للكاتب : عبدالرحمن عباس يوسف
من المجموعة القصصية : الحكاء الأخير في هذا الزمان
صباح ذلك اليوم الذي لا يختلف عن كل يوم، في أعماق البحر، حيث المياه فضية لامعة، كانت السمكة المُلَوَّنة التي تُسَمّى بهيّة تسبح بخِفّة مُحَرِّكةً زعانفها البرَّاقة، تستنشق الهواء عبر خياشيمها الصغيرة، منسابةً مع التيار البحري البارد. كانت تسافر بمخيلتها بعيدًا عن الجروف الصخرية، والشعاب المرجانية، والمياه البحرية المالحة التي تعبق برائحة المخلوقات المائية ونباتات الأعماق، تتجه بجسدها الحرشفي إلى حيث يعلم الجميع. في طريقها قابلت أصدقاء المهد ولوَّحت لهم بزعنفتها اليمنى مُحيِّية إياهم، بادلوها التحية، وصاحوا ينادونها وينطقون بكلماتٍ حفِظتْها عن ظهر قلب. كانت تعلم أنَّهم يُحَذِّرونها من الاقتراب من الشاطئ، حيث يوجد البرّ والبشر الصيادون والنوارس الجائعة.
كانت بهيّة – على عكس كل كائنات الماء – تحبُّ اليابسة منذ صغرها؛ لذلك فإنّ البعض كانوا ينادونها باسم (السمكة التي أحبّت اليابسة)، رغم طوله، والبعض كانوا قد أطلقوا عليها لقب المخبولة، إلّا أنّها لم تكن تعبأ بسخرية الآخرين من ولعها باليابسة. كانت غريبة، وكانت تعلم ذلك، ولطالما قالت لنفسها إنّها ولدت هكذا ولا تحتاج أن تُبرّر حبها لليابسة.
ضربت بزعانفها بقوة حين اقتربت من المكان المنشود، وعندما وصلت تأمّلت بافتتان مقبرة السفن؛ المكان المرعب الذي تتجنّبه الكائنات، حيث حطام مئات السفن التي ابتلعها البحر منذ زمن بعيد. تجوّلت بين بقايا الأخشاب الضخمة، وطالعت بعينيها أعلام القراصنة ورفاتهم التي فلتت من أسنان الأسماك، وحملقت في الكنوز المستقرة في قعر البحر. من بين الأنقاض خرج عليها الحبّار كما يفعل كل مرّة، لوّح بمجسّاته الطويلة وقذف بحبر أسود محاولًا إرهاب بهيّة التي اعتادت على حيلته المستهلكة. شقّ الحبّار الماء الذي اصطبغ بالأسود وحام حول بهيّة.
– أهلًا ببهيّة، السمكة الغريبة، ألم تنسي بعد؟
– كيف أنسى أنّني أريد أن أذهب إلى العالم الخارجي!
– الكثير من الأسماك قبلك فُتِنّ باليابسة، لكن في النهاية استسلمن للواقع، وتركن هذا الهوس الغريب.
تحاشت بهيّة الحبّار لكيلا تخوض في الجدل المتكرّر عن المقارنة بين البحر واليابسة. تسمّرت أمام هيكل عظمي لقرصان ضخم، وبداخلها توالدت مئات الأسئلة التي كانت تتمنّى لو يستطيع إجابتها. ودّت لو تقول له: هل سبق أن رأيت الشمس؟ ثمّة نجوم في السماء، أليس كذلك؟ وأنواع كثيرة من الأزهار، ها؟ وحيوانات.. حيوانات مُشعِرة؟ ومناطق خضراء واسعة تسمى غابات؟ ورمل وصحارى؟
كانت عيناها تبرقان وهي تتذكّر ما سمعته من الجدات المسكونات بالحكايات؛ عن عالم واسع ليس فيه أسماك قرش ولا حيتان ولا حتى أسماك صغيرة.
ابتعدت عن مقبرة السفن واتجهت إلى الأعلى قاصدةً السطح، وفي طريقها تذكّرت ما قيل لها من قِبَلِ الجميع عن أنّها ستنسى، بسبب الذاكرة السمكيّة، مثل كل المخبولات قبلها. لكنّها لم تنسَ مطلقًا، بل إنّ حنينها إلى اليابسة كان يزداد باضطراد.
وصلت إلى السطح واقتربت من الشاطئ الذي لطالما أحبّته وصادقت صخوره وأصدافه. لطالما أحبّت الهواء البحري فوق المياه رغم أنّها لم تكن تستطيع تنفُّسه، وكثيرًا ما كانت تأتي لتراقب النوارس وهي تعالج المحار المغلق؛ تطير به عاليًا ثمّ ترميه لينفتح. وفي كل مرّة تفتن بذكاء ذلك الطائر كأنّما تراه لأول مرّة، متجاهلة أنّه يُشكّل مصدر خطر لها. اقتربت أكثر مُراقِبةً بدهشةٍ القصورَ الرملية الصغيرة التي تصمد في وجه الأمواج الهادرة في مدّها وجزرها اللذين لا يتوقفان.
بعد ساعات عادت إلى الأعماق يملؤها الحنين والشوق، ويعتصرها الألم وهي تعرف أنّها لن تستطيع أن تعيش دقيقة واحدة فوق المياه. عرّجت على الجدّة، تلك العجوز التي تستمع إلى بهيّة مرارًا من غير أن تضجر، وذلك لأنّها كانت تنسى كل شيء بعد لحظات فقط من سماعه. لا يعرف أحد عدد السنين التي عاشتها العجوز نجمة بحر في عمق البحر، الجميع فتحوا أعينهم على هيئتها العجوز التي لم تتغيّر مطلقًا. ثرثرت بهيّة كما تحكي كلّ مرّة، وردّت الجدة كما تفعل دومًا:
– آه يا صغيرتي، إنّكِ تعانين من غربة الروح، غربة لعينة، تشعرين أنّ المكان لا يسعك ولا يشبهك، ترغبين في الفرار من كل هذا ولا تستطيعين، آه يا صغيرتي المسكينة أعرف سمكات جرّبن هذا الشعور و… من هناك؟ من أنتِ يا صغيرتي الجميلة؟ ماذا تريدين؟
بهيّة كانت تعرف بشأن خرف نجمة البحر العجوز، لكنها كانت تحبها أكثر من أي شيء في تلك الأعماق السحيقة، لأنّها الوحيدة التي تستمع إليها بإصغاء وتوليها الاهتمام. ورغم أنّها لا تحصل منها على جديد بشأن العالم الخارجي إلّا أنّها كانت تزورها كل يوم لتحكي لها.
غادرت بهيّةُ العجوزَ الخرِفة ومضت لا تلوي على شيء. تأفّفت من المياه غير المتناهية حولها، وأزعجها ملح المياه، وصمت البحر، ولأنّها كانت وحيدة فقد حاصرها الماضي وعادت بها ذاكرتها إلى المرات التي جادلها فيها أصدقاؤها بشأن حبها لليابسة.
– كيف تحبين اليابسة وأنتِ مخلوقة بحريّة، جئتِ من مخلوقين بحريين، ولم ترَي اليابسة يومًا، وإن عشت عليها تموتين؟
– هكذا، بلا أسباب.
كانت تقول.
لم ترَ في البحر ما يجذبها، ولم تُحبِبه يومًا، رغم محاولات الأصدقاء المستميتة في إقناعها بجمال البحر وتفرُّده. لطالما أخبروها عن البحر وكائناته وحلاوة أوكسجينه الذائب، وكثيرًا ما لفتوا نظرها إلى أغوار البحر وأسراره، ورمزيتها وما تعنيه لهم. أخبروها عن الكائنات البحرية المميزة، عن الحيتان والدلافين، الحبّار والأخطبوط، نجم البحر، حصان البحر، أسماك القرش وأسماك المنشار وقناديل البحر. أخبروها عن وحش الكراكن العملاق وأسطوريته، عن فتنة البحر وتعلّق الأشياء به، مثل الأصداف التي تحفظ صوت أمواجه وهوائه في جوفها وإن ابتعدت عنه لسنوات وسنوات. قالوا لها إنّ كائنات العالم الخارجي ذاتها تهيم به، ولم ينسوا أن يخبروها أنّ المياه كانت غنية بالحياة قبل اليابسة، بالحيتان التي عاشت قبل خمس وأربعين مليون سنة؛ الحيتان الرمادية والزرقاء والدلافين.
– هنا الكثير من النباتات التي نتغذّى عليها، هنا نتحرك بحرية من مكان إلى مكان، إنّنا جزء من هذا العالم الرحب بخيره وشرّه، وهو جزءٌ منا.
قالت سمكة من جنسها ذات مرّة. ثم حكت لها حكايات بحريّة وقصصًا عن ملك البحار، واللؤلؤ البضّ في المحار. لكن كل تلك الأشياء لم تكن لتجذب بهيّة كما جذبتها رائحة الهواء فوق المياه، والنسائم والثلوج، وعبق الأشجار الخضراء؛ أشجار الصندل والسرو والصفصاف، التي سمعت عنها لمامًا من حديث الجدات وقوارب الصيّادين ورأتها في مخيلتها الحالمة. وفي النهاية فقد أصدقاؤها الأمل، واعتبروها مجنونة، إلّا أنّهم لم يتوقفوا عن تحذيرها كلما سنحت لهم الفرصة.
عادت بهيّة إلى حاضرها وحدّقت في البعيد حيث تواجدت بعض الجروف الصخرية، فتذكّرت المرّة التي كانت تشكو فيها إلى أصدقائها عن الخطر الذي هم فيه من حيتان العنبر التي تبتلعهم. وقتها وفي مشهد سيريالي أمامهم ابتلع حوت عنبر سمكاتٍ وحبّارًا صغيرًا كان صديقًا لهم، ثمّ أتى حوتٌ سائف ابتلع حوت العنبر. تذكّرت تفاصيل الوجوم عليهم والفزع الذي شعروا به، وتنامى في داخلها ذات الرعب الذي عايشَته يومذاك، فاحتمت بجرف صخري صغير في محاولة منها لتشعر بالأمان في عالم ليس فيه سوى الخوف وعنصر المفاجأة.
منذ لجوئها إلى ذلك الجرف، لم يشاهد أحدٌ بهيّة. لم يستغرب أحدٌ اختفاءها، ولم يختلفوا في القول بأنّها ماتت على الأرجح أثناء استكشافاتها المجنونة أو قبض عليها الصيّادون، وإن كانت محظوظة فستكون محبوسة في حوض زينة قذر ستفضّل هي ذاتها البحر عليه. ثمّ ما لبثوا أن نسوها فيما نسوه، بسبب الذاكرة السمكية التي تنسى كل شيء!
كانت بهيّة قد جرّبت بطريقة لم تفهمها حياة اليابسة، فأخذها حنين جارف وجدتْ نفسها بعده ضمن حيتان البال الضخمة، التي تهاجر إلى الدفء في الشتاء وإلى المناطق القطبية في الصيف. كانت أحد تلك الحيتان الحدباء، تقفز معهم خارج الماء برشاقة، ثمّ تسقط مُحدِثةً أمواجًا هادرة بعد ارتطام جسدها بالماء.. تضرب الماء بشدّة بسَبَّاحَاتِها وفصوص ذَنَبِها. غير أنّ كل ذلك لم يكن كافيًا ليطفأ شوقها إلى العالم المتسع.
في تلك الأثناء كانت بهيّة بين الفينة والأخرى تشعر بطمأنينة غامرة. وبطريقة غير مفهومة كانت تألف منظر الصحارى الواسعة، وقمم الجليد، ومساحات الغابات والأدغال، والجزر الساحلية، والحيوانات البريّة، والطيور بألوانها المتعددة، والأراضي الصخرية، والسماء الزرقاء والرمادية. لكنها لم تكن تدري ما أصابها، حتى ذلك اليوم الذي عرفت فيه ما كان يخفف من وطأة شوقها إلى اليابسة. قبل ذلك كانت قد سمعت صيّادَيْن يتحدثان عن أمر ما، حين كانت تتقرّب من قوارب الصيّادين لتعرف شيئًا جديدًا عن العالم المجهول بالنسبة لها. كان الرجلان يتحدثان عن حوريات البحر.
– يُقال أنّهن فاتنات للدرجة التي تُفقِد الرجال عقولهم.
– لا شيء من هذا صحيح، هذه أساطير قديمة لا وجود لها، ميثولوجيا ممتعة، أنا أبحر منذ أربعين سنة ولم أرَ شيئًا كهذا.
بعد أسابيع من ذلك الحدث كانت بهيّة تعرف ما أصابها، كانت بالفعل تمضي إلى اليابسة بلا وعي منها. بعد أن وعيت ذلك جاءت يومًا إلى الشاطئ في شكلها ذاك، كحوت أحدب. أغمضت عينيها وتخيّلت الأفق يمتدّ، وعندما فتحتهما وجدت نفسها بجذع إنسان وباقي جسدها جسد سمكة. قفزت من الماء، وبتلقائية وسهولة انقسم أسفل جسدها وصار إلى ساقين قويتين. كان لها أنفٌ في مقدمة وجهها، بالإضافة إلى الخياشيم التي نمت فوقها أذنان يطرقهما غناء الهواء البحري، كما كان لها فم صغير وعينان لؤلؤيتان تبصران بحدّة حتى مسافات بعيدة. لم تنتظر كثيرًا قبل أن تمضي راكضة بفرح، عابرة الأفق الشاسع على مدّ البصر.
منذ ذلك الحين صار البحّارة يتداولون القصص عن الحوريات اللائي يخرجن من المياه في عتمة الليل، ويتجولنَ في المرافئ والموانئ وسواحل البحار والمحيطات.
حِيكت الحكايات عن جمال الحوريات وفتنتهن، وسلبهن لعقول الرجال وقلوبهم. كان بعض البحّارة المعروفين يقسمون أنّهم رأوا بأمهات أعينهم حوريات يخرجن من بطن البحر ويركضن مبتعدات.
الجميع سمع بتلك الحكايات والأساطير التي تتناول حياة الحوريات، والخرافات عن قُدُراتِهن، لكن لا أحد.. لا أحد إطلاقًا – غير بهيّة – كان يعلم أنّ الحورية ما هي إلا سمكةٌ أحَبَّت اليابسة.
اترك تعليقاً