دماغٌ في إناء (٢)
ترجمة: علي أرباب
عائقٌ معتاد هو هذا الذي اصطدم به هؤلاء العلماء؛ نلمح ظلاله في أنماطٍ مملة في كل ألعاب الفيديو. البدائل المتاحة لحيز الفعل ينبغي أن تكون محدودة على نحو صارمٍ – وغير واقعيٍ بالمرة – لإبقاء مهمة (مبرمجي) عالم اللعبة ضمن الحدود المعقولة. لو لم يكن بوسع هؤلاء العلماء إقناعك بما هو أكثر من أنك محكومٌ بأن تلعب مدى الحياة لعبة (دونكي كونج)، فإنهم بحق علماءُ أشرار.
ثمةَ حلٌ لهذه المعضلة التقنية. وهو الحل المستخدم على سبيل المثال في تخفيف العبء الحوسبي في محاكيات الطيران الواقعية: أن تستخدم نسخاً حقيقية للأشياء التي في عالم المحاكاة.
استخدم قمرة حقيقية تحرِّكُها روافع هيدروليكية بدلاً من محاولة محاكاة كل تلك المدخلات الحسية و(ضخها) في مقعد الطيار الخاضع للتدريب. باختصار، ثمة طريقة واحدة فقط لإعداد هذا الكم من المعلومات الجاهزة للاستخدام في استكشاف عالمك الخيالي؛ وذلك باستخدام عالم حقيقي – وإن يكن ضئيلاً أو مفتعلاً أو ديكورياً – هذه المعلومات كامنةُ فيه سلفاً!
هذا “غشٌ” بالتأكيد، لو كنتَ ذلك الشيطان الذي يزعمُ أنه خدع ديكارت بصدد وجود كل شيء، إلا أنها وسيلة لإنجاز العمل بمصادر أقل من لانهائية. كان ديكارتُ حكيماً حينما أضفى على شيطانه المتخيل قُوى خداعٍ لا حدود لها.
برغم من أن المهمة ليست بالضبط لا نهائية، إلا أن كم المعلومات التي قد يتحصل عليها إنسانٌ فضولي بأقل جهدٍ منه ضخم لحدٍ مهول. يقيس المهندسون انسياب المعلومات بوحدة بت في الثانية، أو يتحدثون عن سعة حزمة القنوات التي تنساب من خلالها المعلومات. يتطلب التلفاز سعة حزمة أكبر من تلك التي للمذياع، وأكبر منها بالمثل يتطلبها التلفاز عالي الوضوح. ثم أكبر منها لتلفازٍ عالي الوضوح يتيح الشم واللمس أيضاً. أما تلفاز عالي الوضوح يتيح الشم واللمس ويتفاعل ما يعرضه مع المشاهد فسيقتضي حزمةً بسعةٍ فَلَكية. لأنه سيتشعب في العالم المتخيل على الدوام في آلافٍ من المسارات المتابينة تبايناً طفيفاً فيما بينها.
ارمِ عملةً نقدية زائفة لشخص شكاك وفي غضون ثانية أو اثنتين من تحسسها وحكها ونقرها وعضها وتقدير وزنها ومجرد النظر للمعان ضوء الشمس على سطحها، سيكون قد استهلك كماً من المعلومات أكثر مما يتسنى لحاسوب (كراي) فائق أن يجدوله في عام كامل. صنع عملة زائفة (حقيقية) هو لعبة أطفال. أما محاكاة عملةٍ من لا شيء غير تحفيزٍ منظمٍ للأعصاب الحسية فهو أمر خارج حدود التقنية البشرية الآن، وعلى الأرجح للأبد.*
إحدى الخلاصات التي قد نستفيدها من كل هذا هي أننا لسنا مجرد أدمغة في آنية_ في حال كنت قلقاً حيال ذلك.
خلاصةٌ أخرى على ما يبدو هي أن الهلاوس المقنعة ببساطة مستحيلة.
بالهلوسة المقنعة أعني هلوسةً تتعلق بجسم يبدو عليه أنه ثلاثي الأبعاد وملموس ومستمر على هيئة واحدة في العالم الحقيقي_ على نقيض الهالات والتشوهات الهندسية والتماعات الضوء والصور العالقة في مجال البصر بعد زوال المؤثر وتجارب الأطراف الشبحية العارضة وغيرها من الإحساسات المضطربة. الهلوسة المقنعة ستكون شيئاً على غرار شبح يرد على الكلام، ويسمح لك بلمسه، ويقاوم سطحه الضغط بنحوٍ يوحي بالصلابة، وله ظل، ومرئي من كل الجهات بحيث يتسنى لك أن تسير حوله وأن ترى كيف يبدو ظهره. يمكن على نحو مرتجل تصنيف الهلاوس من حيث القوة اعتمادا على تمتعها بهذه الخصائص. تندر التقارير عن هلاوس بهذه القوة، وبوسعنا الآن أن نرى أنه ليس من المصادفة أن تتناسب قابلية هذه التقارير للتصديق – بشكل بديهي – عكسياً مع قوة الهلاوس التي تصفها. إننا نتشكك بشكل خاص – وحُق لنا ذلك – في التقارير التي تتحدث عن هلاوس بالغة القوة لأننا لا نؤمن بالأشباح، ولأننا نؤمن أن لا شيء غير شبحٍ حقيقي قد تصدر عنه هلاوس بهذه القوة. (قوة الهلاوس التي حكى عنها كارلوس كاستانيدا في “تعاليم دون خوان: سبيل الياكي للمعرفة” ١٩٦٨، كانت السمة الواشية التي أوحت للعلماء أن الكتاب، وبرغم كونه أطروحة ناجحة للدكتوراة في الإناسة من UCLA، كان مجرد خيال، لا حقيقة).
ولكن إن كانت الهلاوس القوية بالفعل غير ممكنة الحدوث، فلا يتطرق شكٌ لأن الكثيرين يختبرون هلاوس مقنعة تتيح التفاعل الشرطي. الهلاوس الموثقة في أدبيات الطب النفسي السريري عادةً ما تكون خيالات جامحة ومفصلة بما يفوق أي قدرة توليدية تتيحها تقنية معاصرة. كيف بحق السماء يتسنى لدماغ واحد أن ينجز ما يُعد تقريباً أمراً محالاً حتى على فريق من العلماء والمحركين الحوسبيين؟
إلم تكن هذه التجارب مدركاتٍ حقيقية أو موثوقة لأشياء حقيقية “خارج” العقل، فلا بد أنها منبعثة بالكامل من داخل العقل (أو الدماغ)، ومفصّلة من نسج الخيال لكنها شديدة الشبه بالواقع الخارجي بحيث تخدع ذات الدماغ الذي لفّقها.
*يشهد تطوير أنظمة محاكاة الواقع سواءً لأغراض البحث العلمي أو لأغراض ترفيهية ازدهاراً في الآونة الأخيرة. وفنياتُ هذا المجال مبهرة: قفازات إلكترونية بواجهات مقنعة تتيح التلاعب بأجسام خيالية، وخوذات للرؤوس بواجهات عرض تسمح باستكشاف بيئات خيالية ذات تعقيد لا بأس به. إلا أن حدود هذه الأنظمة جلية للعيان، وتوضح وجهة نظري: فقط من خلال تهجين نسخ فيزيائية من أشياء العالم المتخيل بنماذج المحاكاة يمكن للإيهام أن يحفظ استمراره، وفي أفضل أحواله هو تجربة سوريالية أكثر من كونها محاكاة للواقع. وليست شيئاً يمكن أن تخلط بينه وبين الواقع لأكثر من لحظة واحدة.
لو أردت إقناع شخص بأنه في قفص مع غوريللا فإن استئجار ممثل في حُلة غوريللا سيظل الرهان الأفضل لوقتٍ طويل.
دانييل دينيت، الوعيُ مفسراً
اترك تعليقاً