من بشر إلى تماسيح

·

·

,

في عالم الحيوانات، يبرز التمساح ككائنٍ غامضٍ ومرعب. التمساح، الذي يعتبره البعض رمزًا للقوة والدهاء، له حكاياتٌ خاصةٌ في الثقافة السودانية. يمتلك التمساح قدرةً مذهلةً على تقدير المسافات بدقة، مما يجعله صيادًا ماهرًا. عندما يترصد التمساح فريسته، يغطس في الماء ثم يظهر فجأةً أمامها، مما يجعلها عاجزةً عن الفرار.

في الإنشاد القديم في وادي النيل :

أنا التمساح المقدس الذى يلقى الرعب فى القلوب .
أنا التمساح المقدس ,
أنقض على ضحيتى كوحش أسود اللون .
أنا السمكة العظيمة القوية فى مدينة “كِم ور” .
أنا الذى تنحنى له الهامات و تبجله المخلوقات
وادي النيل – كتاب الخروج للنهار (فصل رقم 88) -فصل التحول إلى تمساح ◄

في كتاب “ما وراء السودان الحديث” للمؤلف البريطاني هنري سيسل جاكسون، نجد وصفًا دقيقًا لظاهرة الطوطمية، وهي علاقةٌ روحيةٌ ذات طابعٍ طقسيٍّ تربط بين قبيلةٍ أو عشيرةٍ وبين حيوانٍ أو طائرٍ أو نباتٍ يعتبرونه رمزًا وحاميًا لهم. هذه الظاهرة، التي تمارسها العديد من القبائل البدائية حول العالم، تظهر في السودان بصورٍ متنوعةٍ ومثيرةٍ للاهتمام.

يورد جاكسون في كتابه حكايةً غريبةً عن رجلٍ من بحر الغزال استطاع أن يستدعي تمساحًا من النهر، فيتبع الرجل إلى كوخه ليأكل طعامًا ثم يعود إلى النهر في هدوء. هذه الحكاية، التي قد تبدو خياليةً للبعض، تعكس اعتقادًا راسخًا لدى بعض القبائل بقدرة الحيوانات على التفاهم مع البشر.

يذكر الصيادون حكاياتٍ عن تمساحٍ ضخمٍ مبتور الذراع كان يعتاد مهاجمة مراكب الصيد واستهداف الصيادين. هذا التمساح، الذي أطلق عليه اسم “الجاسر”، كان قد تذوق لحم البشر وأصبح يترصدهم بلا رحمة. هذه الحكايات تعكس اعتقادًا بأن التمساح، مثل البشر، يتأثر بمن حوله ويطور استراتيجياتٍ للصيد قد تفوق دهاء البشر أنفسهم.

يذكر جاكسون أن قبائل اللاتوكا والأشولي تؤمن بقدرة بعض أفرادها على التحول إلى حيواناتٍ مثل المرافعين والأسود خلال الليل. هذه الاعتقادات ليست مجرد خرافات، بل لها جذورٌ عميقةٌ في الثقافة السودانية، حيث تمت محاكمة بعض الأفراد بتهمة التحول إلى حيواناتٍ أمام محاكم السلاطين.

في السودان، تنتشر حكاياتٌ لا تُحصى عن تحول “التيمان” (القطط) ليلاً إلى “كدايس” (كائناتٍ شبيهةٍ بالقطط ولكنها ذات طبيعةٍ سحرية). هذه الحكايات، التي قد تبدو خياليةً، تعكس اعتقادًا راسخًا بقدرة بعض الكائنات على التحول والتخفي. كما يذكر جاكسون حكايةً عن طفلةٍ كاد أهل قريةٍ في جنوب النيل الأزرق أن يقتلوها بسبب اتهامها بالتحول إلى حيوانٍ ليلاً، لولا تدخل المفتش البريطاني الذي أبطل التهمة.

في عالم السحر والغموض، تظهر حكايات “البعاعيت”، وهي قصصٌ عن أشخاصٍ يتم دفنهم ثم يعودون إلى الحياة في منطقةٍ أخرى. هذه الحكايات، التي تنتشر في كل أنحاء السودان، تعكس اعتقادًا بقدرة بعض الأفراد على تجاوز الموت والعودة إلى الحياة بشكلٍ غامض. يروي مصدرٌ موثوقٌ حكايةً عن سجينٍ في سجن الفاشر كان محكومًا عليه بالإعدام، وأكد طوال الوقت أن الحكومة لن تستطيع إعدامه. وفي صبيحة يوم الإعدام، وجدوا قيوده مفتوحةً ولم يجدوا أي أثرٍ للسجين. بعد سنوات، التقى أحد حراس السجن بالسجين في نيالا، فسأله كيف استطاع الهروب، فضحك الرجل وقال: “بقيت حدية” (أي بقيت حيلة)

أماكن إنتشار المحكيات:

تقع قرية “ناوا” على الضفة الشرقية لنهر النيل في شمال السودان، وهي محاطة بهالة من الغموض والأساطير. تتحدث الروايات المحلية عن وجود سحرة يُعرفون بـ”السحاحير”، يُعتقد أنهم يمتلكون قدرات خارقة، بما في ذلك التحول إلى تماسيح. إحدى القصص الشهيرة تروي أن أحد هؤلاء السحرة تحول إلى تمساح،.

في مدينة مايرنو بولاية سنار، تروى حكاية عن تمساح كان يملكه السلطان الأمين أحمد كرقو. يُقال إن هذا التمساح كان يخرج من قفصه الحديدي ليلاً، يسبح في النيل الأزرق، ثم يعود إلى قفصه قبل بزوغ الفجر. استمرت هذه الظاهرة لمدة 60 عامًا، مما جعل التمساح رمزًا للغموض والقوة في المنطقة.

تحتل التماسيح مكانة خاصة في المعتقدات السودانية، حيث تُعتبر كائنات ذات قدرات روحية. تُروى قصص عن تماسيح تستجيب لنداءات الشيوخ، خاصة عندما يُعتقد أن شخصًا ما غرق وأكله تمساح. في مثل هذه الحالات، يُنادى على التمساح باسم الشيخ، ويُطلب منه إعادة الجثة، فيستجيب التمساح بإعادتها.

في أحد الطقوس المعروفة، يُطلب من التماسيح إعادة جثث الغرقى، حيث يُنادى على التمساح باسم شيخ أو ساحر معروف. تكرار هذه الطقوس عبر الأجيال يعزز من مكانة التمساح ككائن يتجاوز حدود الحيوانية ليصبح جزءًا من المعتقدات الروحية.

الصراع الأسطوري بين القوة الدينية والأسطورة:

يروي أهل المنطقة قصة الشيخ الحسين ود شنان، وهو أحد الأولياء الذين اشتهروا بكراماتهم، حيث تمكن من قتل تمساح ضخم كان يرهب السكان في المنطقة. تقول الحكاية إن الشيخ دعا الله أن يعينه في التغلب على هذا الكائن، فتوجه إلى النهر حاملاً عصاه، وعند مواجهة التمساح، ألقى عليه دعاءً خاصًا، فتحول التمساح إلى جثة طافية على سطح الماء.

كرامة الشيخ الطيب والتمساح الغارق

في إحدى القرى الواقعة على النيل الأزرق، تتحدث الحكايات عن الشيخ الطيب ود بدر، الذي اشتهر بقدرته على التعامل مع التماسيح الغريبة التي تهاجم السكان. يُروى أن تمساحًا ضخمًا كان يترصد الصيادين ويمنعهم من الاقتراب من النهر. عندما علم الشيخ بالأمر، خرج بنفسه إلى ضفة النهر وواجه التمساح بعزيمة.

وفقًا للروايات المحلية، فإن الشيخ استخدم القرآن وألقى بعض الآيات على التمساح، الذي استدار فجأة وغرق في أعماق النهر. لم يظهر التمساح مجددًا، وأصبح الشيخ الطيب رمزًا للحماية والتقوى في المنطقة.

الشيخ العركي والتمساح الحامي

في منطقة الجزيرة بالسودان، تدور قصة عن الشيخ العركي، الذي كانت له علاقة غريبة مع التماسيح. يقال إن أحد التماسيح الكبيرة كان يحرس ضفة النهر التي تقع بالقرب من مقام الشيخ. هذا التمساح لم يكن يؤذي أحدًا، بل كان يُنظر إليه كحامٍ للقرية. ومع ذلك، عندما بدأ السكان يشكون من ظهوره المتكرر، خرج الشيخ إلى النهر ودعا التمساح أن يرحل، واختفى التمساح بعد ذلك إلى الأبد.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *