المرثية الأخيرة

·

·

,

في دكان الترزي عبد الرحيم أحمد بود مدني، كان هناك رجل يرقد على سجادة صلاة متكئاً على ظهره يضع كرتونة أسفل رأسه، كانت مهنة ذلك الرجل هى خياطة (الزراير) للجلاليب الجديدة. إسمه علي المسَّاح، أحد أعضاء أخوية سرية، عُرِفت فيما بعد باللواء الأبيض، نسبة لقماشة بيضاء عليها خارطة جريان النيل، كان قادراً بشكل ما على خياطة الثقب الزمني و فتقه، عبر قصائد سرية كان يكتبها على ورق السجائر، سجلت محاضر الكراكون غيابه لليلتين كاملتين، وعند إستجوابه كان يقول لهم أعطوا عبيد حاج الأمين الكلور كوين لكيلا لا يموت بالملاريا السوداء.

سُجل في محضر إستجوابه ما قيل، و بعد شهر جاء النعي من مدينة واو التي تبعد عن العاصمة ٩٠٠ كيلومتر، إستغرق المسّاح في البكاء، ثم أمسك بماكينة الخياطة ليفتح زمناً جديداً، ففي القاهرة في مصح نائ، كان الأطباء يحقنون الرجل الأسود بعقاقيرهم المهلوسة، لكي يتوقف عن ترديد أغاني خليل فرح، لكن جبة الرجل الصوفية ذات العشرين فتحة، كانت الشيفرة الخاصة بالإسكافي المسكين، يصنع فتقاً كبيراً في جلابيته، فتقاً يصله بشارع الأربعين في أمدرمان، حيث يقف ولد أخير بلا أغنية ترثيه، بملابس عادية، أمام عربات بوليس، يرفع إصبعيه و في الضفة الأخرى من الزمن، يجلس علي المسَّاح، ليكتب مرثية لولد لم يولد بعد، كانت تحمل إسم عبدالعظيم، عند مرور الكراكون الذي ينزعها من يده، و يمزقها، كما مزقت أغانيه الوطنية المجهولة، ليصلنا مما كتب بضع أغاني إحداها إسمها يا زمني الخائن التي يغنيها إبراهيم عبدالجليل.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *