في الفترة بين 1845-1926، وُلد محمد بن محمد آدم علي ركاب في شرق السودان: “أبوعلي قويلاي أور”. وأشتهر بكنيتهِ أبوعلي لأبنه الأكبر علي، أما لقبه الغامض “قويلاي أور” فحُيكت حوله الأساطير؛ فمن قائلٍ إنه استمدّه من وحشٍ شرس تشبيهاً به كمحارب قوي، و تُرجع إلى غيرته الشديدة على فرع “القويلي” من قبيلة الأتمن، التي انحدر منها كسيفٍ مُصلتٍ لحماية شرفه وشرف أهله. لم يكن مجرد زعيمٍ تسلّم مقاليد القبيلة بسهولة، بل نالها بتنازلٍ نادر من الشيخين “كورب حامد” و”محمد آدم”، ليكون قائداً للحامداب والشاطراب، حاملاً في يده حكمة الأجداد، وفي قلبه إرثاً من الشعر الذي نظمه كخريطةٍ تُرشد السالكين في دروب الحياة القاسية.
حكمة تُطفئ نار الخصومة
قبل قرنٍ ونيّف، حين كانت النزاعات بين قبائل البجا تشتعل كالنار في الهشيم، اعتاد الشيوخ تأجيل حل الخلافات تحت مظلة “الواجاب”، لكنّ شاباً من جبل “أسوتربا” قلب الطاولة ذات يوم. بحكمةٍ فطِنَة، أخمد نار الخصومة بين متنازعين، فلفتت براعته أنظار الشيخ أبوعلي، الذي قرر أن يمنحه عمودية العشيرة دون تردد. لكنّ الشاب المُختار – بذكاءٍ يعكس ثقافة القبيلة – ردّ: “اسأل أبي، فإن وافق فجربني”. لم تكن النصيحة التي قدّمها الشيخ للشاب الجديد مجرد توجيه عابر، بل فلسفة حكمته: “لا تضع ناسك في ظلٍ دائم أو حرٍّ دائم“، أي أن التوازن بين الحرب والسلم هو سرّ بقاء القبائل.
الثعلب الذي علَّم الزعيمَ العفوَ
يحكي الرواة أن رهطاً من الأتمن أتوا إليه يوماً ومعهم ثعلبٌ أسود، اختلفوا في طريقة قتله انتقاماً لغنمهم. اقترح البعض ذبحه، وآخرون حرقه، لكن الشيخ أبوعلي أمسك الثعلب الهارب من أعينهم وقال له: “يا ثعلب، إن هذه الأغنام رأس مال القوم، فإياك أن تعود!” ثم أطلقه حراً، مخيراً إياهم بين العفو أو تعويضهم من ماله الخاص، الثعلب قد دخل داره حياً وسيخرج كذلك، لم تكن تلك سوى حلقةٍ من حلقات حكمته التي صاغها شعراً: “إن لم تعجبك سريرة الصديق، فإما أن تجامله أو تفارقه بابتسامة“.
معركة تسله / توسيلا/ تسلا: حين انتفضت القبائل ضد “ظل المهدية“
لم تكن مواجهته مع الأمير عثمان دقنة مجرد صراعٍ على السلطة، بل ثورةٌ ضد قمعٍ حوّل شرق السودان إلى سجنٍ مفتوح. حين حكم دقنة بإعدام سبعة شيوخ وسجن 400 أسرة في “وسلا” حتى فنيت من الجوع، كان أبوعلي قويلاي أور شرارة الانتفاضة. جهّز جيشاً من السندراييت.
يُحكى أن عثمان دقنة أحد أرسل الأنصار في مهمة إستطلاعية إلى سواكن , قابله وقتها محمود علي ” شيخ قبيلة الفاضلاب ” و أكرمه و رعاه و خير بين الرحيل و البقاء .
خارج المعسكر كان عثمان دقنة ينتظر في شوق الأخبار , فسأل الرجل عمن رأى و لقي فقال :
– لقيت الشيخ محمود علي، إبتسم متسائلاَ:
– ما هي أخبار هذا الكافر.
فقال متحرجاَ :
– وَ أميريَ يهاَ قلت أكاب! وهي تعني ” لابد أن هناك خطأ كبير سيدي الأمير ” .
لكن الأمير المدجج بفرسان الأنصار بدا أكثر رغبة لمقاتلة قويلاي أور، تشير الروايات المحلية إلى أن قويلاي أور خطب في أنصارة في المساء الذي سبق المعركة مذكرا بأن يوم الغد يوم حاسم وأوصي كل جبان بإستغلال ظلمة المساء في الهرب , لانه لا يرغب في القتال مع ضعفاء القلوب , وخاطب الطير بأن موعدها غدا لتأكل من جثث أحدي الفريقين، وفي ذلك اليوم الذي طُبع في ذاكرة الصحراء بنيران الانتقام، اندلعت معركة توسيلا كعاصفةٍ اجتاحت وادي “دِم” كان قويلاي أوربصحبة محاربيه من السندراييت بعد أن أرسل فارساً على ظهر جملٍ سريع ليُذكي روح الثأر في قلوب القبائل، واصطدم الجمعان تحت ظلام الليل بسيوفٍ وحرابٍ بعد أن صلَّى المتمردون الصلاة مرتين متعجلين لقاء الموت أو النصر، حتى انهزم جيش دقنة المُدجَّج بالخبرة أمام إصرار رجالٍ غاضبين سمعت أوديةُ “أميتييت” زفيرَ أنفاسهم كصوت الموتى، لتنتهي المعركة بهزيمةٍ ساحقة للأمير، وعودة الأسرى منتصرين، بينهم زوجة دقنة التي ردَّها قويلاي أور بكرمٍ أذهل عدوه، لتنطق بمرارةٍ عند عودتها: “ليتنا نقتني جرواً من ذلك الكلب!”، مُختزنةً في جملتها مرارة الهزيمة ودهشة الكرامة.
رحل الشيخ عام 1926، تاركاً وراءه قصصاً وأشعاراً تُروى كالنجوم في ليالي البادية. لكنّ حكايته لم تكن مجرد انتصارٍ عسكري، بل درساً في القيادة: فالقائد الحقيقي لا يخشى تسليم السلطة لشابٍ حكيم، ولا يتردد في العفو عن ثعلب، ويعرف أن الحربَ ليست نهاية المطاف، بل إحدى أدوات الحفاظ على “الظل والحرّ” في توازنٍ دقيق. وهكذا، صار اسم “قويلاي أور” رمزاً يُحكى كلما اختلفت القبائل، فتتذكر أن الحكمة قد تُطفئ ناراً، وأن السيفَ لا يُرفع إلا حين يصمت الكلام.
اترك تعليقاً