للكاتب: طلال الطيب ابراهيم
الساعة 8 مساء ( لوحة الشيطان )
الهواء يبكي هنا عيونه حمراء لامعة جسده كثيف وغليظ , والهواء هنا مدمن حتى النخاع ؛ تجري في شرايينه رائحة المخدرات , يتعاطى حبوب الهلوسة فهو مهلوس حين يسكن وحين يثور .
الهواء عندما يخرج من صدور المرضى والمصابين بالإيدز يبكي ويهب في كل الشوارع يبحث عن النقاء والخلاص .
المدينة مبانيها ضخمة , سكانها كبار , رؤوسهم ضخمة مثل رؤوس الثيران والنساء هنا سمينات مثل حيتان البحر . لكن ما إن يبللك الهواء بدمعه النزق حتى ترى بأم عينيك بأن الناس هنا نمل محروق بنار !
أنا أمشي في شوارعها ليلا يرافقني القدر يقول لي كلاما أشعر به ولا أفهمه . أشعر وكأني كنت شيطانا فأعلنت توبتي وصرت رجلا حقا لا أعلم ؟
لعل الحمامة الضعيفة الواهنة تخبرني من أنا ؟ حلقت الحمامة وهي ممزقة الريش أمامي وسقطت على الإسفلت , وسمعت صوت ارتطامها بالشيء الأسود اللامع , ولأنها في طريقي خطوت نحوها . قلبي سألها : هل مزق المرض ريش روحك الطيبة ؟
أخرجت سكيني .فتحت حويصلتها وجدت حبات حمراء وخضراء وبيضاء . وواصلت السير وللحظة كأني أشعر بروح هائمة وبأن الضوء يتراجع عن الزوايا المظلمة , نظرت لجدار لونه أحمر يسيل عليه الدم ورأس مهرج معلق عليه . مثل لوحة فظيعة رسمها شيطان .
رأس مهرج معلق على الجدار كما يعلق هواة الصيد رؤوس طرا ئدهم . أعجبني منظره وهو يرتدي باروكة شعر لونها أحمر وعلى وجهه مساحيق التجميل .
تناولته من على الجدار وكان الدم لايزال يقطر منه ؛ لابد بأنه علق هنا قبل ساعة .نظرت إلى فمه وجدته كبيرا شاسعا لابد بأن ابتسامته كانت كبيرة ولابد بأن ضحكاته كانت صاخبة , وضعته في حقيبتي ومشيت به إلى حيث شقتي . شقة تعرفها بائعة هوى دائما تقول لي :
_ أنا أثق بك لأنك تبدو لي نقيا .
تنمو غابة استوائية في فراغ غرفتي حين تنفث دخان سيجارتها :
_ أشعر بالأمان معك , أنت لا تتاجر بالمخدرات ولا تتعاطها .
وتنظر إلي بحنان وتقول :
_ من بين كل زبائني أنا أشتاق إليك .
وكلما غادرت شقتي تنسى شيئا ؛ دائما مستعجلة تنسى قارورة عطرها , لباسها الداخلي ولكنها لا تنساني تأخذني معها في قلبها كما تقول لي .
الساعة 3 بعد منتصف الليل ( عضة جرذ )
علقت رأس المهرج على جدار غرفتي , وفكرت في صاحب الأعصاب الحديدية الذي فصل رأسه عن جسده . هل أطلق المهرج مزحة لم تعجبه ؟
وأنا أضع رأسي على وسادتي نظرت إليه بواسطة ضوء فضولي يأتي من الشارع عبر النافذة , فتلاقت عيوننا وشعرت بأنه يحدق في وكأن حاجبه الأيسر تحرك نحو الأعلى وكأن إنسان عينه يضيق ويتسع حسب درجة الضوء وكثافة العتمة . وسألت نفسي : هل أنا مجنون ؟
لست مجنونا ؛لأني تذكرت بأن رأسه سوف يتعفن وعندها سوف تعم رائحته الكريهة المبنى كله . لهذا قررت وضعه في الثلاجة مع الطعام المعلب .
فكرت في هوية صاحبه لهذا أخرجته من الثلاجة ودخلت به إلى الحمام وأخذت أغسله من مساحيق التجميل التي عليه ونزعت عنه باروكة الشعر . والآن أستطيع معرفة شكله . عينان كبيرتان , شعر أسود سبيبي ,وجه هادئ ومسالم فم كبير وشفتين متورمتين .
خفق قلبي بشدة كم يشبهني هذا الرجل وكأنه أنا ! وأخذت أقارنني به . له كل تفاصيل وجهي , وتفقدت أذنه اليسرى فيها أثر عضة ؛نفس التي في أذني اليسرى إذ عضها جرذ عندما كنت نائما ذات يوم في الشارع .
رميته بسرعة وكأني خفت أن يعضني !
لمحت علبة زينة بائعة الهوى التي تتمنى لو أمنحها طفلا ( سوف أنجب ملاكا . أرجوك ساعدني ) هكذا كانت تقول .
أخذت أضع البودرة على وجهي وبأحمر الشفاه رسمت ابتسامة عريضة وأطلقت ضحكة صاخبة عندما تأملتها على المرايا .
- الساعة 4 صباحا ( الفتى وبنات السماء )
زرعت مسدسي في حزامي وخرجت وفي رغبة أن أقتل شخص ما ؛ لأني أشعر بأني أرتدي قناعا ؛ لهذا بائعات الهوى يضعن الكثير من مساحيق التجميل حتى يشعرن بأنهن يرتدين أقنعة تخفي ملامحهن الحقيقة فيمارسن البغاء بملامح مزيفة .
السماء لونها أصفر والأضواء ذات إزعاج تضيء سحاب هزيل ومريض وأدخنة حمراء وصفراء وسوداء تطلع من البيوت والمباني الشاهقة . الفجر قريب . تنفست بعمق رغم أن الهواء بارد وميت .
الشوارع خالية إلا من كلاب تهرب عندما تحس بوجودي وشخير بعض المتشردين يشعرك بأن الأزقة والجدران لها شهيق وزفير .
_ أنت أيها المهرج .
صوت ضعيف ولكنه مرح , رأيت صاحبه كان شابا صغيرا يجلس متكئا على مبنى إسمنتي قديم . وكان يرتدي حذاء رياضيا أنيقا وبنطال جينز وكما أنه يرتدي ( تي شيرت ) عليه صورة ( جيفارا ) ورأيت سماعة الأذن تستريح على صدره وتصدر منها شظايا موسيقى خافتة , وكما أنني شممت رائحة البراز تفوح منه . قال لي ضاحكا :
_ أليس هذا طريفا ؟ سوف أموت بعد قليل وبالقرب مني مهرج !
أظنه يقصد مثير للسخرية لكني حاولت أن أكون لطيفا :
_ ماذا تريد ؟
ضحك مرة أخرى رغم المرض والاحتضار :
_ أريدك أن تحكي لي نكتة .
جلست إليه وتبينت من ملامح وجهه أنه فتى طيب , وحاولت أن أتذكر نكتة ولكني فشلت إذ ليس من عادتي حفظ النكات رغم هذا تذكرت حكاية روتها لي بائعة الهوى وأنا أجدها مضحكة :
_ إسمع يا فتى كانت هناك عجوز تكره الموت ولكنها سمعت بأن أرض الغيلان ليس فيها موت لهذا أمرت ابنها أن يسكنها هناك .
ثم سكت بعض الوقت وبعدها سألني الفتى :
_ ماذا حدث ؟
_ أكلها أحد الغيلان
ابتسم الفتى وقال :
_ أنت لست مهرجا ولكني سعيد بأنك هنا لتساعدني على الرحيل .
جلست بالقرب منه كتفا بكتف وكأنه صديق حميم :
_ عشرة أيام لم أتعاطى فيها حبوب الهلوسة وأعتبر هذا توبة .
قلت له محاولا رفع روحه المعنوية :
_ بل هذا إنجاز عظيم !
_ لكن لا فائدة .
_ ………. .
وأخرج من جيبه رزمة نقود _ ثروة حقيقية_ وقال :
_ هذا الورق يسمح لي بأن أشتري حبوب الهلوسة التي أريد . هل تعرف ماذا فعلت حتى أحصل عليه ؟
ضحك حتى طار رشاش بصاق من فمه وقال :
_ سرقت سيارة أبي .
_ لا بأس هذا أمر عادي .
_ ليس عاديا لو علمت بأن أمي وأبي دفعا كل ما يملكانه , وفي الواقع دفعا ثروة لعلاجي من الادمان وعندما تعافيت سمحا لي أن أنام في البيت وفي نفس الليلة سرقت سيارتهما وجئت بها إلى هنا وبعد أيام علمت بأنني ارتكبت خطأ فادحا إذ خنت ثقتهما وشعرت بأنني أستحق الموت , قررت أن أموت .
وضعت يدي على كتفه وقلت له :
_ يجب أن تسامح نفسك .
هز رأسه وقال :
_ لا أستطيع .
وانكمش على نفسه مثل طفل يرتجف من البرد وقال :
_ السماء بيضاء مثل القطن وأرى بنات في السحاب كما البسكويت في اللبن . يقلن لي : تعال , وارقص معنا , تعال إلينا .
_ اذهب إليهن .
_ لكن ملابسي رثة .
_ لا لا بالعكس ملابسك جميلة .
أشار إليهن في الفراغ وقال :
_ اسمع إنهن يقلن بأنك محق ملابسي جميلة .
وفاضت روحه وهو يشير إليهن في الفراغ , أغمضت عينيه ونظرت إلى حيث كان ينظر إلى السماء . ذلك النور الذي يتخلل العتمة هي أرواح الناس , لو أنني أرهفت السمع ربما أسمع الفتى يرقص ويغني مع بنات السماء .
وضعت رزمة نقوده في جيبي وحملت حكايته كميراث . قد أفعل من أجله شيئا هكذا قد يسطر القدر كلماته وأنا خطوة من خطواته .
أذان الفجر يزعق من حنجرة رجل أعرفه وصوته يصل إلى السحب الحمراء والخضراء تلك السحب المريضة . دخلت إلى المسجد وجدته يسعل وفي يده اليسرى سيجارة قال لي مبتسما :
_ هل جئت لصلاة الصبح ؟
ابتسمت ساخرا :
_ هل مسجدك هذا للصلاة ؟
_ كل الأماكن إذا طهرت تكون صالحة للصلاة .
وتأمل عبثية الألوان في وجهي وسألني :
_ هل أعرفك ؟
قلت له :
_ أريد أن أشتري منك بعض الأسلحة
_ بعد الصلاة إذا .
قلت له وقد أزحت قميصي متعمدا حتى يرى المسدس :
_ أنا أعلم بأنك لا تصلي وبأن الأذان عندك مجرد هواية !
_ هدئ من روعك يا رجل سوف أبيع لك ما تريده , في النهاية أنا مجرد رجل أعمال.
وقال وهو يزيح مكتبة كبيرة فيها كثير من الكتب كانت تخفي خزانة ضخمة مثبتة في الجدار :
_ أنا فقط لا أحب التعامل مع الزبائن الغامضين .
ونظر إلي وكأنه يدعوني لأن أقترب ثم قال :
_ أحب الأذان لعل أحدهم يصلي كلما سمعه من هنا , لعل الناس تتذكر أو تخشى . بالمناسبة ماذا تريد ؟
_ قنابل شديدة الانفجار وسوف أدفع بسخاء .
- الساعة 7 صباحا (الشرير يستمتع )
بدأت الطيور الرمادية تغني أظنها تشتمنا , وتلعن الأشجار التي تتنفس دخان الآلات .وضعت حقيبة القنابل تحت فراشي لو أنها انفجرت سوف يتحول هذا المبنى ذو الأربعة طوابق والمباني المجاورة إلى غبار إسمنت . ولعل روحي نفسها سوف تحترق وقد يلاحقها ملاك الموت وهي في الهبوب ويلتقطها خلايا رماد .
كنت مطمئنا رغم أني قتلت رجلا مهما قتلت المؤذن الدجال في مسجده . ولم أشعر بالخوف رغم أنني رأيت كاميرات مراقبة في كل زوايا المسجد .
ومثل نملة تحركت وتسللت لكل مصنع مخدرات أعرفه ووضعت فيه قنبلة وجعلت توقيت انفجارها في الساعة 7 مساء . ونجحت في فعل ذلك .
أخذت أنظر بقلق إلى عقارب الساعة وكانت تلدغني وعندما حانت لحظة الصفر أرهفت السمع لأسمع صوت الانفجار السعيد , لكني لم أسمع إلا ضجيج المدينة الرتيب فشعرت بمرارة الفشل .
بعد لحظات رأيت عشرون بندقية صيد وأربعة مسدسات مصوبة نحوي . وترجل رجل سمين وضخم من سيارة bmw سوداء وأنيقة لا أعرف كيف اتسعت له !
كان الرجل هائل الحجم مثل شجرة, لونه أبيض مثل بلغم وفي يده سيف طوله عدة أمتار وفي فمه الكبير مثل مغارة سيجارة كوبية غليظة يقطر من على جوانبها البصاق , زفر دخان كثير وهو يعض على السيغارة ثم تمتم وهو يرفع سيفه :
_ لطالما كرهت المهرجين .
سقط رأسي بضربة سيف وكأن عنقي مجرد خيط , أما جسدي فسقط مثل شجرة حقيرة نبذها الضوء وهجرها الماء ولفظتها الأرض . وأخذ الرجل الأبيض لدرجة القرف رأسي بأصابعه الغليظة ورفعه من على الأرض وأحضر له أحد رجاله لوح من خشب وبطريقة ما ثبتني فيه ثم دق لوح الخشب على الحائط وأخذوا جميعا ينظرون إلي ضاحكين .
بعد دقائق تركوني وشأني وفكرت بأنهم قد وجدوا قنابلي الحبيبة وعطلوها . والظلام يتكئ على الجدار شعرت بأن الضوء هجرني لأني فشلت ولكن للقدر رأي أخر لا زلت حيا حتى أحاول مرة أخرى .
جاء رجل تأملني مليا وجد منظري غريبا لكنه ابتسم . الشر مضحك سخيف .
تقدم الرجل نحوي وانتزعني من على الجدار , وعندما رفعني محاذيا لوجهه ليراني بشكل جيد أنا عرفته إنه أنا.
قصة فائزة بجائزة الطيب صالح للشباب (مركز عبد الكريم ميرغني) – الدورة السابعة .. 6/4/2015
اترك تعليقاً