في لحظةٍ ما من العمر، يصادف المرء عملًا فنيًّا يلتصق بوجوده كظلٍّ عنيد. قد يكون كتابًا أو لوحةً أو قصيدةً، ال فيلم “لا وطن للعجائز”. المستوحى من رواية للكاتب كورماك مكارثي، الروائي الأميركي الذي تميز بتمرسه القوي باللغة ويتمثل إرثه باثنتي عشرة رواية مملؤة بالعزيمة والجمال والعنف. رحل مكارثي بعد حياة تخللتها فترات طويلة من شظف العيش والإدمان:
تبدأ الحكاية ببساطةٍ مُخادعة: “لويلين موس”، صيادٌ مخضرم من تكساس، يعثر على بقايا صفقة مخدرات فاشلة بين المكسيكيين، حيث الجثث متناثرة وحقيبة نقود مهجورة. يقرر سرقتها، لتبدأ مطاردة لا هوادة فيها من قِبَل القاتل المُروِّع “أنطون تشيغور”، بينما يحاول الشريف العجوز “إد توم بيل” فهم هذا العالم الذي لم يعد ينتمي إليه.
قد تبدو الحبكة مألوفة، لكن الفيلم ليس مجرد تقليد لأفلام المطاردة.
لا يكتفي الفيلم بإثارة التشويق أو تقديم دعابات سوداء على طريقة “فارغو”، بل يتحوّل إلى استفزازٍ مقصود للجمهور. فلا توجد موسيقى تصويرية في الفيلم، وكيف تُترك المشاهد لتصطدم بصمتِ العالم القاسي. حتى العنف هنا ليس مسليًّا؛ إنه فوضى صمّاء تُسمعك أنفاسك قبل رصاصة القاتل. ومن المشاهد التي لا تُنسى- دماء الضحية على حذاء “تشيغور” دون أن تُسمع طلقة واحدة، “الشر ليس شيئاً يولد مع الإنسان، إنه يظهر عندما تفتح الباب له… وبعض الأبواب لا تُغلق أبداً.”
عبر الشخصيات الثلاث: “بيل” الذي ينهار تحت وطأة شرٍّ يراه يتفاقم رغم جهوده، و”موس” الذي يتحوّل إلى صخرةٍ صلبة بلا رحمة، و”تشيغور” الذي يصبح تجسيدًا للشر المطلق. هنا لا يُكافأ البطل الذي يحمل السلاح، بل يُعاقب. حتى “تشيغور” الذي يهرب من الموت مرارًا، يُظهره الفيلم في النهاية كشبحٍ بلا انتصار، مجرد آلة قتل بلا غاية.
الفكرة واضحة: العنف قد ينقذ جسدك، لكنه يسرق إنسانيتك.!
لماذا يجب أن تُحبَّ المشهد الأخير.؟ فبعد ساعتين من الترقب، تكمن الملحمة في المواجهةً، الحوار بين “بيل” ومُقعدٍ هرم عن أحلامٍ ضائعة. فلو انتصر “موس”، لتحوّل الفيلم إلى مجرد أسطورة غرب أمريكي تقليدية. بدلًا من ذلك، يصرخ العمل بأن الشر لا يُهزم، وأن الموت ينتظر الجميع، سواء هربت أو قاتلت. النهاية ليست خاتمة، بل هي صورةٌ لعالمٍ بلا نهايات حتمية.
تبرز أسماء مثل “كورماك مكارثي”والأخوين “كوين” – كسادة للسوداوية – وجدوا في الرواية مرآةً لرؤيتهم: عالمٌ بلا معنى، وشخصياتٌ تائهة في ضباب القَدَر. حتى الفكاهة هنا مُرّة؛ كضحكةٍ مكتومة في جنازة.!
نرى “تشيغور” كرمزٍ للعدم: تسريحته الغريبة، عيناه الباردتان، حتى سلاحه الغريب (أسطوانة غاز تقتل بلا صوت). إنه ليس شريرًا تقليديًّا، بل قوةً طبيعية كالإعصار، لا تحتاج لسببٍ لتدميرك.
“كل رجل يعرف في أعماقه أن ثمة شيء ما يترقبه. شيء ما يترقبه ولا يمكن الهرب أو الاختباء منه”.
هذا الفيلم لا يُشاهد، بل يُختبر. إنه يراقبك كما تراقبه. ستغضب من غموضه، تضحك من عبثيته، ثم تصمت حين تفهم أنه ببساطةٍ يقول الحقيقة: الحياة ليست حكايةً لها بطل، والموت ليس عدلًا. قد لا يكون “لا وطن للعجائز” الفيلم المثالي، لكنه عملٌ لا يتكرر، كابوسٌ سينمائي يبقى معك كذكرى طفولة مُؤلمة… وتعلم أنك بحاجةٍ إليه.
اترك تعليقاً