أم الصبيان – الجنية المتمردة

تُعرف في التراث السوداني بـ”أم الصبيان” أو “القرينة” أو “التابعة”، وهي كائنٌ خرافي يُعتقد أنه عفريت أنثى من الجن، تتسلط على المرأة الحامل لتُسقط جنينها أو تُلحق الأذى بالأطفال. تظهر – وفق المعتقدات – في صورة كوابيس مُرعبة على هيئة قطط أو كلاب أو بوم، كما تترك علامات على جسم الحامل كبقع زرقاء أو سوداء وجروحات غامضة. وقد تُعرض المرأة لإجهاضٍ مبكر، أو ولادة طفلٍ ميت، أو وفاة المولود بعد فترة قصيرة، وتتشابه اسطورة قاتلة الأطفال مع ما ورد في الكتاب المقدس، حيث أُعتبرت ليليث زوجة آدم الأولى بدلاً من حواء، وأشار إلى أنها تمردت وتخلت عن آدم، فقام الله باستبدالها بحواء. وقد اختلف لفظ اسمها وفق كل حضارة، فهي “ليليث” بالعبرية، و”ليليتو” بالأكادية، وكلاهما من الجذر “ليلَ” الذي يعني الظلام. كما أن البعض يجد تشابهاً لقصتها مع قصة “لميا” في الأساطير اليونانية، الآلهة التي تشرف على جنيات مهمتهن خطف الأطفال.

حيث ظهرت في العهد القديم باعتبارها شيطانة الليل، وتجسدت على شكل بومة باكية. وهكذا اعتبرت روح أو ريح حاملة للأمراض للتخلص من الأطفال والنساء الحوامل، والتفرقة بين الأزواج، وقدّم ذلك على أنه طريقتها بالانتقام من مصير البشر بعدها. ومن هنا التصقت سمعتها كساحرة تفتك بالأطفال والنساء، وكانت دائماً تمثل إمّا الفوضى أو الإغواء.

وبسبب أعمالها، ارتبط اسم “ليليث” باسم “لاماشتو”، الشيطانة التي كانت تفترس الصغار حديثي الولادة وتشرب دماء الرجال وتلتهم لحمهم، كما تدفع النساء الحوامل للإجهاض وتجلب لهنّ الكوابيس. وبهذا أصبحت “ليليث”، و”لاماتشو”، و”لميا” وغيرها من الأسماء محصورة بثنائية الخير والشر، وارتبطت بشكل وثيق بالظواهر التي تحدث في العالم الحقيقي والتي لا يمكن تفسيرها، خاصة لناحية وفاة الأطفال حديثي الولادة أثناء نومهم بشكل مفاجىء ومن دون أي سبب واضح

لحماية الأطفال من أذى هذا الكائن، ابتكرت النساء السودانيات طقوساً متنوعة تجسد مزيجاً من المعتقدات الدينية والتراثية والتأثيرات الثقافية التاريخية. فمنها ما يرتبط بالوقاية اليومية، مثل إشعال بخور التيمان طوال النهار لدرء العين، أو وضع مصحف قرب مهد الطفل. كما تُمارس عادات فريدة كوضع صابونة غُسِل بها جثمان ميت بجانب المرأة المُرضع حديثاً، اعتقاداً بأن رائحتها تطرد الشر.

ويُعتقد أن الكحل الأسود – الذي يُكحل به المولود – يحميه من الحسد لقدرته على “قبض” العين، بينما تُرسم علامة الصليب على جبين الطفل في مناطق شمال ووسط السودان، وهي ممارسة يُرجح أنها متأثرة بالتراث المسيحي، إذ يُحاكي البعض شكل الصليب بخطوط بين الحواجب لتضليل الأرواح الشريرة. وفي شرق السودان، تزداد الطقوس تعقيداً مع التحميدة – رسم دائرة حول الصليب في اليوم السابع للولادة – التي قد تعود لتأثيرات إثيوبية مرتبطة بفداء الخطيئة الأولى.

وتحمل ممارسات الملابس دلالات وقائية عميقة؛ فيُغطى المولود بثياب خفيفة لتجنب أنظار الأرواح، ويُمنع استخدام اللون الأحمر الجاذب للعين. كما تُفضَّل الملابس المُرقعة أو المُستعملة، بل قد تُشحذ من الآخرين، لإيهام الأرواح بأن الطفل فقيرٍ لا يستحق الأذى. أما إذا اشتد المرض على الطفل، فيُغيّر اسمه أو يُسمى باسم غريب خارج تقاليد القبيلة، مثل تسمية طفل الهدندوة بـ”سيدأحمد” الشائع لدى قبيلة الشايقية.

ولا يقتصر الحذر على الأحياء؛ فإذا وُلد الطفل بعد وفاة أبيه، يُغيَّر الشِلخ (العلامة القبلية) ليبعده عن روح الأب التي قد “تأخذه معها”. كما يُحاط التوأم بحرصٍ أكبر؛ فيُخبَّآن عن الأنظار، وتُجنَّب الملابس المتطابقة، بينما يُمنع ضرب الحيوانات الليلية كالقطط خشية أن تكون أرواحاً متجسدة.

وتمتد هذه الممارسات إلى تقاليد التسمية، حيث يُسمى المولود “عوض” أو “عوضية” تعويضاً عن طفلٍ سابق، مع دعوات بأن يعيش طويلاً. وتكشف هذه الطقوس عن انصهار الثقافة السودانية بطبقات من التاريخ، كما في استخدام رمز العنخ النوبي (علامة الخلود) الذي ظهر في حُلي الملكات المرويات ، ليُعاد توظيفه في الحماية من الشر.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *