الكاتب: محمد مصطفى النور
وهي النوع الثاني من أنواع الحكايات الشعبية المتداولة في منطقة الحامداب ، ويصدقها البعض ويكذبها آخرون، ورغم أن راويها يصر على صحة وقوع أحداثها إلا أنها تدور في عالم سحري وميتافيزيقي يصعب تصوره على أرض الواقع، وربما كان إعتقاد السكان المحليين بحقيقة وجود الجن مما جعل هذا النوع من الحكايات قابلاً للتصديق، والملاحظ أن معظم الذين يصدقون هذه الحكايات هم كبار السن مما يجعلني أميل للاعتقاد أن هذا الخط النظري ( حكايات قابلة للتصديق هو خط مؤقت ظهر حديثاً وقد كانت الحكايات في الماضي نوعين: حكايات خيالية، وحكايات واقعية وكانت حكايات الجن والسحاحير جزء من الحكايات الواقعية، ومع مرور الزمن حدثت تغييرات في طريقة التفكير فبدأت بعضاً من الحكايات الواقعية تزحف نحو أن تكون حكايات خيالية وهذه زامنت مرحلة الجمع الفولكوري الذي قمنا به، ومرحلة تهجير أهالى الحامداب، وربما قريباً سيختفي هذ الفاصل النظري وتصبح هذه الحكايات جزء من الحكايات الخيالية أما اليوم فالجمهور ينقسم بين مكذب لها وهم في الغالب تحت فئة الثلاثين، والبعض الآخر يتعامل معها كتجربة حقيقية واقعية عاشها بعض الناس ويجب إستخلاص الخبرة منها مثل عبارة كريمة ود اللمين)، وهي العبارة التي صنفناها فيما يجري مجرى المثل وهي نتاج قصة سنوردها فيما بعد .
عوالِم النيل
ليس هناك معتقد حول توقيت رواية هذه الحكايات. والفضاء الذي تدور فيه هو عالم النيل / البحر الذي يرتبط في الذهنية الشعبية بالغنى والخصوبة وبأنه مخبأ الأسرار، وتؤمن هذه الذهنية بوجود عالم آخر تحيا فيه مخلوقات اخرى فوق بشرية وكثيراً ما تصطدم الحياتان البشرية والفوق بشرية إما في اليابسة الفضاء المكاني للبشري، وإما في النيل الفضاء المكاني لفوق البشري، وينتج عن هذا الصدام حكايات الجن والسحاحير . فنجد حكايات بنات البحر وأولاد البحر وكثيراً ما تجد أناساً يحلفون لك بأغلظ الإيمان أنهم رأوا بنات البحر أو أولاد البحر ويصفوهم لك فنصفهم العلوي يشبه تماماً الإنسان، ولونهم مائل للحمرة، أما نصفهم السفلي فيشبه الأسماك، وهم يمشون على اليابسة قفزاً، وهذا الوصف يشبه إلى حد كبير وصف عروس البحر في حكايات ألف ليلة وليلة.

أسطورة (فِضيلة السمكة) – بقايا التمساح
ومن حكايات هذا النوع نجد حكايات السحاحير، وهم بشر يتحولون إلى تماسيح ويقومون بإختطاف الناس والتهامهم. وتشير معظم الحكايات إلى أن مصدر هؤلاء التماسيح هو منطقة (ناوا) بالقرب من دنقلا، وأنهم يتحولون إلى تماسيح تحت تأثير الضغوطات الاقتصادية فعندما تزيد عليهم الضرائب أو تصعب عليهم المعيشة فإنهم سكان ناوا يتحولون إلى تماسيح ويهاجمون سكان المنطقة – منطقة الحامداب خصوصاً النساء ذوات الحلى، ثم يستخرجون فيما بعد هذه الحلى ويبيعونها ولعل هذه الحكايات تدعو النساء في لاوعي جمعي للتقليل من إقتناء الحلي الذهبية وذلك عبر تخويفهم، ومن أشهر هذه الحكايات حكاية مازنية.
وتخبرنا الإفادات المصاحبة لهذه الحكاية أو ما يسمى بما يجري حول النص Context بالفرق بين التمساح السحاري والتمساح الحقيقي حيث يستلقي السحاري عكس اتجاه الهواء ويكون مستعداً لدخول النيل متى ما ظهرت فريسة على الشاطئ المقابل، وعلى عكسه يكون التمساح الحقيقي وفي إفادات أخرى يستلقي السحاري مقابلاً للنيل .
ومن أشهر قصص السحاحير أن سكان الحامداب إشتدت غزوات التماسيح – السحاحير – عليهم حتى أصبح جيرانهم من المناصير يتندرون عليهم باسم (فِضيلة السمكة) أي بقايا التمساح، فلجأوا إلى دعاء المشايخ والأولياء، ونده الشيخ حاج الماحي الأولياء الصالحين، فمات التمساح وخرج إلى اليابسة ميتاً وعلى ظهره أختام الأولياء المندوهين.
وفي حادثة مماثلة استنجدوا بالحكومة فعينت لهم أحد عمالها المشهورين ببراعة التصويب وإسمه (إبن عوف) وهو نفسه سحاري من قبيلة ناوا وقد نجح الأخير في قتل الكثير من التماسيح، ثم أنه قابل إبنة عمته وهي سحارية فحذرها وأمرها بالرحيل من منطقة الحامداب فلم تستجب له ولما تحولت إلى تمساح لم يجد حلاً إلا قتلها فعالجها بطلقة أردتها ثم أنشد :
الله يأجرك يا عمتي
وفاطنه في الحامداب ماها في
وفاطنه کتلت بی بندقی
وما زالت هذه الأبيات متداولة في المنطقة كدليل على وقوع الحدث.
ونموذجاً لحكايات الجن والسحاحير نورد هنا حكاية كريمة ود اللمين- وهو الاسم الذي تعرف به الحكاية محلياً الرواية جمعها الجامع أحمد محمد حمدتو من فريق الجمع الفولكلوري من الراوية

فاطمة كليسية
ود اللمين الكبير خطفنو بنات البحر .. البت قالوا رادتو وهو ماشاء لله قالوا كان ماكن وسمح.. جاتو يقولولا كريمة. جاتو بالليل في العيش جرتو يمسك في الشتلة كده لامن يقلعها وهي قوية. أها قالوا جرتو جوه البحر ده ودنو جهة دنقلا ودخلتو جوه البيت. عندون بيوت جوه البحر أكنوا بعدين جو جماعة منهن قال ريحة ناس البردي شنو؟ قالوا أكيد دي تكون كريمة معروفة هي .. بت قاهر .. قال خشوا جوه لقوه قالوا الراجل ده مالو ؟ سوا شنو ؟ إنتو ما تمسكوا بناتكم قالوا الراجل الكبير قاللوا أركب في ضهري ده وغمد عيونك. قال: اللمين زاتو .. قال بس غمت عيوني لقيت نفسي في الحجرة والجماعة في القيف يدقوا النقارة قايلنو مات.. غرق .. أها يلا بقى يكورك يا البدري..
البدري ده راجل كبير كده.. أها جوا ومرقوا والنقارة دي سايرة قريب شهر العب !!..
ومازال الحجر الذي نزل عليه موجود في المنطقة ويسمى (حجر اللمين) ويقال أنه أنجب وتزوج ومن صلبه جاء الأميناب وهي جماعة كبيرة منهم الباشرياب أصحاب أول عمودية في المنطقة.. ونلاحظ أن الحكاية تعطي سكان البحر صفات إنسانية .. كالشهوة عند النساء، الغيرة عند الرجال، الحكمة عند الكبار، وارتبط اسم كريمة بالفجور والجرأة، وربما كان لهذا الأمر ظلال أخرى، إذ تعتبر مدينة كريمة العاصمة التجارية للمنطقة وهي أقرب مركز حضاري للحامداب ويعتبرونها مكاناً للفجور والفساد واللهو حيث الخمر والنساء والسوء الذي يوجه دائماً – من الريف إلى الحضر.
المصادر:
الفلكلور والحياة الشعبية في منطقة الحامداب – للمؤلف محمد مصطفى النور / تقديم : د محمد المهدي بشرى – سلسلة إصدارات سد مروي
اترك تعليقاً