في فيلم “Goldfish”، يُفتتح الفيلم بـ”رسالة شفوية” توجِّهها أناميكا فيلدز إلى والدها، مُحمَّلة بشجن الذكريات. تنتقل العدسة السينمائية ببراعة إلى لقاءٍ مُرتقَب بين أناميكا وأمها سادهانا تريباثي، التي لا تُصارع فقط شيخوخةً قاسية، بل تُخفي في ثناياها صراعاً مع الخرف الذي ينخر ذاكرتها، حاجباً ملامح الماضي وراء ضباب النسيان. حين تكتشف أناميكا تدهور صحة الأم، تقرر إيداعها دار رعاية مُتخصصة، لكن صدمةً مُروِّعة تنتظرها: وصية الأم التي تورث كل ممتلكاتها لرجل غامض، أشوين راينا. هنا تبدأ رحلة البحث عن أشوين، تتداخل فيها خيوط الماضي بالحاضر، بينما تظهر لاكشمي، صديقة الأم المُتقطعة، كشاهدةٍ على أسرارٍ مُدوِّية تُكشف تباعاً.
أهناك ما يكفي من النسيان كي أنسى ؟ إني وبكل ما أوتيتُ من نسيان أتذكرك !
درويش
بينما تُصر أناميكا على استعادة الوصية، يفرض أشوين شرطاً غامضاً يُعيد تشكيل موازين القوة. لكن القصة لا تكتفي بالصراع القانوني؛ فموت لاكشمي المُفاجئ يطرح أسئلةً شائكة، والعلاقة المتوترة بين الأم وابنتها تطفو على السطح كجرحٍ نازف. هل ستنجح أناميكا في إنقاذ أمها من مصير دار الرعاية؟ أم أن ذاكرة الخرف ستكون السجن الأخير؟
تدور الأحداث في حي أمريكي تكتظ بجالية هندية وآسيوية، حيث تظهر روابط المجتمع الوثيقة بلمسات واقعية. الجيران، مثل الممرضة المتقاعدة لاكشمي، لا يتوانون عن إرسال نداء استغاثة لأناميكا عندما يلاحظون تدهور حالة سادهانا. لكن الأم، التي تشبثت باستقلاليتها رغم الخرف فأول ما تفقده من ذاكرتها هو الكلمات الانجليزية / وكأن الأم هي تكرار لأمثولة السمكة، برغم تذكرها للكلمات بلغتها الأم فتارة تفقد الكلمة الانجليزية التي تعني سمن، لكنها تتذكر كيف ان هذه الرائحة تذكرها بالهند / البلد الأم، ترفض المساعدة بتحدٍ، مؤمنةً بقدرتها على إدارة حياتها حتى النهاية.
وقدر ما يمشي في سور الزمن خطوات،
يلاقي خُطى السنين واقفات
عبد القادر الكتيابي
تُكشف شخصية سادهانا، مدرسة الموسيقى المتقاعدة، عبر طبقات من الحنين والسلطة. ذكرياتها مع عازف السيتار الأسطوري بانديت رافي شانكار، الذي كان يعزف حتى ساعات الفجر، تختلط بمحاولاتها اليائسة للتحكم في ابنتها، مما خلق جراحًا عميقة في نفس أناميكا. هنا، يصبح العنوان “Goldfish” (سمكة الذهب) استعارةً مركزية: فذكريات أناميكا عن سمكة ذهبية حية ألقتها أمها في المرحاض ذات طفولة تُختزل في لحظة قسوة مُتعمَّدة، تطفو على السطح كسؤالٍ عن دوافع الأم وحقيقة الذكريات المدفونة.
يخفق المخرج بوشان كريبلاني في نسج سردية متماسكة. فالثغرات السردية تطفو على السطح، كالعلاقة الهشّة بين أناميكا وأمها التي تفتقر للعمق، وارتباط عنوان الفيلم الغامض (“السمكة الذهبية”) بالحبكة الذي يبدو كرمزٍ مفتعل. يضاف إلى ذلك مونتاجٌ مُربك يقطع تسلسل المشاهد، وموسيقى تصويرية تتنافى مع الجو العاطفي للفيلم، بل تُغطي أحياناً على الحوارات نفسها. حتى السينماتوغرافيا تظل أسيرةً لإطار مكاني واحد، دون استغلالٍ إبداعي للفضاء.
تحاول أناميكا، وهي تتأرجح بين الواجب والألم، تقرير مصير أمها: هل تُرسلها إلى دار رعاية أم تواجه شبح الماضي؟ السرد، بوتيرة متعمدة وهادئة، ينساب كجدول ماء، مُستكشفًا تعقيدات تربية الأهل حين يصبحون أطفالًا، وصراع الابنة مع طفولة لم تُغفر. المشهد الذي تعترف فيه سادهانا بحقيقة السمكة الذهبية—”لقد كانت حية، وألقتها لأجرحك”—ليس مجرد كشف درامي، بل زلزالٌ يعيد تشكيل علاقتهما.

الفيلم يتميز بإخراجٍ شاعريٍّ يُوازن بين الصورة والحوار. كاميرا المخرج تلتقط التفاصيل الصغيرة: نظرة الأم التائهة، يدي الابنة المرتعشتين، وألوان الحي الذي يتحول إلى شخصية صامتة تشهد على التغيرات. أداء ديبتي نافال وكالكي كويشلين يُضفي عمقًا غير مسبوق، حيث تتحول كل نظرة إلى حوارٍ عن الحب والندم.
“Goldfish” ليس فيلمًا لمن يبحث عن إثارة سريعة، بل هو عملٌ يُشبه نبيذًا نادرًا يُتذوق بتمهل. كما قال الناقد السينمائي راجا سين: “هنا، البطء ليس عيبًا، بل هو اللغة الوحيدة التي يمكن للقلب أن يتحدث بها”. الفيلم يطرح أسئلةً كونية:
كيف نتعايش مع ذكرياتنا المسمومة؟ وهل يمكن للمرض أن يكون جسرًا للغفران؟
في النهاية، تُختتم الرحلة بمشهدٍ تذوب فيه الحدود بين الماضي والحاضر، مُذكِّراً بأن الحب، حتى عندما يُنسى، يبقى كالسمكة الذهبية – صامتًا، لكنه حيٌ في الأعماق.
اترك تعليقاً