكنة) وأدوات قمعية (الشرط والأمن والجيش)؛ كلها تهدف في النهاية إلى الحد من إنسانية الإنسان وتقزيمه وسجنه داخل مجتمع (عنبر) مريض بدوره.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *