بحثاً عن الأمل

·

·

الكاتب : محمّد جدّي حسن

قرّرتَ الرحيل غير آبهٍ بالعواقب، رغم أنكَ قرأتَ عن عمق المحيط الأطلسي، وعرفتَ الوجه الآخر للحلم الجالس هناك خلف هذه الزرقة الشاسعة، بيد أنّك همست محمّسًا ذاتك: اللجّة أرحم من الهاوية، يقينًا أجدادك اختاروا الفسحة بدل النفق. لم تكن تملك خيارا أيها التائه؛ هنا كنت طُعمًا للحشرات، والآلام، تنهشك الملاريا، ويعذّبك الصّداع الرهيب الذي يصيبك كثيرا، الصداع الرهيب الذي أبكى قبلك الشعراء والفلاسفة. “رأسي يؤلمني، والكون بأسره يؤلمني،” قالها قبلك بيسّوا ذات صداع رهيب، وها أنت شاعر آخر يترك حبيبته لـ”بعض الوقت” آملًا في عودةٍ كبيرة. دَفَنَتْ شفتها السّفلى بين شفتيك، ومرّرتَ يدكَ على رأسها، واستدرتَ في الوقت الذي تسلّلت دمعةٌ نحو ركن شفتك. لم يكن لك خيار سوى الخوض في المجهول أو الصعود لرمي هذا الجسد من علٍ، فقررت الرحيل لأنك لم تجد من يقول لك: “امسك يدي،” وأخذت حقائبك حين أخبرتك أمّك أنها رأتكَ في المنام تقدم خبزًا لمتشرّد وسط قمامة هائلة. لم تتمكن البيداء الواسعة من إبطاء خطواتك: أنت الصحراويّ الذي تركها بحثًا عن الوديان، ها أنتَ تعبرها بحثًا عن المجهول. وصلت ليبيا عبر “مرزق،” ثم أسرجت قدميك نحو شطآنها. هناك رأيت البحر لأول مرة،. البحر صحراء من الماء كما الصحراء بحر من الرمل. قلت ذلك لتأكد لذاتك أنك تمخر عبابها. ها هو الزورق الذي ستأتمنونه حياتكم، ها هو المهرب الذي ستعطونه أموالكم، وها هم رفاقك في هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار: سودانيون، وسنغاليون، وأريتيريون، وزنوج من الجنوب، وعرب، وحبش. بينما انشغل الجميع مع ربه طالبا السلامة، انشغلتَ بورقة وقلم. كتبت وصيّتك في سطرين: إن نجونا فلا شيء، وإن متنا فنأمل أن تصلّوا على أرواحنا، وألّا تذرفوا الدموع. طويتها وحشرتها في جيب بنطالك الجينز بصعوبة بالغة. هاج البحر تحت الزورق الصغير المكتظ بجوقة من المجازفين. المارد الأزرق، القوي الجبار، لم يتحمّل كل هذه الكلمات المحفورة في رأسك الصغير، ترنّح الزورق، ولامس البحر المالح جسدك المعسّل، تذوّق بعضًا من الحبر العالق بورقةٍ في جيبك، وهاج أكثر. بين ليبيا وإيطاليا، هنا وسط البحر، أدركت يقينًا أن هذا الموج الغاضب لن ينزل إلا بك. وصل الموج الذي ارتفع كالطود العظيم، ثم ضرب الزورق بشدة كيدِ ملاكٍ أُمِرَ بالعقاب. تلاشى كل شيء في لحظة. أين الزورق، أين الشرذمة؟ من بُعدٍ كبعد السماء رأيت أحدهم يسعى للوصول للزورق العاجز الطافي كسلحفاة مقلوبة. كافحت مثله لكن التيّار كان أقوى من ذراعيك. لنصف ساعة حاولت البقاء على قيد الحياة لكن جسدك بدأ يخونك، عجزتْ ساقاك، ذراعاك، رأسك، كنت قريبًا من السنغالي الذي وصل إلى الزورق حين تركت جسدك حرًّا. ها أنت تذوب كالسّراب، تغيب شيئا فشيئًا، وحدك، عاريًا من الأمل والإيمان. غاب الرأس في هدوء البحر، إلا أن يدك اليمنى ظلت تلوّح للسنغالي، أوداعٌ، أم تحية، أم طلب نجاة؟ هذا ما لن يفهمه أحد أبدًا. ها أنت تسمع كل شيء. تسمع الهدوء، تسمع نظرات الأسماك والحيتان، أي بحرٍ سيتحمل كل ما في رأسك؟ أخيرًا، بعد شهر إلا قليلًا، تصل إلى إحدى جزر إيطاليا. تصل بلا روح، لكنهم عثروا على ورقة محفوظة في قطعة بلاستيك داخل جيب بنطالك تقول: لا شيء إن نجونا، وإن متنا فصلّوا على أرواحنا ولا تذرفوا الدموع.”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *