Agam Long – أقام لونق : نَغَمُ الحكمةِ ورِقَّةُ اللَّفْظِ

بول مثيانق

عندما تُثار أسئلةُ البلاغةِ والشاعريةِ في لغة الدينكا، وكيف ان اللهجة (طونقمانجنق) لغة ثرية ومرنة؛ تتبادر إلى الأذهان شخصية مثيرة جداً وهو (أقام لونق) الرجل الذي لا تكتمل طقوسُ الحوارِ والإقناع إلا بحضوره.

إنه الوجهُ الذي يتراءى في كل محفلٍ تلتقي فيه الألسنُ بالحكمة، وتتصارعُ فيه المصالحُ بالكلمات، من ساحات القضاء العرفي تحت ظلال الأشجار، إلى مفاوضات الزيجة الأهلية، والمزاداتِ الشعبية الصاخبة للأبقارِ.

إلا أنك بمجرد ان تشاهده، للوهلة الأولي ستشك و تظن فيه؛ المكر!. شخصيةً مُلتبسةَ الدور، يتحرك كظلٍّ خلف المتحدثين، يردد عباراتهم بنبرةٍ مُلحَّنة، ويصوغها من جديدٍ بمراوغةٍ لغويةٍ مدهشة. تساءلتُ في نفسي: ما هذه الحيلة، أليس هذا ضرباً من النصب؟

عندما صادفته في أول حضور لي أثناء جلسة قضائية مفتوحة في منطقتنا، وبطبع حال المحاكم الأهلية لدينا نحن بصفة عامة كشعب الدينكا ومعظم القبائل الإفريقية، عادة ما تعقد الجلسة في الأماكن المفتوحة، تحت ظلال الأشجار وتكون المشاركة فيها مفتوحة إذ إنها تعتبر ملتقي للجميع لنهل الثقافة والأدب، ومصدرا لإستسقاء المعلومات من ذوي الخبرة وكبار السن (الشيوخ) والقادة الروحانيين.

حسبت الأمر نصبا حين علمتُ أنه يتقاضى أجراً على خدماته، ولكن سرعان ما تبخر تلك الرأي حين أدركتُ أن ما أراه “احتيالاً” هو في الحقيقة نسق حيويٌ يُبقي جسدَ المجتمعِ متماسكاً، و عندما لاحظته للمرة الثانيه في عمليات البيع والتبادل بسوق المواشي الشعبية، وهو يلعب دور أقرب لسماسرة السوق.

ومع الوقت وبعد الغوص أكثر في مكامن اللغة لدينا وملاحظتي لهذه الشخصية في محافل عديدة، وتشكلت في الوعي أكثر عن الموروثات الثقافية لأسلافنا، أدركتُ أن “أقام لونق” ليس وسيطاً عابراً، بل هو حلقةُ الوصلِ بين الماضي والحاضر، بين الفردِ والجماعة. ففي سوق المواشي، حيث تُقاس ثروةُ المرءِ بعدد رؤوس الأبقار، لا يقتصرُ دوره على التوسط في البيع، بل على صياغةِ صفقاتٍ تحفظ كرامةَ البائعِ والمشتري، وتُجنِّبُهم إحراجَ المساومةِ العلنية.!

إنه سيدُ المفرداتِ القادرةِ على تحويل الصراعِ إلى تعاون، والجفاءِ إلى تفاهم، بحيث تكشف لغة الدينكا عن عبقريةٍ في تجنب الاحتكاك، كما يوضح الكاتب “أتير سايمون” في مثالِ واقعةِ الزنا. “اذا واقع رجل زوجة رجل اخر فإن الدينكا يطلقون في وصف فعل الزنا، (أكوور) او (لووم) رغم وجود كلمات آخري يمكن إستخدامها لوصف هذا الفعل المستهجن ، ولكن كلمة (لووم) والتي تعني (الأخذ) في الاصل. ابلغ تعبيراً، وإحتشاماً من اي مرادف اخر. والغرض من إستخدامها في هذا السياق -غض النظر عما بدر منها من فعل شائن- هو إحترام المرأة وتوقيرها، فالكلمات التي تمس مكانتها السامية، أو تطعن/تمس شرفها لا تقال وتستبدل بكلمات مموهة”. ودرءاً للفظاظة.

هنا يتجلى دور “أقام لونق” كمُصفٍّ لغويٍّ، يحوّل العبارات الخشنة إلى تعابيرَ مُهذبة، ويُعيد صياغة الاتهاماتِ المُتفجِّرةِ إلى لغةٍ دبلوماسيةٍ تُمهِّد للحلول. إذا دعنا نتخيل في حالة عدم وجود شخصية مثل (أقام لونق) الذي يردد الكلام خلف كل من يتحدث في الجلسة، والمتمكن في جوانب اللغة. كيف ممكن ان تسبب إستخدام مصطلح مشين أو خادش للحياء في زعزعة نظام الجلسة أو التسبب بحالة من الاحتقان وسط الأطراف المتنازعة، إذا لم يؤدي شخص دوره المنوط به في إعادة صياغة الكلام علي ضوء المرادفات والفكرة الأساسية المراد توصيلها؟. ففي مجتمعٍ تُعدُّ فيه الإهانةُ اللفظيةُ جريمةً تُدينها العاداتُ (كالقذف أو ما يُعرف بـ (Lat coup و Your coup)، يصبح هذا الوسيطُ اللغويُّ حاجزاً ضد الفوضى. وما كثرة المرادفات في اللغة التي يمكن فهما علي سياق غير المراد بها والتي ممكن أن تسبب المنازعات الخطيرة، بسبب درجة أهمية الإحترام المتبادل الكبيرة بين تلك المجتمعات التقليدية.

لا يقتصر دور “أقام لونق” على التلاعبِ بالكلمات، او تهذيب المفردات، بل يتعداه إلى هندسةِ ديناميكياتِ الحوار. إنه قائدُ الأوركسترا الخفيُّ في الجلسات؛ يُنظم تدفقَ الكلام، ويوزع الأدوارَ بين المتحدثين، ويُذكِّر الجميعَ بالإجراءات المتبعة، من لحظةِ افتتاحِ النقاشِ حتى إعلانِ الحلول. صوتهُ الجهوريُّ، المُتقنُ نبراتِ التوكيدِ والترقيق، يحول دون تسللِ المللِ إلى الحضور، ويحفظُ للجلسةِ هيبتَها.

إنه ليس مجرد ناقلٍ للكلام، بل حارسٌ للغة “الطونقمانجنق” بكل ما تحمله من جماليةٍ وإرثٍ روحي. و أن تعريف أقام لونق، حرفياً؛ إنه (الذي يقبل الكلام).

خاتمة

حين تكون اللغةُ إبداعاً جماعياً لا يُعَدُّ “أقام لونق” مجرد وظيفةٍ اجتماعية، بل هو تجسيدٌ لوعيِ الدينكا بقدسيةِ الكلمةِ وقدرتِها الخلاّقة. ففي كلِّ مرةٍ يُعيدُ فيها صياغةَ عبارةٍ جارحة، أو يُلطفُ إدانةً قاسية، يُذكِّرُنا بأن اللغةَ ليست أداةً للتواصل فحسب، بل للبناءِ أيضاً. ربما لهذا ظللتُ، أتأملُ هذه الشخصيةَ بإعجابٍ متجدد؛ نجح في أن يجذبني نحو الإهتمام بالسرد للمورثات الشعبية، فهي تُحيي في ذاكرتنا أن ثقافةَ الشعوبِ لا تُختزلُ في نصوصها المقدسةِ أو حروبها، بل في تلك التفاصيلِ الصامتةِ التي تصنعُ السلامَ من رحمِ الكلام.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *