وأنت تدخُل لعوالم المخرج “أليكس جارلاند” السينمائي مُتوقعًا لقاءَ نسخةٍ من “ستوكر” لتاركوفسكي، لتجد كائناتٌ مجهولةٌ تُطلقُ “الشيمر” وهي هالةً ضوئيةً تلتهمُ الأرضَ كسرطانٍ كوني. ليستْ شريرةً بوعي، بل كطفلٍ يدوسُ على عشِّ نملٍ دون قصد، هذا ما يمثل تحدياً أمام التوقع.!
إلى قلبِ التلاشي
تجسّدُ “ناتالي بورتمان” دور “لينا”، عالِمةَ أحياءٍ خلويةٍ سابقةِ الجيش، تُساقُ إلى مهمةٍ سريةٍ بعد اختفاءِ زوجِها “كين” (أوسكار إيزاك) عامًا كاملًا، ليعودَ فجأةً في حالةِ غيبوبةٍ وفشلٍ عضوي. في المنشأةِ العسكرية، تكتشفُ “لينا” أنّ “كين” كانَ داخلَ “الشيمر” – منطقةٌ شاذةٌ تتمدّدُ كالوباء، ابتلعتْ كلَّ مَن اقتحمَها إلا هو.
تنضمُّ “لينا” إلى فريقٍ نسائيٍ (فيزيائية، جيولوجية، ممرضة، عالمةُ نفس) لتتّجهنَّ إلى المنارةِ في مركزِ “الشيمر”. خلالَ الرحلة، تواجهنَّ كائناتٍ مهجّنةً بينَ الحيواناتِ والنباتات، ذاكرةً متقطّعة، وتشوّهاتٍ جينيةً تذيبُ الحدودَ بينَ الأجسادِ والعوالم.
يَبرزُ الفيلمُ بكونِ طاقمَ البعثةِ نسائيًا بالكامل، دونَ أيّ ادّعاءٍ بخطابٍ نسويٍّ مباشر. “لينا” ورفيقاتُها يَحمِلنَ طبقاتٍ معقدةً من القوةِ والضعف: صلابتهنَّ لا تُشبهُ بطولةَ الأبطالِ الذكورِ النمطيين، بل تنبعُ من إرادةٍ هادئةٍ تُواجهُ الانهيارَ بفضولٍ علميٍّ وشجاعةٍ وجودية.

الإنسان يواجه مخاوفه
“المنشور” ليسَ مجرّدَ تشويهٍ للطبيعة، بل مرآةٌ تكشفُ هشاشةَ الكيانِ البشري. كلُّ شخصيةٍ تسقطُ ضحيّةَ عيوبِها الدفينة: الخوفُ يدفعُ “كاس” إلى التضحيةِ العبثية، إدمانُ “أنيا” يجرّها إلى الجنون، سرطانُ الدكتورة “فينتريس” يتحوّلُ إلى نارٍ تلتهمُها من الداخل.
أما “لينا”، فتواجهُ شبحًا أملسَ بلا ملامح — نسخةٌ معكوسةٌ منها تُقلّدُ كلَّ حركة. هذا “الظلُّ” هو تجسيدٌ للذنبِ والفناء: خيانةُ الجسدِ لعقله، الرعبُ من الخطأِ البسيطِ الذي يُحوّلُ الحياةَ إلى جحيم.
المنارةُ
في قلبِ “الشيمر”، تتحوّلُ الرمزيةُ الجنسيةُ إلى عِلمٍ كوني: منارةٌ قضيبيةٌ تلتحمُ بصخرةٍ بيضاوية، مُنتجةً نفقًا مهبليًا يؤدّي إلى رحمٍ من ظلامٍ ونور. هنا، يطرحُ الفيلمُ سؤالَه الجوهري: ماذا لو كانَ التكاثرُ مجرّدَ تشويهٍ لا إرادي؟ ماذا لو كانَ الحبُّ والموتُ وجهانِ لعملةٍ واحدة؟
الموتُ، اللعبةُ الوحيدةُ التي لا رابحَ فيها
“الفناء” الذي تتحدّثُ عنه “فينتريس” ليسَ سوى تفاهةِ الفردية: نحنُ مجرّدُ وظائفَ بيولوجيةٍ عابثة، لا فرقَ بيننا وبينَ “الشيمر” الذي يتنفّسُ وينمو. تقبُّلُ الموتِ هو الخيارُ الوحيد، لكنّ “لينا” تختارُ مواجهةَ شبحِها بجرّارةِ يدَها، بينما “كين” يموتُ ليُخلّفَ نسخةً هجينةً تُعبّرُ عن حبّه الأخيرَ بحُضنٍ بلا كلمات.
رغمَ عبقريةِ التصويرِ والموسيقى التي تُذيبُ الأعصاب، يعاني الفيلمُ من هشاشةٍ درامية: فلاش باكاتٌ متكرّرةٌ لا تضيفُ للشخصياتِ عمقًا، ومؤثراتٌ بصريةٌ مبالغٌ فيها تُضعفُ رهبةَ “الشيمر”. لكنّ بعضَ اللحظاتِ تظلُّ مُطعّمةً بالرعبِ الجميل: تمساحٌ مُهجّنٌ بأسماك القرش، دبٌّ يصرخُ بصوتِ إنسانٍ يحتضر، وأنفاقٌ فطريةٌ تذكرُك بـ”الفضائي” دونَ تقليد.

هل التهجينُ معَ “الشيمر” هو تطوّرٌ أم انتحارٌ وجودي؟ هل الحبُّ مجرّدُ غريزةٍ بيولوجية؟ لو أنّهى جارلاند فيلمَه باندماجِ “لينا” و”كين” في كائنٍ هجين، لربما اكتملتِ الرمزية. لكنّه يكتفي بنهايةٍ تذكّرُنا بـ”سولاريس”: غزوٌ فضائيٌ مفتوحٌ للتأويل، يرفضُ أن يُختزلَ في رسالةٍ واضحة.
تكمن الجُرأة في خلطِ الرعبِ بالفلسفة، لكنّهُ يظلُّ كـ”الشيمر” نفسِه: جميلًا ومُربكًا، عميقًا وعابثًا، كأنّما يُعلنُ أنَّ السينما- كالحياة – لا تحتاجُ دومًا إلى معنىً كي تُبهرَك.
اترك تعليقاً