(حرائق) لا يمنحُ المشاهد إجاباتٍ جاهزة، بل يتركك تعلق بالداخل، ومما يعزز فرضية الحبس، هنالك مشاهد سينماتوغرفي لن تنساها. عن رواية لهاروكي موركامي إسمها حرق الحظائر
بغضِّ النظر عن الجدل عن ما إذا حصلت جريمة بالفعل أم لا، يُخبئُ الفيلمُ في طياته عوالمَ رمزيةً غنيةً تَستحقُ التأملَ والتفكيك. فإلى جانب الإشارات المُتكررة إلى البيوت الزجاجية وارتباطها بلغة النار، تطفو على السطح إيحاءاتٌ أخرى عميقة: كالجوع الوجودي الذي تشبِّهه “هاي مي” باللهيب، أو التسمية الغريبة لقطتها “بويل” (الغليان) – يمثل الجوع أحد ثيمات هاروكي موراكامي التي ظهرت في قصته القصيرة غارة المخبز الثانية.
على الهامش “لي جونغ سو”
يعيش البطل “لي جونغ سو” على هامش الحياة، يتنقل بين وظائفَ مؤقتةٍ بينما يحلم بأن يصير كاتباً. تقطعه الحياةُ في مدينة “باجو” الريفية شمال سيول، التي تقعُ على حافة الحدود مع كوريا الشمالية، حتى إنكَ أحياناً تسمعُ صفارات الإنذار وخطاباتَ النظام الشمالي تُلامسُ الأفق.
نقطة الغليان – القط Boil والجارة القديمة
لكن مصيرَ جونغ سو يتغيرُ يومَ يلتقي صدفةً بـ”هاي مي”، الجارةَ والزميلةَ القديمة، أثناء عمله في توصيل الطلبات. لم يتعرف عليها بدايةً، حتى كشفت له أنها خضعت لجراحة تجميلية غيرت ملامحها. خلال لقائهما، تطلب منه “هاي مي” رعايةَ قطتها “بويل” أثناء سفرها المفاجئ إلى إفريقيا، فيوافقُ جونغ سو، الذي بدأ يتعلق بها، وينتهي الأمرُ بينهما إلى علاقةٍ جسدية عابرة.
عند عودته إلى “باجو”، يواجهُ جونغ سو محاكمةَ والده، بينما يبدأ بزيارة شقة “هاي مي” يومياً لإطعام القطة. رغم شكه في وجودها بدايةً، إلا أن فضلاتها في الصندوق تقنعه بأنها حقيقية. لكن الغرفةَ الشاهدةَ على عزلته تتحولُ إلى فضاءٍ لرغباته المكبوتة، في مشاهدٍ غريبٍة تنسجمُ مع شخصيته المُنهارة.
“بن”.. الغريب الذي يحملُ ناراً في كلماته
من اللحظة الأولى، يبدو “بن” تهديداً وجودياً لجونغ سو. نبرتُه المُريبة في الكلام (التي كشف الممثل “يون” لاحقاً أنها ناتجة عن عدم إتقانه الكورية، فحوّلها المخرجُ إلى عنصرٍ لإضفاء الغرابة) تجعلُ منه شخصيةً مُربكة.
الجوع الكبير
تتوالى اللقاءات بين الثلاثي، وتتكشفُ فلسفة “هاي مي” الباحثة عن معنىً للحياة، التي تُجسدها رحلتها إلى إفريقيا وحديثها الشهير عن “الجوع الكبير”. لكن المشهد الأكثرَ إثارةً هو رقصها عارية الصدر تحت غروب الشمس، بينما يراقبها الرجلان، في لقطةٍ تُختزلُ فيها الصراعاتُ الخفيةُ والرغباتُ المُعلَّقة.
في لقاء في مزرعة ريفية وبينما تغرب الشمس، يطلِقُ “بن” اعترافاً غامضاً: إنه يحرقُ بيتاً زجاجياً كل شهرين. وعندما يسأله جونغ سو عن موعد الحرق التالي، يجيبه:
-“قريباً جداً”.

تختفي “هاي مي” فجأةً بعد اتصالٍ مُريبٍ تسمعُ فيه أصواتاً غامضة. تتحول شقتُها إلى مكانٍ مُرتبٍ بشكلٍ مريب، بينما يظهر “بن” مع امرأةٍ جديدةٍ ويُلمِّحُ إلى أنه أحرقَ بيتاً زجاجياً قريباً من منزل جونغ سو.
الأدلةُ تتكاثرُ: ساعةٌ ورديةٌ كان جونغ سو قد ربحها في السحب، وقطةٌ تستجيبُ لاسم “Boil” – الغليان، لكن السؤال يظلُّ معلقاً: هل قتلها “بن” أم أنها قررت الهروبَ من كل شيء؟
البارانويا تشتعل
ينتهي الأمرُ بجنونِ الشكِّ إلى مشهدٍ مأساوي: يطعنُ جونغ سو “بن” ويُشعلُ النارَ في سيارته، وكأنه يُحاولُ إحراقَ كلِّ الألغاز التي لم يُجِبْ عنها الفيلمُ، تاركاً المشاهدَ في مواجهةِ اللهبِ الداخلي الذي لا ينطفئ.
هكذا يصنع “لي تشانغ دونغ” فيلماً لا يُشبه سوى نفسه، حيثُ تذوبُ الحقيقةُ والخيالُ في بوتقةِ الفنِّ، وتصيرُ النارُ لغةً للتعبيرِ عن كلِّ ما هو كامنٌ في الأعماق.

اترك تعليقاً