بقلم : إبراهيم جعفر مكرم
حينما خرج الحاج “حمدتي” من البيت ، كان الوقت لا يزالُ مُبكراً جداً عن ميعاد الصلاة ، لذلك فضّلَ أن يسلك الطريق الطويل المتعرج حول السوق باتجاه الإندايات ، ثم الانعطاف من هناك عبر خور “أبو جقور” قاطعاً خرابة “العُشر” ، حيث القبر ، كي يصل في الأخير إلى المسيد. لكنه ما إن وطأ أرض الضريح ، واستكان بركعتين خفيفتين ، حتى راودته فكرة ثاقبة ومؤرقة للضمير ؛ وهي أن زوجته “فطين” تخونه معي … أولاً جاهد “حمدتي” أن يبعد الخاطرة بالتسبيحات والصلوات ، قرأ وِردين راتبين من الأدعية المحفوظة ، جرّ بسبحة اللالوب ذكراً مباركاً ، وعندما انتهى خلص إلى أنّ ما خطر بباله لم يكن مجرد حدس أو احتمال ، إنما يقينٌ قطعي ببراهين مؤكدة ، بأنني – وفي هذه اللحظة بالذات – أعاشر زوجته. عندها انتفض “حمدتي” كشعلة لهب متقد ، استلَّ سكينه من ضراعه ، وقرر الرجوع عدواً عبر نفس الطريق المعقدة : الخرابة ، الخور الفصلي ، واِلتفافة السوق … وحين وصل ، تسلل على أطراف أصابعه ، رغم الانهاك ، مسترقاً النظر إلى الفضيحة ؛ صديقه الوحيد الذي يقاسمه الخبز والملح ، وامرأته التى يحبها ويغار عليها. لكنه تفاجأ بي جالساً إلى جانب “فطين” أشرب الشاي دون أن أقربها. كانت زوجته مرعوبة جداً ومرتبكة ، يتصبب العرق على جبينها ، حاولتْ الكلام والدفاع عن نفسها لكنها تلعثمت وضاعت في الصمت. أنا الآخر كنتُ خائفاً ، لكن بقدرٍ أقل ، وما إن هدأ الحاج “حمدتي” وجلس بقربنا على “البنبر” ، حتى تبددت سحابة الخوف من الأجواء.
وضع “حمدتي” سكينه على الطاولة وصبَّ لنفسه كوباً من لبن الماعز المقنن من الكفتيرة .. وجعلَ يُقلّب عينيه بيننا كأنه يبحث عن دليلٍ لوأدِ الشك .. تتبع نظراتنا المتواطئة والخجلة ، لاحق الابتسامات المُحرَجة ، الهمس الخافت الشهواني .. ومرة أخرى بدا له الأمر جلياً وواضحاً وضوح الشمس ، وبأننا بالفعل خُنّاه.
ما جرى بعد ذلك هو أن “حمدتي” انهار وأسقط كوب اللبن ، وشرع يبكى كما لم يبكِ من قبل ، على لبن حياته المدلوق .. كانت مشاعره تجاهي قد تحولت إلى الحقد والكره ، وبالرغم من أن صداقتنا دامت سنين عدة ، إلا أنها الآن ذهبت أدراج الريح.
أنا حاولتُ الاعتذار وتجميل الموقف ، لكن في النهاية سئمتُ التمثيل وانفجرتُ بالضحك ، قلت له بأنه مجرد مغفل أحمق ، ولو دقق قليلاً فسيكتشف أن كل أبناءه يحملون سحنتي .. ثم قبل أن أغادر ، بصقت على وجهه وأهنته. قلت مشيراً إلى السكين : (لو إنت دايرني ما بتغباني .. هه ، أنا في السوق!)
لم يتأخر “حمدتي” عن اللحاق بي ، أخذ سكينه الحادة وخرج ، وعند وصوله مدخل السوق تردد ، شابك أصابعه وفرقعها ، كان مضطرباً ، وانتابته نوبة من ضيق التنفس الهستيري والسعال ، لكنه فور أن رأني تحمس وخطا نحوي ببطء .. وفي منتصف المسافة أحس حمدتي بأنه محاصر .. فلطالما شكلت له الأماكن المزدحمة هاجساً مؤرقاً ، والسوق – بضجة باعته الجوالة – هو قمة هذه الهواجس ، لذلك ازرقّ لونه وشحب ، وبالكاد استطاع في لحظة فاصلة أن يغرس سكينه في عنقي ويُفجّر الدم .. كان “حمدتي” لا يقوى حتى على الوقوف معتدلاً ، كمن هو فوق الجمر ، وما إن نظر إلى جسدي المسجى ، وملامح وجهي الميتة ، حتى اقشعر بدنه وارتجف .. فقد كنتُ أطابقه تماماً كانعكاسة مرآة .. وهذا جعله ينتبه إلى أنه لم يقتل سوى نفسه.
الندم وعيٌّ أخير ، فكيف للإنسان أن ينهي حياة الإنسان. غادر “حمدتي” السوق وهو يجرّ ثقل الجثة خلفه ، وسط صيحات النسوة المذعورات ، وحينما تعب دفنني في الخرابة واتجه مباشرة إلى الإندايات ليغفو .. لكنه ظل يسمع صرخة الألم تطرق أذنيه ، عتاب مرير ومستمر ، ولمّا فشل في نسيان الأيام التي قضيناها معاً كرفيقين ، تشنج وأصابته الحمى .. عندها حملوه لمنزل زوجته “فطين” التي أخبرته بأنها لم تخنه أبداً ، وأن كل الأمور على مايرام ، وعليه فقط أن يسترخي ولا يشغل باله بشيء آخر ، عداها ، لكن من أين تأتي الطمأنينة وخليله الوحيد رحل على يديه ..
في الصباح نهض “حمدتي” ثقيل الرأس ، وذهب كي يصلي في المسيد ، طاف حول السوق لأنه رأى أن من المستحيل الاختلاط بكل هذه العيون المترصدة ، تخطى خور “أبو جقور” ، ثم الخرابة التي تموء قططها فوق قبري ، ولحظة وصوله إلى قبة الضريح كبّر وصلى ، لكن الأفكار الطفيلة والمقلقة أتتْ واحتلتْ عقله بالكامل ، أفكار متدفقة يصعب السيطرة عليها … تُأكد له بأنني أخونه مجدداً مع “فطين” !
الأمر غير عقلاني ، لكن كان على “حمدتي” أن يتوثق ويدحض الشك ، لذلك قطع صلاته من وضع السجود وركض صوب خرابة “العشر” ، وتفاجأ لأنه لم يعثر على القبر ، وإنما على آثار أقدام تنتهي عند باب منزله ، وهناك .. كنتُ أنا “وفطين” ، نشرب اللبن ونتبادل النظرات.!
اترك تعليقاً