للكاتب: أيمن هاشم
استيقظ يا فضُل ولدي!
هبتِ الريحُ الباردة التي تحرك أطراف الملاءة المزينة بوردات حمُر، وبدأت أشعة شمس الصباح تصل إلى طرف السَّرير الذي ينصف الحوش، وضع فضل قدميه على السِفنجة[1] واتِّجه ناحية الحمام المفتوح تجاه السماء ومسور بحوائط قصيرة تُغطي بالكاد ظهور جبهة الرجل الذي حلَّ لتوه رباط السّروال رافعًا نظره إلى السماء ومُشتتًا بولَه بالأرجاء.
لامست شفتا فضل كوبَ الشاي، شفط لتوه الهواء صانعًا صوتًا عاليًا، متلذذًا بطعم شاي الصباح:
” تعرفي يا يمة، الواحد ما برتاح إلا في بيتو، وسطَ أهلو”.
كانت لواري البِدفورد[2] الزرقاء حدثًا في القرية، بالأمس أطلق فضُّل العنانَ لمزمار العربة، عندما دخل بالطريق الضيق المؤدي رفع يده من المقود وقرأ الفاتحة، ثم سلمّ علي الشيخ ود بَدُر، الذي أصبح ضريحه مزارًا بعد الفيضان العظيم إذ تخطته المياه فلم يصبه الغرق، بُنيت القُبة من النحاس اللامع، فتبدو من بين حقول النخيل كسُّرة في بطن القرية التي تتكئ بجوار النيل.
السابع والعشرون من ذي الحجة، محلية مروي- الولاية الشمالية، وفي الوقت الذي وضع فيه كوب الشاي، السائق فضُل ود الحاجة سِتَّ النَّفر، ذو الشارب الكث والعينين اللوزيتين الصغيرتين قد حكّ أنفَه بسبب نوّار الريحان الذي بجوار الباب ثم نزع الركيزة الخشبية، ومن عند الفناء العلوي كانت سِتَّ النَّفر تضع الطرحة على شعرها الأشيب، قالت فيما بعد: إنَّ اثنين من الظابطية قد قابلوا ابنها، لكنها لم ترَ ملامح أحدٍ ما. أخبرها بذلك فضل ثم حزم حقيبته الهاندباك وتلحف الشال الأخضر، سألته هل يهم بالمغادرة؟ أجابها بسرعة وهو يضع المِفتاح ثم يعالج مقود اللوري:
” أنا مسافر يا يُمة، الشاويش طالبني في قضية مهمَّة ولازمتن أرجع سواكن”.
من فوق تلال سنكات المرتفعة، تظهر أوسوك[3] كقطة رابضة بجوارِ الماء، قد تهابه ولكنها ترقد بوداعة صانعةً بذيلها جزيرةً في البحر. تحيط بالمدينة أودية تمتلئ بالمسكيت اللامتناهي، والمنتشر كشعر العانة غير المرتب. يقود فضُل البدفورد بسرعة فرأسه مشغولٌ بما قاله الظابطية، لقد ارتكب جريمة قتل وهو مطلوبٌ في المحكمة.
مرّ اللوري بالقرب من سجن المدينة الحجري، شاقًّا البيوت المهجورة ناحية مطعم القرموشي، ممنيًا النفس بوجبة سمك شهية تزيل عنه رهقَ يومين في السفر.
هل ظننت أنك ستهرب منا؟
بادر الظابط الذي يجلس في المقعد الخشبي، ثم أمسك بيد فضل وهو يغسل يده عند المغسلة، كانت يده لا تزال تعبق برائحة شواء السمك، بينما كانت الشمس الحمراء تتخفى خلف الحوائط الحجرية المهجورة والكئيبة، لم يستطع مقاومة سحب الرجل له من يده وأرخى جسمه تاركًا الريح تلعب بجلابيته الصفراء المتربة، شق معه الطريق إلى داخل الجزيرة التي تسكنها الكلاب والقطط، في الوقت الذي يأتي فيه صوت أذان المغرب من صوت مؤذن أجش، تحمله الريح ويتقطع عند أذني فَضُل المسرنم. وقف الشرطي الذي أرخى قبضةَ يده الممسكة بفضل. في منتصف المبنى المهجور، البنك التركي المصري. أحسّ فَضُل ببقايا شعر قط في يده وبرغبة في العطس، حكّ أنفه والتفت مرتبكًا وخائفًا ذلك الحضورَ الكبير للقطط في المكان. كان المكان يعج بالقطط السوداء. مائة وخمسون قطة بروؤس ضخمة وذيول مقطوعة، تلفت السائق المذعور، وأحس بفتور في ساقيه، كانت همهمة القطط تتضح، لم تكن مواءً، أرخى فضُل نظره إلى أسفل قدميه التي لم تطاوعه للركض ليحس بلمسة هِر ذي رأس كبير بيده.
محكمة! جاء صوت المطرقة على المرق الخشبي، وهدأ مواء القطط: يحضرنا بلاغٌ بجريمة قتل، يمثل فيه المتهم الرئيسُ بالقتل فَضل السيد زين العابدين ود بَدُر، والمدعي العام والشهود.
سعادةَ الرئيس، حضرةَ السادة الحضور، ولأن العدالة ركن أساسي يكفيني أن أبدأ جلستي بالسماع للشهود الذين ستتلى أقوالهم أمامَ نيافتكم.
تقدم ووقف بجوار فضل السِّيد قِطٌ أبيض ببقع صفراء، حرك وجهَه بشكل دائري وأصدر مواءًا عاليًا ثم أخذ يحكي: لقد ضربَها يا سيدي، كانت حامل المسكينة، ركلها بقدمه حينما كان يأكل في مطعم قرموش، المسكينة جاءت تتلمس رزقها، لكنه عنفها بتلك الركلة، كسر ضلوعها، رأيتها تمشي بصعوبة، أصدرت صوتًا كالشخير من صدرها واستلقت هناك، لم يكلف هذا المجرمُ نفسَه فرصة لإنقاذها.
كان القمر يطالع الأحجار المهجورة للجزيرة، مطلًا بوجه غارقٍ في البحر، عندما رفع فضل رأسه إلى الأعلى، قال القط القاضي: مَن سيدافع عنك؟
أطرقَ السَّائق الحائر رأسه إلى الأسفل، ثم قال : يا ريت جدي الشًّيخ يحضر.
جاء من على البُعد ومن بين ندف السحاب صوتُ عربة كارو يقودها حصان مجنح، نزلت في مبنى البنك، وخرج منها شيخ يحمل إبريق ماء، يرتدي الأخضر ويحمل إبريق الوضوء، افترش الشيخ ود بَدُر سجادةَ الصلاة ثم جلس ورسم على الأرض بعصاه، كتب المنتقم ونظرت القطط إلى الأرض، ثم كتب العفو فأضاءت الخطوط الترابية، فقال الأرض قالت مقولتها، الأرض تعفو والطين يغفو، والنائم يأتي وقته ويصحو.
استيقظ يا فضُل أبوي.
وصلت خيوط أشعة الشمس إلى العلية في الحائط الطيني، وفي الوقت الذي تسلقت فيه الشمس الصباحية علية البيت، أطلت من الجزء العلوي هرة، مدت رأسها إلى الأسفل حيثُ سريرُ فضل السيد، الذي وضع قدمه المتورمة من السفر في السفنجة الخضراء، وأخذ يجرجرهما إلى الحمام، ثم رفع رأسه إلى الأعلى منتظرًا نزول الهر الذي غمز بعينه، تحسس فضُل الودعة التي أنقذته من حادث قديم، سكتت عن سيرته الجزيرة المسماة أوسوك.
[1] حذاء بلاستيكي
[2] عربات نقل
[3] إسم مدينة سواكن بلغة البداوييت وتعني السوق
اترك تعليقاً