خالد مصطفى إسماعيل
قراءة حول كتاب مملكة تقلي – سنين التيه
في بيئة جبلية تحفها السهول، أو بيئة سهلية تحفها الجبال، تنتشر قرى منطقة تقلى على امتداد المنطقة المعروفة بتقلي القديمة ( تقلي ارو) وهي المنطقة التي شكلت نواة مملكة تقلي التي امتدت واتسعت فيما بعد لتشمل معظم المنطقة المعروفة الان بجبال النوبة وجزء من شمال كردفان والنيل الأبيض.
في البدء كان السكان هنا بدائيون، يدينون بالديانات التقليدية ( الكجور والسبور)، ويتحدثون لغاتهم الخاصة، قبل أن تتغير حياتهم رويدا رويدا ويعتنقون الدين الإسلامي الذي أتى به المتصوفة الي تلك البقعة الأفريقية البعيدة في قلب الجبال منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي .
اول ما تعلمه الناس من العادات والعبادات في بداية الدعوة الإسلامية هو ( الصلاة).
ففي بداية الدعوة، كان الناس( يصلون ) بالرغم من عدم معرفتهم باللغة العربية وطبيعة الدين الإسلامي، فكان المك هو الإمام الذي يصلي بالناس، فعندما ( يركع) المك أو ( يسجد) يقول المأمون للناس :
( ايلق جرين، جرين دادن) وترجمتها ( المك رقد ، ارقدوا)
( ايلق ارول، رول دا دن) وترجمتها ( المك قام ، قوموا ).
ثم بعدها تعلموا يقولون ( الله اكبر) ولكن ب( لكنة) اعجمية مبينة هكذا (كبر كبر)، فكانوا عندما يقومون للصلاة يقولون ( كبر كبر على ذمة أبوهيامة)، و ( أبوهيامة) هذا من اوائل المتصوفة الذين جاؤا بالدعوة إلى جبال تقلى مصاحباً لفقيه يدعى محمد الجعلي الذي أصبح له شان في تقلي فيما بعد حيث تزوج ابنة مك تقلي وأصبح ابنه من هذه المرأة مكاً لتقلي ومن بعده احفاده.
وتقول الاسطورة ان الناس كانوا يقدمون سنوياً فتاة قرباناً لبئر ماء حتى تفيض، وكانت الفتاة التي ستقدم قرباناً في ذلك العام هي ( بنت المك) وتدعى ( كيني) وكيني هو اسم الدلع ل ( كاني) واسم ( كاني) يطلق على البنت التي يكون ترتيبها الثاني في الأسرة ، وعندما نريد أن ندلعها نقول لها ( كيني).
المهم لحسن حظها، أو لحظ هذه البنت السعيد وصل هؤلاء المتصوفة سائحين من بلاد الرباطاب الي ذلك المكان ووجدوا الفتاة، ( الرباطاب من المجموعة” الجعلية” الكبيرة في السودان، و تنتمي إليها كل من ” الجعليين ,الرباطاب، الميرفاب، الشايقية، البديرية” وقبائل اخرى مثل الاشراف المغاربة,والشكرية , الدباسين , والبطاحين,الجموعية, الجوامعة المناصير, … الخ ) وهي قبائل مستعربة تسكن شمال ووسط السودان. ويقولون انهم ينتمون الى جد يسمى ( إبراهيم جعل ) ويصل نسبهم الى العباس بن عبد المطلب عم النبي محمد ” ص” ).
عندما وصل هؤلاء المتصوفة إلى المكان ووجدوا الفتاة، اندهشوا، فأشارت الفتاة إليهم بأن ابتعدوا لان هناك خطر، ولكن المتصوفة لم ينصاعوا لها، ووقفوا يراقبون المشهد، عندها خرج ثعبان ضخم من البئر وأراد أن يلتهم الفتاة، فأسرعا اليه وقتلاه بسيفيهما، واصطحبا هذه البت التي دلتهم إلى مكان أهلها، فاستنكروا ذلك الفعل وخافوا ان لا يفيض الماء ذلك العام، مما يهدد حياتهم بالخطر، ولكن المتصوفة أخبروهم بأن الماء سيفيض، فوضعوا لهم شرطاً ان يمكثوا معهم حتى العام القادم، اذا فاض الماء تركوهم وشانهم واذا لم يفض قتلوهَم، فقبلوا بالشرط ومكثوا معهم ، وكانت فرصة لهم لتعليم الناس الإسلام، وأصبحوا يعملون في الدعوة، وتزوج الفقيه محمد الجعلي من تلك الفتاة ( فتاة البئر)، وتزوج صحبه ابوهيامه من فتاة أخرى من اهل البلد، فطاب بهم المقام، ومرت السنوات والماء يفيض كل عام أكثر من ذي قبل، ودخل كثير من الناس في الدين الإسلامي وتعلموا القرآن، وبالمقابل تعلم محمد الجعلي وصحبه أبوهيامة اللغة المحلية من أجل التواصل مع الناس ونشر الدعوة.
وأنجب محمد الجعلي أبناً سمي ب( عمر) ولقب ب ( عمر ابوجريدة)نسبة لالتصاق عظمتي يده.
تربي هذا الابن في كنف جده من أمه مك تقلي، وأبيه الفقيه محمد الجعلي فاكتسب الثقافتين ( الثقافة المحلية والثقافة العربية) فهو أصلاً هجين من عنصرين، واكتسب ثقة كبيرة.
وعندما توفي المك كان من عادة الناس ان يستصحبوا كل من لديه علاقة بالمك ثم يطلقون طائراً مقدساً، والذي يحط عليه الطائر يصبح المك الجديد ويبايع من الجميع، ومن سخرية القدر كان ابن محمد الجعلي الرباطابي من بين الحضور لان المك جده من أمه وفي الثقافة النوبية القديمة لايفرقون بين ابن الولد وابن البنت ، بل يورثون السلطة عن طريق الأم .
ومن سخرية القدر ايضاً ان الطائر حط في ابن هذا الرجل الغريب (عمر ابوجريدة) في إشارة إلى أنه سيصبح المك الجديد فكانت الدهشة، واعتقدوا ان الطائر قد أخطأ وتشابه عليه البقر، فكان هذا اخر ما يتوقعه الناس، فلم يكن في مخيلتهم ان يصبح ابن هذا الغريب مكاً، لذلك كرروا عملية الإطلاق عدة مرات، وفي كل مرة يصر الطائر ان يحط في عمر ابو جريدة ابن بنت المك من الرجل الغريب. فصاحوا ( ايلق تروقو اندي) و ترجمتها ( الملك جاء إليه) اي أتته السلطة، ولقب ب ( جيلي) وتعني ( جاء إليه). و بايعوه مكاً لتقلي فأصبح أول مك مسلم لتقلي.كان ذلك حوالي عام 1560 م.
ومع مرور الزمن واكتساب الناس لغة جديدة هي لغة الإسلام أكسبتهم فرص التعامل مع مجتمعات كثيرة متحدثة بالعربية، مع تمسكهم بلغتهم الأم. وأصبحوا يتحدثون ( اللغتين) بطلاقة مع ازدياد معرفتهم بالإسلام والقرآن .
ونتيجة لذلك حدثت تغيرات كثيرة في حياتهم، أول هذه التغيرات تغيرت أسمائهم،فأصبح الشخص الواحد يحمل اسمين اسم بلغته المحلية واسم باللغة العربية يحدده رجل دين مسلم.
كانت الأسماء باللغة المحلية تسمى بطريقة معينة حسب ترتيب الأبناء في الأسرة ، فكانت تسمية الأبناء الذكور تتم كالآتي :
( كريا/ كودي/ كالو/ كومي/ كمانق/ كاوا/ كلورو/ كميمي.).. الخ
بالترتيب فالابن الأول يسمى ( كريا) وهكذا بقية الأسماء.
والاناث يسمون كالآتي :
( كاما/ كاني/ كوجي/ كاباي/ كيرو/ كودو/ كديك).. الخ
بالترتيب أيضاً الابنة الأولى تسمى ( كاما) وهكذا.
ولكن بعد دخول الإسلام، أصبح الناس يحملون اسمين كما ذكرنا، فكثيرا ما تسمع ( كودي عثمان) أو ( كريا على) أو ( كاما مريم) أو ( كودو فاطمة).. الخ.
ثم في تطور لاحق استغنى بعض الناس عن الاسم المحلي وأصبحوا يسمون اسماء عربية فقط فتسمع محمد وابوبكر وعلى وطلحة وحواء.. الخ.
ومن الأشياء التي تغيرت بعد الإسلام أيضاً ، طريقة اختيار الحاكم ( المك) فبدلاً أن يتم اختيار المك عن طريق الطائر، قام عمر ابوجريدة بتوريث الحكم مباشرة إلى ابنه على الطريقة العربية الإسلامية. ولغي الطريقة القديمة.
وثالثا تغيرت طريقة تسمية ( خشوم البيوت) دون المساس بأسماء خشوم البيوت القديمة فقد تركوها في حالها، وكانت خشوم البيوت القديمة ( ممالك صغيرة ) كلها تبدأ بحرف ( التاء) مثل ( توتقوي، توراي ، تونت، تاوور، تومالي، تاجبة ) وهؤلاء يعرفون بالكجاكجا أو “تقلي كجاكجا” و ( تقوم ” رشاد ” ، تقوي، تكم، ترجك ) . و أيضاً اسماء القرى والمناطق كلها تبدأ بحرف التاء، ولا ندري ما السر في حرف التاء هذا.
ولكن قام عمر ابوجريدة وأبناءه واحفاده من بعده بتكوين خشوم بيوت جديدة تنتهي بالمقطع (آب) على طريقة التسمية الموجودة في شمال السودان، فأصبحت خشوم البيوت الجديدة تعرف ب( لبجاب، كيكياب، كرجاب ، كوناب، مسراب ، جيلاب، عيجاب ، جزيراب، عمراب، مرزوقاب، سوكراب، عبدلاب، عجيجاب).
تأثير مملكة الفونج ادخل خشم بيت في تقلي يسمى ( رندونقا) وتأثير مملكة الفور ادخل خشم بيت يسمى ( جد العيال).
الغريب في الأمر يعتقد السكان الأصليين هنا أنهم خرجوا من هذه الأرض، فعندما تسألهم عن تاريخ وجودهم في هذا المكان يقولون ( نحن خرجنا من هذه الواطة) هكذا أخبرنا أجدادنا.
ولا تدري هل هي الفلسفة الدينية التي تقول ان الناس خلقوا من تراب. أم انه دلالة على انهم لم ياتوا من مكان آخر وانهم خلقوا هنا.
ولتفسير هذا الكلام ذكر لي أحدهم ان الأجداد القدماء في العصر الحجري القديم كانوا لا يبنون بيوتاً، ويسكنون في الكهوف وهي محفورة في الجبال فربما رواية الأجداد صحيحة بأنهم خرجوا من الأرض ( الجبل) وتداولت الأجيال المتعاقبة هذه الرواية إلى أن وصلتنا.
وفي مرحلة لاحقة تعلم الناس بناء البيوت، فكانوا يبنون من الأحجار والأشجار بيوتاً، ثم تعلموا البناء الحديث مع دخول الحداثة.
يتحدثون لغتين محليتين أساسيين هما ( لغة الكجاكجا) ويتحدث بها خشوم بيوت الكجاكجا التسعة بالإضافة إلى رشاد ” تقوم” ، و( لغة تقوى) ويتحدث بها تقوى وتكم وترجك، وتصنف هذه اللغات ضمن المجموعات اللغوية العشرة في جبال النوبة، فمنطقة جبال النوبة توجد بها أكثر من ثلاثين لغة محلية صنفت إلى عشرة مجموعات رئيسية و كل مجموعة تضم عدد من القبائل التى تتشابه لغاتها وموروثاتها . والمجموعات هي :
١- مجموعة الاجانق ٢- مجموعة النيمانج ٣ – مجموعة كتلا
٤ – مجموعة تلشي وكادقلي ٥ – مجموعة تيمن
٦ – مجموعة كواليب ٧ – مجموعة لفوفا ٨ – مجموعة داجو
٩ – مجموعة تالودي والمساكين ١٠ مجموعة تقلي.
توسعت المملكة، وشملت كل منطقة وقبائل جبال النوبة، ووفد إليهم كثير من الناس في مراحل مختلفة، من ممالك الفونج والفور و المسبعات و الشلك، وقبائل جنوب السودان، ، وعلماء الدين والمتصوفة من الحجاز و بغداد ومصر وشمال أفريقيا وشمال ووسط وغرب السودان،و التجار الجلابة من شمال ووسط السودان وصعيد مصر، وجزء من القبائل العربية التي كانت تجول بحيواناتها مثل كنانة، والكواهلة، وأولاد حميد، والحوازمة، والهبانية، والاحامدة، والجمع. ومجموعات من ممالك غرب أفريقيا مثل البرقو، و البرنو، و الهوسا، والفلاتة. فاستقبلوهم جميعاً وأعادوا تنظيمهم، وصهروهم في داخل المجتمع والمملكة، وطبعوهم بطبعها. وعاشوا حياة هانئة ورخية في تكامل واندماج دون أن يعكر صفوهم شئ .
ومن أشهر المتصوفة الذين جاؤا إلى تقلي الشيخ تاج الدين البهاري الذي جاء من بغداد إلى سنار وتقلي في القرن السادس عشر، ونشر الدين الإسلامي والطريقة القادرية ، والشيخ حسن ود حسونة، والشيخ التلمساني من الحجاز، والشيخ مختار ابوعناية، وأولاد ابوصفية الشيخ بدوي والشيخ عبد الصمد والشيخ شرف الدين، والشيخ دفع الله ود بقوي، والشيخ إسماعيل البصيلي بن الشريف يومان، والعالم طه، واحفاد الشيخ عبد الرحيم القيناوي من مصر، والإمام محمد أحمد المهدي، وشيوخ الختمية، والشيخ محمدين ابارو. ومن دارفور جاء الشيخ أحمد كوزا، والشيخ تميم، والشيخ آدم سليمان، والشيخ عبد الرازق وابنه داؤد والشيخ محمد عبد الله البرناوي وغيرهم.
واحتفظوا بعلاقات طيبة مع كبار المتصوفة في السودان وصاهروهم وبذلك أصبح عدد كبير من المتصوفة لديهم علاقة جينية بتقلي عن طريق أمهاتهم حيث أمهاتهم من تقلي منهم الشيخ عبد الله العركي المصوبن ، والشيخ فرح ود تكتوك، والشيخ إسماعيل (صاحب الربابة) ود الشيخ مكي الدقلاشي ، والشيخ حمد النحلان ود الترابي، والشيخ عبد المحمود نور الدائم ( رجل طابت) ، والشيخ عبد الله ود العجوز، وأبناء الشيخ برير ود الحسين (رجل شبشة) الشيخ الطيب والشيخ التوم والشيخ النور ، وغيرهم.
وبعد نهاية الثورة المهدية وإعادة بناء تقلي ظهر متصوفة محليين كالشيخ إدريس كصوصنج، والشيخ آدم ود رشاش، والشيخ محمد ود نجر، والشيخ اللخمي ، و الشيخ احمد ود كمانق وغيرهم.
وتقلي تعج بالطرق الصوفية بمختلف شيوخها و راياتها اشهرها الطريقة القادرية، والطريقة السمانية، والطريقة التجانية، والطريقة الادريسية الأحمدية، والطريقة الختمية.
ضربوا أروع الأمثال الفريدة في التاريخ الإنساني أثناء حربهم مع الفونج، فعندما هاجمهم جيش الفونج نتيجة لخلاف بين مك تقلي ومك الفونج، كان اهل تقلي ( يقدمون الطعام للجيش الغازي ليلاً ويحاربونه نهاراً)، فكانت المعارك تدور طوال فترات النهار حتى إذا جاء الليل وانتهت المعارك ارسلوا لهم الطعام حتى ياكلون ويشبعون، لأنهم اعتبروهم ضيوفهم، وأهل تقلي يكرمون الضيف حتى لو كان غازياً. وعندما علم الفونج بذلك خجلوا وانهوا القتال وقالوا قولتهم المشهورة ( لايبغي لنا ان نحارب قوم هذه هي اخلاقهم) ، فانتهت الحرب بالصلح .
قاوموا الاستعمار التركي الذي غزا السودان في حوالى منتصف القرن التاسع عشر واستمر لحوالى ستة عقود ( ١٨٢١ _ ١٨٨٥ م) , وهزموا الاتراك في عدة معارك واستطاعوا ان يصدوهم ويبعدوهم بعيداً عنهم و يعيشوا أحرارا. و ظلوا مستغلين عن سلطة الأتراك وعن الضرائب الباهظة التي فرضها الأتراك على بقية السودانيين، واستقبلوا السودانيين الفارين من جحيم الأتراك وطغيانهم وقدموا لهم الحماية والأمن وسبل الحياة واستفادوا منهم ايضاً.في وقت كانت فيه كل أجزاء السودان الأخرى محتلة بواسطة المستعمر التركي حيث هزمت مملكة الفونج وهزمت مملكة الفور وهزم الشرق ووصل المستعمر التركي الي أقصى جنوب السودان في منطقة الاستوائية و بقيت تقلي وحدها مستقلة شامخة لتعبر عن شموخ وكبرياء هذا البلد.
ناصروا الثورة المهدية ( ١٨٨١ _ ١٨٩٩ م) وكانوا السبب الأساسي في نجاحها،فعندما جاءهم المهدي مستنصراً في بداية دعوته وقال لهم انه هو المهدي المنتظر ولديه علامات تدل على ذلك ناظروه وفندوا دعوته وقالوا له ( انك ليس بمهدي ولكنك تهدى) وعلى العموم سنناصرك لانك ابن بلدنا علك تساعدنا في طرد أعدائنا الأتراك ونرتاح منهم ,فدعموه بالمال والرجال والمخابئ و التكتيكات الحربية . وانضم إليهم بقية السودانيين فيما بعد، وقد تحقق لهم ذلك النصر المبين . ثم عارضوا الثورة المهدية عندما انحرفت عن مسارها حسب رأيهم .
وقعوا اتفاق مع النظام الاستعماري الإنجليزي المصري ( ١٨٩٩ _ ١٩٥٦ م) بعد هزيمة الدولة المهدية في معركة كرري .
فعندما هزمت الدولة المهدية رجع معظم اهل تقلي من ام درمان إلى تقلي، ولكنهم أصبحوا حائرين في أمرهم فيما يخص تعاملهم من النظام الإستعماري الجديد، وماذا يفعلون معه هل يحاربونه كما حاربوا الأتراك ويستغلوا بارضهم ومملكتهم ام يهادنوه، وفي إحدى الاجتماعات بهذا الخصوص وجه احد الحضور سؤالاً مباشراً للمك، قائلاً اذا حاربنا هؤلاء الإنجليز والمصريين هل نستطيع ان ننتصر عليهم كما انتصرنا على الأتراك من قبل؟ فرد المك قائلاً ” اغوسو”. وكلمة ( اغوسو) أو ( تغوسو) في العامية السودانية أو العامية التقلاوية تعني ( استحالة حدوث الشئ). والمك كان يعرف تماماً مدى الفقد الذي فقدته تقلي في فترة المهدية من رجال ومال وتسلح فأصبحت أضعف من ان تواجه نظام يستخدم المدافع كما شاهدوه في معركة كرري.
فعندما رد المك بذلك قال له الناس إذن يجب أن نتفاوض مع هذا النظام، فاتفقوا على ذلك وحددوا شروطهم للتفاوض وفاوضوا النظام وحققوا الاستقرار، على الرغم من أن بعض المكوك في تقلي قد رفض ذلك التفاوض وقاوم الاستعمار ولكنه هزم نتيجة لقوة المستعمر وتسليحه العالي.
ونتيجة لذلك الاتفاق دخلت الحداثة إلى المنطقة مما سرع من تطور الحياة و تحديثها.
عماد اقتصادهم هو ( الزراعة المطرية) بالإضافة إلى الرعى كمهنة ثانوية خاصة رعي الحيوانات الصغيرة كالماعز، ويزرعون مختلف، انواع المحاصيل كالذرة بأنواعها ( الغذاء الرئيسي)، والسمسم، والخضروات والفواكه بأنواعها. كما أن التجارة تشكل مصدرا آخر للثروة فكانت التجارة الداخلية مع دارفور وسنار والنيل الأبيض وأعالي النيل والخارجية مع مصر والحبشة، يتبادلون معها السلع والبضائع و يصدرون ماعندهم كالمحاصيل الزراعية والغابية والذهب وسن الفيل وغيرها. ويستوردون أخرى كالاقمشة والملبوسات والاواني وأدوات الزينة وغيرها .
عرفوا الصناعة باكراً فكانت أشهر صناعاتهم صناعة الغزل والنسيج ( قماش الدمور) ، وصناعة الزيوت، وصناعة الذهب واشتهرت المملكة ب ( دهب شيبون) الذي تغنى به الشعراء السودانيين ، وصناعة الفخار، وصناعة الحبال، وصناعة العناقريب والبنابر وصناعة البروش وصناعة أدوات الحرب كالسيوف والدروع والسروج، وصناعة أدوات الطبخ كالفنادك والمراحيك، وصناعة التجفيف كالصلصة ( تجفيف الطماطم) و الويكة ( تجفيف البامية) والشرموط ( تجفيف اللحوم)، وصناعة السمن وغيرها .
أشهر رقصاتهم هي ( ام صالبنج) و ( الشلالي) و ( كوندي) و ( جو) و ( جونجرين) و ( الربة) و ( البليل)، و( الطمبور) وغيرها.
وأشهر انواع الرياضات هي ( رياضة المصارعة المحلية ) و ( ركوب الدواب) و ( تسلق الجبال).
رفدوا الأغنية السودانية الحديثة بشعراء وملحنين وفنانين افذاذ منهم الشاعر الكبير عوض أحمد الخليفة، والملحن الكبير معتصم التقلاوي، والملحن واستاذ الموسيقى يوسف القديل، والفنان عز الدين مزمل، و الموسيقار الفاتح كسلاوي وغيرهم
كما رفدوا أندية كرة القدم بافذاد اللاعبين الكبار خاصةناديي الهلال والمريخ نذكر منهم في الهلال العاصمي لعب كل من إدريس أحمد نور الدين، و احمد محمود باشا، ويوسف محمد القديل. و حديثاً ابوعاقلة عبد الله.
وفي الموردة في الأبيض لعب حسن محمود باشا ( فورتين)، و التاج على، وآدم جمعة عثمان. و حديثاً في هلال كادقلي لعب محمد على ضيف الله.
وفي المجال العسكرى مدوا المؤسسة العسكرية الحديثة بافذاذ الرجال، ضباط، و ضباط صف، وجنود، لامجال لحصرهم، ولكن نذكر منهم الرجل العبقري العقيد معاش يعقوب إسماعيل الذي حصل على الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية من مدرسة خور طقت، ودخل الكلية الحربية وكان اول الدفعة ١٣ وفاز بجائزة الثقافة، و جائزة الرماية، ولأول مرة في تاريخ الكلية الحربية يحصل طالب واحد على الجوائز الثلاث ( اول الدفعة، وأفضل طالب في الثقافة، وأفضل طالب في الرماية).
اكتشفوا واستخدموا اشياء كثيرة في التداوي والعلاج فاستخدموا عسل النحل والعرديب والشطة والتبلدي والقرض واللالوب والعروق، وبذور نبات الريحان، والميحايه والبخرات من ( الفكيا) وغيرها.
وفي العصر الحديث استخدموا الأدوية الحديثة.
ألمك أو ( ايلق) أو ( ووتر) هو السلطة العليا ويدير البلد بمعاونة عدد من الشخصيات والمجالس وفق أعراف معروفة ومحددة، ويكون مقره في رئاسة المملكة ( قرية كبيرة أو شبه مدينة) ، اما الريف والقرى فتكون تحت سلطة الشيخ ( شيخ القرية المحددة) أو ( مك لمجموعة أصيلة ) يحكم نيابة عن المك، ويرفع له الأمور المستعصية، على ان يزور المك كل القرى سنوياً في مرور سنوي وعرف متعارف عليه.
قبل أن تغير السلطات الاستعمارية الإنجليزية المصرية كثير من الأشياء منها تحويل المملكة إلى مجلس ريفي (مجلس ريفي تقلي) ضمن المجالس التي كونتها السلطات الاستعمارية في السودان لتبدأ دورة حياة جديدة عنوانها التحديث ثم طالها التهميش في فترة الحكم الوطني.
خالد مصطفى إسماعيل
كتاب : مملكة تقلي – سنين التيه
الصادر عن دار الريس للطباعة والنشر – الطبعة الثانية
اترك تعليقاً