Norwegian Wood -ألَيس جَميلًا، أنْ تَحتَرِقَ الذِّكرَى.. فَتَنطفِئَ ؟

·

·

, ,

في يومٍ ما كانت لي فتاة، أو ربما أكون أنا مَن كان لها.”
“Norwegian Wood,” by Lennon and McCartney

كُل قصة حُب: تحمِل فناؤها في داخلها، فكمال حالها يبدو نذيرًا بزوالها. تُلقي الأرواح العاشقة بظلال مثاليّاتها على المحبوب، فلا ينتظرها سوى صَدَمات الواقع “هيَ هشّةٌ جدًّا لتحتملَ صفعةً كهذه.”. ربما هذه الحقيقة تُفسّر نجاح رواية “غابة النرويجية” لهاروكي موراكامي، التي احتلت قوائم الأكثر مبيعًا عالميًا، فالتعاطف مع الفقدان يأتي أسهل من الحب؛ لأنّ دروب الحياة كالرياح :

“حيواتنا ليست سوى ظلال هذا المبدأ الأساسي. قل إن الهواء يهب. يمكن أن يكون رياحاً قوية وعنيفة أو نسيماً رقيقاً. ولكن في النهاية كل هواء يخبو ويتبدد. ليس للرياح شكل. مجرد حركة هواء. عليك أن تستمع جيداً، وعندها ستفهم معنى المجاز.”

أخرج العملَ السينمائي المأخوذ عن الرواية المُخرج تران آنه هونغ، الفيتنامي المولد، المقيم في باريس،. يبدو هونغ كمن يقع في غرام ممثليه، يختار الوجوه الآسرة ثمّ يعانقها بتقريبات الكاميرا التي تُحوّل اللحظات إلى قصائد بصرية.

تبدأ الأحداث بثلاثية صداقة: صديقان وفتاة أحدهما (تذكّرت هنا فيلم “جول وجيم”). تتدفق الحياة بينهم ببهجةٍ طفولية، حتى يقرر كيزوكي (كينغو كورا) إنهاء حياته انتحارًا. ربما، بفظاظة القول، أراد أن يغادر المسرح قبل أن تفقده الأيام بريقه.

هل يدرك العشاق المنتحرون أن نبضات العاطفة عابرة، بينما الموتُ هو الخلود؟

يخلّف كيزوكي وراءه حبيبته ناوكو (رينكو كيكوتشي) وصديقه المقرب واتانابي (كينيتشي ماتسوياما). يشعر الاثنان بثقل البقاء ثنائيًا وحيدًا. في عيد ميلادها العشرين، تمنح ناوكو عذريتها لواتانابي، مُفسّرةً سبب امتناع كيزوكي — رفيق دربها منذ الصف السادس — عن إكمال علاقتهما جسديًا. السببُ هنا ليس ما قد تختلجه الظنون.

تختفي ناوكو فجأةً، فينغمس واتانابي في دراسته، حتى تظهر ميدوري (كيكو ميزوهارا)، الفتاة المرحة التي تُزيّن حديثها بلهجةٍ جريئةٍ تستمتع بإثارة الضحك. فقد كانت ميدوري الشخصية الأكثر شعبيّةً بين قراء الرواية، ربما لانعتاقها من سحابة الكآبة التي تحيط بالشخصيات الأخرى. لكن الفيلم يُخفت من حضورها، فيُظهرها المُخرِج أكثر مِيلاً لاستحضار لوعات الزوال بدلًا من بهجة اللحظة.

تصل رسالةٌ تفيد بأن ناوكو تقيم في ملاذٍ بعيدٍ -مصحةٍ تلفّها الطبيعة الساحرة، حيث تلازمها امرأةٌ أخرى جميلةٌ تُدرّس الموسيقى. يزورها واتانابي، لتدور بينهما مشاهدُ أشبه بأحلامٍ مترنّحة: همساتٌ شعرية، لمساتٌ تذوب فيها الحدود، وصورٌ طبيعيةٌ تذكّر بثلوجٍ ناعمةٍ كأنما يُجسّد المخرج عبر العدسة رقّةَ الحب الذي يخشى أن تدمّره ريح الخيانة.

 ولو اكتشفت ناوكو أمر ميدوري؟ قد لا تعني الفتاة الكثير لواتانابي، لكنّها تمثّل شرخًا في صورة الحب المثالي التي رسمتها ناوكو عنه، وهي نفسُها لا تحتمل هشاشتها أن تُصاب في هذا الموضع.

لا شكّ أن ثمة قلوبًا ستجد في “غابة النرويجية” صدىً لقصَصِها، لكنّ روح المخرج هونغ يبدو مُصرّةً على مقاومة النهايات السعيدة. في قوسه العاطفي، تبلغ الذروة حين تلتقي الحلاوة بالمرارة، ثمّ تنزلق الأحداثُ رويدًا نحو المصير المُظلم.

الفيلم، بتصوير مارك لي بينغ بين، يرسم كل لقطةٍ بانبهارٍ فني. الممثلون بجمالٍ يليق بغلاف “فوج”، وأداؤهم يلامس العمق في حواراتهم الحميمة. تنساب أغنية البيتلز بين المشاهد أحيانًا، كتذكيرٍ خفيٍّ بكلماتها:

 “حين استيقظت، كنتُ وحيدًا… طارت تلك العصفورة.”

“When I awoke, I was alone, this bird had flown.”

  • بينما تشتبك الرواية بتيار وعي البطل وانعكاسات الزمن (حكاية واتانابي البالغ ذو الـ37 عامًا الذي يستعيد ذكرياته، يفتقد الفيلم هذا الإطار الزمني الذي يضفي على النص نبرة الحنين والأسف. فيعوّضه المخرج بالتركيز على التحديقات البعيدة للشخصيات، لكنّها تقنيةٌ لا تُجاري قوة السرد الداخلي.
  • كثيرٌ من المشاهد الحاسمة في الرواية تفقد عمقها دون صوت البطل الداخلي. يُحسب للفيلم تجنّبه الإفراط في السرد الصوتي، معتمدًا على الموسيقى البديقة لجوني غرينوود واللقطات المُعَبِّرة، لكنّ النتيجة تبقى أقرب إلى لوحاتٍ متفرقةٍ من سيمفونيةٍ كاملة.
  • في مشهد المونولوج الطويل أثناء المشي، حيث تتنقل بين الانفعالات في لقطةٍ واحدةٍ مذهلة. التصوير الواسع يُحيط المشاهدَ بجمالياتٍ تشبه اللوحات الآسيوية الكلاسيكية، بينما تُضفي الموسيقى التصويرية بعدًا وجوديًا على الفراغات العاطفية.

الأسهلُ أن نتعاطفَ مع الفقدان لا الحبّ، لأنّ خبرتنا به أعمقُ بكثير

محاولة لترجمة أغنية الغابة النيروجية – فرقة البيتلز

كَانتْ لي فَتاةٌ ذاتَ يَومْ،
هَلْ كُنتُ أنا مِلْكًا لِحُسْنِهَا المُدوِّي؟
أرَتْني غُرفَتَها..
الخَشَبَ النَّرويجِي..

لقد كان فاتِنًا كَالسِّحْرِ

دَعَتْني لأَمكُثَ.. هَمسَتْ: “اخْتَرْ مَكانَكَ”،
فَالتَفَتُّ حَولِي.. لَكنْ.. أينَ المَقَاعِدُ؟
عَلَى البَسَاطِ رَقدْتُ.. أنْتَظِرُ وَقتِي،
وأرشفُ خَمْرَهَا..

حينَ اِعتَرَى اللَّيلُ، قالتْ: “حَانَ وَقتُ النَّوْمِ”،
وَضَحِكَتْ: “غَدًا عَمَلٌ يَنتَظِرُني”،
فَقُلتُ: “لَيسَ لي مَوعِدٌ”،
زَحَفْتُ نَحوَ الحَمَّامِ.. غْفُوت كَالطِّفلِ.

عِندَ الصَّبَاحِ.. لَمْ أَجِدْ سِوَى صَمتٍ،
العُصفورُ طَارَ.. لَمْ يَترُكْ سِوَى الرّمادِ،
فَأَشعَلتُ نَارًا.. تَلهو بِـ”خَشَبِ النَّرويجِ”،
ألَيسَ جَميلًا.. أنْ تَحتَرِقَ الذِّكرَى.. فَتَنطفِئَ؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *