أسُطورة الغريب الحكيم

أسطورة الغريب الحكيم كأداة تفسيرية لتاريخ المجتمعات السودانية في العصر الوسيط

للكاتب: أ. محمد مصطفى النور

         وكان أول من انتبّه لهذه الأسطورة ودوّنها القسيس الكنسي سبنسر تريمنقهام في كتابه الإسلام في السودان، وأصبح مضمون هذه الأسطورة هو السائد حول انتشار الإسلام في السودان حتى الآن. ثم تطورت النظرية على يد المؤرخ البريطاني ب. م. هولت، ومن بعده على يد البروفسير يوسف فضل حسن.

         وملخص النظرية كما أوردها البروفسير يوسف فضل حسن في كتابه مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي هو: أن الأستاذ هولت توصل إلى رأي جديد علي ضوء ما جاء في مخطوطة كاتب الشونة (نسخة فينا) التي تحوي معلومات جديدة، وقد نشر الأستاذ هولت هذا النص مع ترجمة ودراسة نقدية ﻷصل الفونج. ويلاحظ البروفسير أن هولت يبعد الفقرة التي تروى ما قيل عن أن الفونج من بني أمية أو من بني هلال على أنها قد أقحمت على النص، وبعد أن تركز المخطوطة أن بداية الفونج كانت بلول “والشائع أن كبارهم مجتمعون عند كبيرهم ويأتون الطعام فاكل من سبق أكلوه ويقيمون بجيلي حتي قدم رجل من السافل فنزل بينهم ونظر أحوالهم. فأشار عليهم وصار كلما جاء طعام يحبس حتى يجتمع فيقوم ويفرقه عليهم فكانوا يأكلون ويفضل الباقي فقالو رجل مبارك لم يفارقنا فزوجوه بنت ملكهم وولدت ولداً. فلما نشأ وكبر مات جده فاتفق رأيهم ان يجعلوه محل جده ويتبعوه الكل، ففعلو ذلك ولذلك سموا باﻷنساب”.[i]

         ثم يذكر النص بعض العادات المنتشرة بينهم كاتخاذهم سريراً يحملون عليه الملك وزوجه عند رحيلهم، وأنهم كلما عينوا سلطاناً زوجوه من نسل تلك المرأة.

         ويواصل يوسف فضل “ربط هولت مجيء هذا الرجل المبارك، وتعليمه لسكان لول آداب أكل أكثر تحضراً مما ألفوه بأسطورة (الغريب الحكيم) الذي يفد من وسط حضاري عريق إلى منطقة متخلفة، والتى مثل لها بملوك الفور وتقلي والنابتاب.[ii] والواقع أن هذه الرواية منتشرة بين عدد كبير من المجتمعات،الأفريقية بوجه عام،[iii] والسودانية على وجه الخصوص.

قد تختلف الموتيفات الروائية بين النسخ المختلفة لهذه الأسطورة في المجتمعات السودانية والأفريقية، إلا أنها تتفق في الموتيفة الأساسية أو الطراز المنشئ للأسطورة، فتدور هذه الأسطورة في وسط المجتمعات المسلمة في أفريقيا، كما هو الحال في السودان، حول دور الفقيه والمعلم العربي، الذي يفد إلى أفريقيا من بعض أجزاء الوطن العربي، ويرتبط بالأسرة الحاكمة ويعطيها العلم والدم العربي والثقافة الإسلامية. وتكتسب بفضله، وبفضل ما اكتسبت عن طريقه، مكانة مرموقة بين الأسر الأخرى. ويقوى بذلك تأثير هذه الأسرة في المجال الثقافي والإسلامي، وتزداد سطوتها في مجال الحكم، وربما في الهيمنة الاقتصادية. وبعد ذلك تنظر هذه المجموعات الإفريقية المسلمة إلى مرحلة ارتباطها بالغريب الحكيم على أساس أنها بداية نشأتها وتاريخها وتهمل كل ما سبق تلك المرحلة مع التركيز عليها وعلى ما يعقبها. ثم يبدأ أفراد هذه الأسرة يتحدثون عن أنهم عرب وأن هذا الغريب الحكيم هو جدهم وعن طريقه ينتسبون إلى العرب.[iv]

ولهذه الأسطورة ذيوع وانتشار كبيرين وسط المجتمعات السودانية، فبالإضافة للفونج، تتداول هذه الأسطورة بين الفور الذين يدعون عبرها الانتساب لبني هلال، كما يزعم البشاريون أنهم من نسل كاهل، وأن كاهلاً هذا يرجع بنسبه البعيد إلى الزبير بن العوام. وكاهل هذا هو جد الكواهلة الذين يعيشون في كردفان أيضاً. ويتفق البشاريون والكواهلةُ في الانتساب للزبيرِ بن العوام، وبعض التفاصيل الأخرى مثل انجاب كاهل لثلاثة عشر من الذكور، وأن أحدهم يُدعى بشار. والأخير هو جد البشاريين، وهو مجرد اسم فليس لدينا أو لدى البشاريين أنفسِهم أي خبر يدل عليه أو على أعماله. وأول اسم يأتي بعد بشار في تاريخ البشاريين هو اسم “كوكا” أحد أبنائه أو أحفاده. وتنتسب الأمرأر إلى جد مزعوم هو “أمر”. والراجحُ أنَّه محرفٌ من عمار أو عمر أو عامر، مضافاً إليه لفظ “أَر” وهي صيغةُ جمعٍ مفردُها “أُر” في اللغةِ التبداويةِ وتعني “ابن”. وبهذا المعنى يكون اسم القبيلة أبناء أمر أو عمار أو عمر أو عامر. وينتسبون أيضاً إلى الكواهلة، فيدعون أن جدهم “أمر” كان أحد أبناء كاهل، وكان أخاً غير شقيق لبشار جد البشاريين، وإن كان البشاريون يدعون أن “أمر” ليس أخاً لبشار وإنما أحد أبناء عمومته، وأنه عاش بعد بشار بعدة أجيال. وتدل بعض الروايات الأخرى أن “أمر” كان شقيقاً لـ”مرغم”، جد المرغوماب، ولـ”كمال”، جد الكمالاب، ولـ”كميل”، جد الكميلاب؛ إلا أن هذه الروايات لا تحدثنا عن والد هؤلاء الأخوة الأربعة.

أما الهدندوة فتتبدى عندهم أسطورة الغريب الحكيم بصورة أوضح، إذ يرجعون بنسبهم إلى أمير بجاوي عظيم يدعى “شكايتل” أو “شكايتلو”، كان ملكاً على البجه، ويوجد جبل الآن غرب سنكات يحمل اسمه. ثم أن بلادهم شهدت قدوم شريف عربي من الحجاز يدعى محمّد هداب. وكما هو متوقع فقد تزوج هذا الأخير من أميرة من أحفاد “شكايتل” وأنجب منها فتى يدعى محمّد مبارك، لم يلبث أن أَطلق عليه الهدندوة اسم محمّد براكوين أي محمّد الجرئ. ونلاحظ أن اسم الشريف العربي نفسه يتألف من اسم عربي “محمّد” واسم بجاوي “هداب” ومعناها الأسد. وتواصل الرواية في سرد درامي قصة زواج براكوين من فتاة عربية، أنقذها من خاطفيها الفونج، وقد أنجبت له سبعة أبناء تأصلت فيهم الدماء العربية. وتولى أحد أحفاده، ويدعى “ويلالي”، زعامة القبيلة العسكرية وهو جد الويلالياب، وتولى حفيد آخر، يدعى “سمرة”، الزعامة الدينية وإليه ينتسب السمرندواب. ولا يخرج نسب البني عامر المتداول بينهم عما سبق ذكره، فهم ينتسبون إلى رجل يدعى “عامر” قدم من الجزيرة العربية، وهو أيضاً من الكواهلة. وقد نزل بينهم وتزوج منهم على النحو الذي رأيناه عند الأمرأر وغيرهم.[v]

         وقد اعتمدت جُلّ الكتابات التاريخية، خصوصاً كتابات المؤرخين التقليدين والهواة، على هذه الرواية الشفاهية، دون تحقيق، لتفسر التحول الذي أحدثه تسرب الإسلام والمجموعات العربية في السودان. ولا غرابة في ذلك إذ أن هذه الأسطورة تمثل المرتكز الأساسي لروايات التاريخ الشفاهي المتداولة بين العديد من المجموعات السودانية، أو ما يمكن أن نسميه بالتاريخ القبلي.


المصادر:

[i]. يوسف فضل حسن، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي، سوداتك للطباعة، 2003، ص 66.

[iii] . درس البروفسير سيد حامد حريز انتشار هذه الأسطورة في أماكن مختلفة من الساحل الشرقي الأفريقي وفي المناطق الوسطى من بلاد السودان، وعلل سبب انتاجها وانتشارها برغبة المجموعات الإفريقية المسلمة في الارتباط بالعرب عرقياً وثقافياً. للمزيد أنظر: سيد حامد حريز، المؤثرات العربية على الثقافة السواحيلية في شرق أفريقيا، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص ص 110- 111؛ أنظر أيـضاً:          Sayyid Hamid Hrreiz, “The Legend of the wise stranger: an Index of Cultural Unity in the Centeral Bilad al- Sudan”, Institute for the Study of Languages and Cultures of Asia and Africa (ILCAA), Tokyo, 1986, pp 1- 13.                                                                                                   

[iv] . سيد حامد حريز، المؤثرات العربية، مرجع سابق، ص 111.

[v]. يوسف فضل حسن، “الوجود العربي في بلاد البجة: صفحة من سجل التمازج العرقي والثقافي في السودان”، مجلة جامعة البحر الأحمر، العدد الأول، أكتوبر، 2010، 2، ص ص 9- 37.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *