للكاتب: محمد مصطفى النور
وكان سكان مدينة الخرطوم يتداولون فيما بينهم عدداً من حكايات الخوف بطلها كائن شرير “مقيت” يظهر في الأماكن المهجورة والنجسة مثيراً الرعب لدى الإنسان العادي. أطلقوا عليه اسم “أبو كدوس”، يتفق وصفه الخارجي مع الوصف العام لليهود فهو يرتدي الملابس الداكنة، والقبعة الطويلة، والبذلة الطويلة التي تصل حد الركبة، و”ينخنخ”، أي يخرج صوته من الأنف مما يجعل حديثه مبهماً وغير واضح، وهي صورة تقارب وتحاكي مخارج الحروف العبرية، هو يمسك بين شفتيه بالغليون “الكدوس”؛ وهذه المواصفات تجعل “أبو كدوس” بزيه وغليونه شخصية أوربية غير سودانية.
ففي دراسة قيصر موسى الزين في معرض دراسته القيمة (المدينة والدين: الحركة التاريخية) – مدينة الخرطوم الكُبرى – حي أبوصليب كان سكان المنطقة يخيفون الأطفال بقصة الرجل الذي يرتدي ملابس الخواجات و يرتدي قبعة (برنيطة)
ومن أهم صفات “أبو كدوس” غير المرئية أنه يمثل الحي/ الميت، ويشرب دم ضحيته، وهنا تلتقي حكايات “أبو كدوس” مع حكايات دراكولا مصاص الدماء في المجتمع الأوربي، وتفيد بعض الدراسات أن شخصية دراكولا هي تجسيد للمواصفات الذهنية لليهودي في أوربا ولا أستبعد أن تكون صورة اليهودي في أوربا قد غذّت تصور السودانيين لليهود، فقد كان الأوربيون ينظرون إلى اليهود نظرة إزدراء وكراهية، وكان اليهود ينعتون بالخيانة. وقد ساعد الجيتو اليهود على تغذية هذه النظرة بمنعه للاتصال بين اليهود والشعوب التي
عاشوا بينها، فانتشرت الشائعات التي تروج لسحر اليهود وشيطنتهم ووحشيتهم وغدرهم. كما أن تفوق اليهود في العلوم الطبية والجراحية والكيمياء عزز الشائعات حول أن اليهود سحرة وأنهم أخوان الشيطان. ولعل بعض الأجانب الذين عملوا في السودان حملوا معهم هذه الأفكار، فمثلت الرافد الخارجي الذي تغذت منه صورة اليهودي في الذهن السوداني الذي كان مهيأً لمثل هذه الأفكار بخلفيته الدينية والقرآنية.

من أكثر السمات الراسخة في الذهن السوداني عن الشخصية اليهودية، والتي يبدو أنها تغذت من الوضع الاقتصادي لليهود، تبرز صفات: الجشع، وحب المال، وكنزه، والبخل الشديد، والأنانية، والمراباة، وتجاوز العواطف الإنسانية بسبب البخل والمادية. واليهودي في نفس الوقت ذكي، حسن التدبير، ناجع الحيلة، ويتداول بعض السودانيين في هذا الخصوص حديثاً موضوعاً للرسول صلى الله عليه وسلم يدعون أنه جرى إبَّان فتح خيبر قاتل الصحابة اليهود، فأشار الرسول على أصحابه بوقف القتال قائلاً: “خلوا باقي النصاره للبصاره”.
ورغم عدم صحة هذا الحديث إلا أنه يعطي فكرة واضحة عن الاعتراف الجمعي بشأن التفوق الأوربي، واليهودي، ولعله محاولة من “الأنا” السودانية لتبرير عجزها في مقابل قدرة “الآخر” وبراعته في مناشط الحياة “الدنيا” على اعتبار أنه ليس لهذا “الآخر” نصيب في الحياة “الأخرى”.
وقد أكدت إفادات الإخباريين، الذين قابلتهم في مدينة مروي، هذه الصفات وزادوا عليها أن اليهودي ملحاح في عملية البيع والشراء التي تأخذ منه ومن البائع، لهذا السبب، وقتاً طويلاً، ويحكى في هذا السياق أن عدداً من تجار المدينة كانوا يعطون اليهودي السلعة التي يريدها وعندما يسألهم عن الثمن لا يجاوبونه وإنما يطلبون منه إعطاءَهم ما يراه مناسباً. كما أبرز سكان مروي عن اليهود صفة إضمار الشر للمسلمين، ولعلها مستمدة من النص القرآني: “ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن إن اتبعت أهواءَهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من ولي ولا نصير”.
ويروى في هذا الخصوص أن الطريق إلى مسجد مروي كان يمر بمنزل أحد اليهود وكان ينتظرهم في مواعيد الصلوات ويقدم لهم الماء البارد، إلا أنهم لم يكونوا يشربون منه، والسبب في ذلك أنهم يشكون أنه كان يبصق في الماء الذي يقدمه لهم.
وتؤكد الإفادات الشفوية أن اليهود يبدون ظاهر الرحمة ويبطنون الشر، فزوجة أحد يهود مدينة مروي كانت رحيمة جداً حتى أنهم أسموها “حنينه” لكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون أنها تتصنع هذه الرحمة لتحظى بمكانة وسط مجتمعهم، وقد استخدم الإخباري عبارة ” مرة كانت طيبة لكن يهودية برضو” للإشارة على أنها لا تخرج من النمط العام لليهودي “الخائن”.
ويسود في السودان اعتقاد مؤداه أن الله قد منح اليهود قدراً من الحظ أكثر من غيرهم، وهو ما يتكشف من مناسبة واستخدام ما يجري مجرى المثل الشعبي “حظ يهود” الذي يقال لكل من وهب قدراً من الحظ. فهل لهذا الاعتقاد علاقة بمسألة “شعب الله المختار” ورسوخها في الذهن الشعبي السوداني؟ أم هي أصداء للقصص القرآني حول شعب إسرائيل ومعاصيهم وغفران الله لهم؟
ولعل صورة اليهودي في الذهن الأوربي لا تختلف عن ما ذكرناه، ففي الدراما الأوربية مثّل اليهود جماعة وظيفية هامة في البلدان التي عاشوا فيها، بل إن الكوميديا كانت دائما تنصبّ على السخرية من اليهود، وتصورهم في صورة البخلاء البائسين الضعفاء الجبناء. وتظهر الصورة النمطية لليهودي كممثل للجماعة الوظيفية المالية جليَّة في مسرحية كريستوفر مارلو “يهودي مالطا”؛ حيث يظهر اليهودي المخادع المحب للمال، الخائن الكاره للبشر، وتتكرر تلك الصورة عند ويليام شكسبير في “تاجر البندقية”؛ حيث صار “شيلوك” اليهودي عَلَمًا على الكراهية والحقد. ويتم استخدام هذا الرمز أحيانًا كثيرة للتدليل على صورة اليهودي اللاتاريخية، خاصة من قِبَل الكُتَّاب العرب.
وفي دراسته الطريفة حول صورة الإسرائيلي في مصر وجد عبد الباسط عبد المعطي أن ثقافة العامة حرصت على تفكيك الجسد وتجسيم أعضائه وتصويرها على نمط كاريكتوري بشكل يحقق الفرضيات السابقة، فالذكر الإسرائيلي هو غالباً أصلع، له لحية تلتقي مع الشارب، أنفه بارز، أذنه طويلة وكبيرة، يميل إلى البدانة، يختار الألوان الداكنة، يخفض صوته ويوظف أنفه كأحد مخارج الكلام. وهكذا فنحن هنا أمام شخص مريب فاللحية والشارب تخفي ملامح الوجه وانفعالاته، واللون الداكن للتواري وعدم الظهور الحاد، والصوت المنخفض يعطي انطباعاً بالمسكنة. فما هي المواصفات الجسدية لليهودي في الذهن السوداني؟
يختزل صلاح محمد أحمد الملامح الجسدية لليهود في الأنف الطويل المعكوف، فيقول في معرض روايته عن زيارته للكنيس اليهودي في الخرطوم عام 1977: “(..) فوجدت بداخله شخصاً يدعى إبراهيم باخوس أو باغوص وهو في ملامحه نموذج لليهودي بأنفه الطويل المعكوف (..)”.ونلاحظ أن صورة اليهودي ذو الأنف المعكوف هي الغالبة حول تصور السودانيين للنمط الجسماني لليهود، وقد عملت وسائل الإعلام المختلفة في السودان، الدراما المصرية منها على وجه الخصوص مثل مسلسل رأفت الهجان الذي وجد قبولاً واسعاً في السودان، على تأكيد هذه السمة.
و ساعد التنميط الاجتماعي للشخصية اليهودية في السودان لأن يبرز سمات: خائن للعهود، وهي صورة يعززها النص القرآني،” والبرود العاطفي ولعل أساسه النظرة المادية للأشياء الناتجة عن النزوع نحو الفردانية. والافتقاد للإحساس بالجذرية وهي تعكس الواقع التاريخي الذي نشأ فيه اليهود وهي سمة صاحبت اليهود في كيانهم الجديد وجعلت من مسألة البحث التاريخي والآثاري عن أدلة تثبت الوجود التاريخي لليهود في فلسطين شغل اليهود الشاغل سواء بالنسبة للمؤسسات أو الأفراد، والحساسية المفرطة تجاه النقد وهي ناتجة من افتقار اليهودي الخفي للثقة في النفس، والخيانة، والمراوغة، والخبث. كما نجد عدداً من الصفات السلبية التي جعلت هدفها نفسية الشخصية اليهودية مثل: الانطوائية، التشكك، الشعور بالدونية، اللامبالاة، الإحساس بالفشل، الكآبة، التشاؤم، الحاجة للمديح والإطراء، خشونة المظهر، انفعالية الأعماق.
المصدر:
سلسلة مقالات من كتاب النشاط الإقتصادي والإجتماعي للجالية اليهودية في السودان (1899-1956)م – للكاتب : أ محمد مصطفى
اترك تعليقاً