هِجرةُ الأرواح -مِن سُكّتو إلى أرضِ الصوفيين الذهبية (مايرنو)

على بعد 15 كيلومتراً جنوب شرق سنار، حيث يلتقي النيل الأزرق بسهول السافنا، تقع مدينة مايرنو – حكايةُ هجرةٍ كتبها رجالُ دولة سكتو الإسلامية عام 1903، حاملين مشعلَ الإيمانِ ومُرسِّخينَ ثقافةً صوفيةً فريدةً في عمقِ السودان.

بعد سقوط خلافة سكتو (شمال نيجيريا وجنوب النيجر) تحت الاحتلال البريطاني، قاد الشيخ محمد بيلو مايرنو موجاتِ الهجرةِ نحو السودان، رافضاً مُهادنةَ المُستعمِر. اختار رجاله الهجرةَ كخيارٍ جهاديٍّ بديلٍ عن الحربِ المباشرة، حاملين معهم تراثاً إسلامياً أنتشر عبر مدارسهم القرآنية. اليوم، تضم المدينة 70 خلوةً تعليميةً تُخرّج حُفّاظَ القرآن، و4 مساجدَ تاريخيةٍ تتسع لعشرين ألف مصلٍّ، و40 زاويةً صوفيةً تُحيي طقوسَ الذكرِ على الطريقة التيجانية والقادرية.

في قلب المدينة، يتربّع قصرُ سلطان الفلاتة الشيخ “أبو بكر محمد الطاهر” – رمزُ الوحدة الروحية للفولاني في إفريقيا. لكنّ السرَّ الأكثر إثارةً يَكمن في منزل السلطان الراحل “الأمين أحمد كَرْقو”، حيث يُحاط قبرُه بتمساحٍ عجوزٍ مُقيَّدٍ بقفصٍ حديدي. تروي الأسطورة المحلية أن التمساحَ يَغادرُ قفصَه ليلاً ليسبح في النيل، ويعود عند الفجر!

في أزقة مايرنو الضيقة، يعيش الشيخ “فؤاد الأمين كاغو” – حفيدُ السلطان الأمين – داخل منزلٍ تُزيّنه أعشابٌ نادرةٌ وثعبانٌ مُحنَّط، يؤكد كخريج متخصّص في اللغة العربية من الأزهر الشريف أن معرفتَه مستمدةٌ من الطريقة التيجانية: “نُعالج بالسُّنَنِ القرآنية والأعشاب الطبيعية، مثل عروق الزواج النادرة”. الغريب أن زبائنه يشملون رياضيين من أندية عربية تُقصد المدينةَ طلباً للبركة!

تُشكّل قبائل الفولاني 71.7% من سكان المدينة، الذين حافظوا على لغتَيْ “الهوسا” و”الفولاني” إلى جانب العربية. تنقسم هذه القبائل إلى مجموعتين رئيسيتين:

  • الفولاني الحضريون (سكوتو): يتحدثون الهوسا، وهم ورثةُ النخبةِ التعليمية والتجارية.
  • الفولاني الرُّحل (دادجي): يحتفظون بلهجتهم الأصلية، ويمتهنون الرعيَ والزراعة.


هذا التنوعُ العرقي – مع وجود أقلياتٍ من الزبرما والبرقو – جعل المدينةَ نموذجاً للتعايش، تُديره مجالسُ شيوخٍ محليةٌ منذ عشرينيات القرن الماضي.

  • العمارة: 80% من منازلها مبنيةٌ من الطين، تحاكي تصميمَ القرى الإفريقية القديمة.
  • الاقتصاد: تعتمد على الزراعة التقليدية (الذرة، السمسم)، مع تراجعٍ ملحوظٍ في سوقها التاريخي.
  • التعليم: تحتضن 5 مدارسَ ابتدائيةٍ ومدرستين متوسطتين، لكن الهجرةَ الشبابيةَ تُهدّد استمرارَها.

تُقرأ مايرنو بعيداً عن السحرية والفانتازيا كحارسةٍ لِزمنٍ يرفضُ الرحيل. مدينةٌ تتنفّسُ بِرئتَين: أُولاهما تَعبقُ برائحةِ التُرابِ الإفريقيِّ العتيق، وثانيتهما تَصهُرُ أنفاسَ الصوفيِّينَ الذين حوّلوا الهِجرةَ إلى قصيدةٍ دينيّة. هنا، تَسبحُ التماسيحُ في أقفاصِ الحديدِ كأساطيرَ حيّة، وتُخفي الأعشابُ النادرةُ بينَ طيّاتِها شِفاءً للجسدِ وحِكمةً للأرواح. ووَجهةٌ لِمن يَجرُؤونَ على استنطاقِ الذاكرةِ الأفريقيّةِ المثقلةِ بِالغموضِ والجمال. في أزقّتِها الطينيّة، تَتلاقى هِجراتُ الفولانيِّينَ مع صَلصَلةِ أسلحةِ الاستعمارِ البائدة، وتَتحدّثُ الجُدرانُ بِلُغةِ التصوفِ عن مدينَةٍ تَحملُ الإسلامَ في قلبِها، والأساطيرَ.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *