الرجال الجُوف

·

·

 للكاتب : أيمن هاشم

تسعٌ وتسعون جُثة خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجرُّ الثانية بيد، خرج مقاتلو الكبابيش القتلى كالمسبحة، كل خرزة تمرّ بيد الشَّيخ الأعظم، ويخرجُ منها مُقاتل، يدوس بقدمٍ جافة أرض بيكربونات الصوديوم اللامعة مُصدرًا صوتَ التّكسُر المُخيف، صانعين بأقدامهم أثرًا طويلًا في اتجاه الغروب.

كان ذلك بعد سنين طويلة، من عبور سُفنهم إلى دنقلا العجوز، السنين التي أحضروا فيها مخلاياتهم[1] نبتة الصحراء، حيث تقهقروا بسفنهم جنوبًا بسبب الحروب التي خاضوها، ثم أطلقوا حيفاتهم في الرمال، هكذا يأتي العربُ كالرياح.

عندما وصلت السفن الشراعية العظيمة، أحرقوها وخاضوا في كنجرت[2] إحدى أعظم المعارك، قاتلت معهم الجموعية[3]، حيث سيطروا بعدها على الصحراء العظمى وآبار النطرون.

حملوا ذلك الوسم المرعب، تميمة حملوها من جُزر السحرة في دنقلا العجوز، تميمة أبدية مخيفة، مقابلَ أن تؤخذ قلوبهم؛ عندما أُخذت جثة قائدهم و مُثل بها، فزِعَ الأعداء من ذلك الجوف الفارغ، لم يكن ثمة شيء في قفصه الصدري، ولا حتى قصعة لحم.

كان جنود الأتراك غاضبين من المحرقة ويضرمون النارَ في الجميع، لكن المقاتلين المخلوقين من الرمل لم يعيروا رصاص بنادق جيش الدفتردار[4] اهتمامًا، وظنتهم الكتل اللحمية الحمراء العابرة أشجارًا.

واجهوا شياطين التعايشي[5] التي تركب أحصنة سوداء، واشتبكوا معهم، رأى الجهادية بأم أعينهم الرصاص يغوص في أجساد أعدائهم ولا يخرج، جربوا البولَ على البنادق لكي يبطلوا ذلك السِّحر، وسَرعان ما اختفى الملثمون.

أطلقوا عليهم اسم تيراب البنية، على اسم الفتاة التي قذفوها في مسنن البندقية واخترقها، خرجت من ظهرها عبر بطنها، بينما ظلت تضحك، وركضت  تحمل السونكي في ظهرها، حيث أصيبوا بالشَّلل التام.

في أمدرمان، جاء الجنود بقصصهم المهزومة أخبرهم العجوز الذي يستخدم الكجور[6]، بأن ينسوا  أمرَ البُذور المُلقاة في الصحاري فتلك السُلالة ملعونة، تحمي الجبة الزرقاء لشيخ الصحراء، ولا مناصَ إلا بإلقائهم في الآبار، لكن الخليفة أصرَّ على جمع التيراب[7] وأن يصل إليه في صُرّة قماش روؤس مقاتلي الكبابيش.

خاضت الجهادية الرمالَ المتحركة ليصلوا إلى الكتيبة الأولى لشيخ النوراب، عددهم ثلاثة وثلاثون  واسمهم كتيبةُ سبحانَ الله، يحملون سياطًا نارية وملثمون، مهمتهم حراسة الصحراء الجنوبية، يعرفهم الحجاج المارون بآبار المياه باسمهم الوارد، ويرفعون عقيرتهم بالتسبيح ليمروا.

تتوقف الرياح الشمالية الشرقية عن الحركة، وتصير الأشجار ثابتة، كلحظة قبلَ حريق، تملأ الرطوبة الجو، وتعطن الأجساد الرابضة في وديان قرى حمرة الشيخ، يصبح استنشاق الهواء مهمَّة صعبة، يضع أمير الحجاج آنيته التي تحمل ماءَ زَمزم كهدية أمام بئر الدخول، وعندما يصل إلى الصحراء الشرقية، يغيرون تسبيحهم للحمد لله، حتى وصولهم إلى درب الأربعين تتغير النغمة، وبذلك يأمنون شرَّ الأفاعي المُضللة، والرياح، وتيراب البنية[8].

 جاءت الجهادية كمياه النِّيل الأزرق الدكناء، يقودهم القائد السابق في جيوش الزبير باشا رحمة، وفي المقدمة شيخ الكجور، في أعلى التلال الرملية ظهر مقاتلو ترب البنية، يابسين كأشجار الهشاب، يحملون سياطًا نارية، ملثمين تتناثر من وجوههم الرمالُ، ويتخلل الهواء المارّ أقدامهم مصدرًا صريرًا مرعبًا.

أعمل الكجوري يديه في السَّماء، فتقاطرت سحب جنوبية، سحب كان يحملها من أم درمان في جرة طين، ونفثها في الهواء، تعطن الجو وثبتت الأرض تحتَ أقدام أحصنة الخليفة السوداء، من التلال الرملية بدأت تتعالى أصوات السِّياط وهي تضرب الهواءَ، تخلخل السُحب لكي لا تتبللَ الصحراء، ولكن الطرفة البكاية بدأت بالهطول من السماء، وأظلمت الأرض.

في الصباح بدأ جنود الخليفة التمثيلَ بجثث المقاتليين، صنع أحد الجهادية شقًّا في صدر عدوه، و من بين ذلك الشق أبصر ذلك الخواء، لم يكن ثمة قلبٌ، أمرهم الكجوري بربط الصحراويين بالصخور ورميهم في الآبار.

بعد أيام استيقظت لعنة الصحراء، فالبئر التي باتوا بداخلها، هي وتد تمسك الصحراء، ويلهج باسمها الجميع.

تسع وتسعون جثة، خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجر الثانية، البذور الصحراوية يكررون بانتظام بلهجتهم العربية الخاصة كلمتي انتقام وما يمكن وصفه بنهاية فصل في مسرح الصحراء، وبداية موت الضأن في أمدبيكرات، من تحت سجادة الخليفة عبد الله التعايشي ومن مخلايته التي يحملها، كانت البذور الصحراوية تغرس جذورها بينَ أقدام الرجل المستسلم. الكتيبة الأمامية لجيش كتشنر باشا[9]، كانت من الرجال الجُوف، كتائب الله أكبر.


[1] حقائب من القماش

[2] أحد المعارك التي خاضتها قبيلة الكبابيش

[3] قبيلة سودانية تسكن السودان الأوسط

[4] محمد بك الدفتردار قائد ما يُعرف بالحملات الإنتقامية

[5] عبدالله محمد –الخليفة الثاني للثورة المهدية (1846-1899م)

[6] طقس روحي يستخدمه السحرة

[7] البذور

[8] أسطورة عن بنت نسلها خالد ولايموت

[9] هربرت كتشنر قائد إنجليزي لما يعرف بحملة فتح السودان


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *