الكلمة التي شقّت حنجرة عبد المعين المغربي

·

·

 للكاتب : عبدالرحمن عباس

 حين عجز عبد المعين المغربي عن نطق كلمة أراد لفظَها، شقّت فراشةٌ حلقه وطارت، وحلّقت بعيدًا نحو السماوات.  لم يعرف أحدٌ إلى أين مضت، ولم يفهم أحدٌ كيف لفراشة أن تولد من حنجرة إنسان، لكنّهم كانوا متأكّدين أنّهم رأوا بأمّهات أعينهم فراشة بألوان شتى تخرج بسلاسة من منتصف رقبة المدعو عبد المعين المغربي. قال البعض إنّ الشاب سحرهم بطريقة ما، وقال آخرون إنّ الجو كان يعبق برائحة الحشيش وفسّروا الأمر برمّته على أنّه هلاوس مساطيل، وذهب قلّة إلى تصديق ما رأته أعينهم من غير أن يبحثوا عن تفسير. لا أحد يعلم ما حدث تمامًا، إلّا أنّهم يعرفون شيئًا مما جرى. حكى أحد الشهود من أصدقائه أنّ المغربي كان يحادث أصدقاءه باعتياديّة وأراد أن يردّ على سؤال وُجِّه إليه، إلّا أنّ نطق الكلمة استعصى عليه فحاول بكلّ الحيل التي يعرفها، غير أنّ نطقها بلغ حدّ الاستحالة.

يعلم الجميع في عالم عبد المعين المغربي أنّه يتلعثم في الكلام ويعاني من صعوباتٍ في النطق منذ صغره، وقد تداول الناس في محيطه حكايةً غريبة عنه، تقول إنّه نطق أول كلمة في حياته وهو في سنّ الرابعة بعد أن مرّت ثلاث سنوات بحالها بعد نطقه حرفها الأول. لطالما كره هذه الحكاية التي يرويها أقرباؤه، مدّعين أنّهم يروونها بحبّ ممازحين إياه، مُنكرين أنّهم يفعلون ذلك بسخرية صرفة. ولعل أكثر ما أغاظه بشأنها هو عدم منطقيّتها، إذ كيف يردّد المرء حرفًا واحدًا لسنة كاملة؟

لمّا أراد عبد المعين أن يردّ على صديقه أحسّ بأنّ حروف الأبجدية قد تبّخرت من ذاكرته أو مضت إلى عدم، وشعر بلسانه يتضخّم وبرأسه يتخشّب، وخُيّل إليه أنّ الكلمة قد تلاشت من قاموسه إلى الأبد كأنّها ما كانت. وشعر بنفسه ينكمش، وخيّل إليه أنّ العالم اتسع، وجحظت عيناه وأدمعتا، وتصبّب عرقًا بينما كان يحاول أن يلفظ حرفًا وحيدًا منها، واضطربت شفتاه وسال اللعاب من فمه دفّاقًا لمّا طرقت أذنيه قهقهات أصدقائه وهمهماتهم. ضرب بقدمه الأرض مرّات عديدة مثل ثور هائج، وفرك كفّيه ببعضهما، وقلّب كُرتَي عينيه في محجريهما ورفع بصره إلى السماء ودعا بقلبه:

– “ياربّ، أريد حرفًا واحدًا فقط، يكفيني حرف وسأكرّره ألف مرّة إن استدعى الأمر، سأعيده مليون مرّة حتى تجيء الكلمة، ياربّ أنا لا أريد الكثير، لا أريد من الحياة إلّا هذا الحرف، يا ربّ خلّصني من هذا العذاب، يا ربّ.”

بعدما فرغ من ابتهالاته عادت الكلمة إلى ذهنه من جديد، فحاول لفظها لكنّها تمنّعت، حتى الحرف الأول منها لم يخرج من فمه، وظلّ يتردّد داخل مفازات ذهنه ويتكرّر، مرتين وأربع وثمانٍ.. ومليون مرّة. ضرب صدره بيأس، وضغط على رقبته بكلتا يديه، فأحسّ بالكلمة متكوّمةً عند حنجرته، جسّها غير مرّة، وتحسّس استدارتها وميوعة تركيبها، أحسّ بها تتغيّر وتتشكّل ثم فجأة ومن غير سابق إنذار تنفجر. وحينما انفجرت الكلمة غاب عن وعيه، وفي تلك اللُحَيظات شقّت فراشةٌ حلقه ومضت بعيدًا نحو السماوات.

عانى عبد المعين المغربي من التأتأة طوال حياته، فمنذ ليونة عظامه كان يتعلثم في الكلام؛ يعيد عشرات المرّات نطق الحرف الأوّل من أوّل كلمة ينطقها بعد صمت، وفي أحيان يبتلع الكلمة بحالها فتغيب ردحًا من الزمن في دهاليز جوفه. وقد منعته التأتأة من فعل الكثير من الأشياء التي رغب فيها، وحرمته أكثر ما حرمته من شغفه الأول. لطالما كان شغوفًا بالشعر؛ حفظ آلاف القصائد وكتب العشرات وألقى في مخيّلته المئات. ودائمًا ما تمنّى أن تصير الكلمات مطواعة بين يديه؛ أن يقولها بيسر ومن غير تردّد أو توقّف أو توترات، لكن -ولأنّ للأقدار سخريتها الخاصّة- فقد حُرِم من الشيء الوحيد الذي بغيَه بكلّ ذرةٍ في كيانه. في أولى سنوات الدراسة الابتدائية مثّل نطق كلمة وحيدة ضربًا من المستحيلات، وإن لم نبالغ فيمكننا القول إنّ كلّ المستحيلات بالنسبة له جُمِعت فكانت في نطقه كلمة واحدة من حرفها الأول وحتى الأخير من دون تعثّر. في المدرسة، كان الصغار يسخرون منه مُقلّدين إياه، وفي أحايين كانوا يطلبون منه نطق كلمات بعينها. لن ينسى عبد المعين ما عاش ذلك اليوم الخريفيّ من أيام أغسطس من عامه الرابع في الابتدائية حين استوقفه معلّم الجغرافيا طالبًا منه قراءة أسماء بعض المدن السودانية في الأقاليم الغربية والجنوبية، لن ينسى أبدًا ما فعله به اسم المدينة الأولى: (كادوقلي). ساعتها ومثلما اعتاد تمنّعت الكلمة وما لانت، وتوقّف عطاءها عند الحرفين الأولَين وما جادت بأكثر، فصار يردّد كالملبوس: (كا كا كا كا كا كا كا كا كا كا كا)، واهتزّ الفصل وماج، وضحك الصغار كأنّما يضحكون للمرّة الأولى والأخيرة في حياتهم، وقهقهوا حتى ليبدوا أنّ الضحك خُلق أول ما خُلق في ذلك الصّف. ولن ينسى أيضًا ما ناله بعدها من سخرية، فقد ترسّخ لقب (كاكا) منذ تلك اللحظة وصار اسمه وكنيته وشهرته وكلّ ما يُنادى به. وبسبب التأتأة تحاشى أن يجاوب على أسئلة المدرّسين المتعلّقة بالدروس رغم معرفته لكلّ الإجابات، وتجنّب القراءة الجهرية للصف، وما قرأ في حياته لجمع غير مرّات معدودات ندم عيلها الدهر كلّه. وكثيرًا ما تمنّى المشاركة في فعاليات تتطلّب شيئًا من فصاحة وطلاقة لسان لا يتمتّع بهما. وأُجبِر على توطين نفسه على تحجيمها وقولَبتها في مساحة محدودة لا تتعدّى ذهنه.

ولطالما اعتقد عبد المعين أنّ الدنيا أخذت منه أكثر مما أعطته، وكثيرًا ما فكّر أنّ العجز الذي منّي به هو أسوأ ما يمكن أن يناله شخص مثله، فروحه المتعطّشة لا تتحمّل كبحها ولا تكتفي من الدنيا براحة البال والسلام والسكينة، وقد عرف ذلك ووَعِيه منذ عهود تولّت. وما مرّ عليه يوم من غير أن يسأل نفسه السؤال إياه: لماذا أنا؟ ولم يكن ليعثر على إجابة شافية، ذلك أنّه سؤال أعجز البشرية جمعاء منذ فجرها الأوّل وليس عبد المعين ببدعٍ منها. وبعد كلّ موقف كبير يظهر فيه ضعفه هذا يكره نفسه ويوبّخها ويجلدها غير مكترث لحقيقة أنّ الأمر لم يكن بيده. ومما لا شكّ فيه أنّه ما أراد أن تكون حياته كما هي عليه، لكنّها الدنيا وأحوالها؛ لم يسأل المرض أحدًا قبل إصابته وما طرق الموت باب مغادر.

حاول المغربي حتى التعب، وكثيرًا ما كان يردّد أنّ المحاولة كرهته وأوصدت عليها أبوابها. في البدء حاول أن يبتكر طرقًا ليتجنّب التأتأة، وظنّ أن استفتاحه للكلام بصوت ما سيسهّل عليه الأمر، وابتدع الصوت (آآآآآآ) ثمّ (امممممم). نجح الأمر مرّات وفشل مرّات، لكنّه خاب أكثر مما أصاب. ثمّ ابتدع تكرار الحرف الأول من الكلمة في محاولته لتخفيفها، ونجح الأمر فترة ثمّ فشل. وتقلّب ما بين نجاح تكنيكاته وفشلها، وما انتبه لما سلبته الأيام إذ مضت. واستمرّت أزمته دائسةً على أحلامه وخيالاته، واستمرّ هو محاولًا التخلّص منها؛ قرأ كتبًا لا تحصى وقابل العديد من الأطباء والمعالجين النفسيين والمتأمّلين، لكنّ كلّ محاولاته كانت بلا طائل وما نال منها غير الأحزان والأيام الزرقاء الضبابيّة. ولمّا بلغ الأمر ما بلغ ارتأى أن يعيش ما قيض له ويوطّن نفسه على ما يفرضه عليه وضعه. صعُب الأمر عليه ابتداءً، لكنّ حتمية الاعتياد أنقذته. صار يضحك مع الضاحكين، ويسخر من نفسه إذا أحسّ أنّ أحدًا ما سيقلّل من تلعثمه. درس وتخرج في كلية الهندسة، ودخل سوق العمل. عندما يتلعثم في الكلام مع عملائه كان يصرّ على إكمال حديثه غير عابئ بإشفاق أو تتفيه، وحينما يحاول أحد إكمال كلمة استعصت عليه كان يحدجه بنظراتٍ قاسية قبل أن يستأنف تأتأته بثقة يُحسد عليها. وبدا أنّه طبّع مع حالته، وظنّ النّاس أنّ له روحًا لا تكسر وما علموا بانهياراته الخفيّة ولا أحزانه الدفينة، وما انتظر هو منهم إنصافًا أو تعاطفًا لما يعلمه من أمرهم ودوافعهم.

ومن غير أن يدري وجد نفسه قد تعب من الصبر والمحاولات، وحينما عجز عن إجابة صديق له في ذلك اليوم بالتحديد انكسر شيء ما بداخله بعد سنواتٍ من التحمّل. تهشّمت إرادته كزجاج هشّ، وأظلمت الدنيا عليه فجأة، ورأى ما تجاهله زمنًا طويلًا وانكشفت سوءته أمام عينه فرأى نفسه عاجزًا عن أسهل فعل بشريّ، رأى نفسه شيئًا هلاميًا ناقصًا ومَعيبًا، وفي تلك اللحظة كره اليوم الذي أتى فيه إلى الدنيا، وكره الحياة بكّل ما تحمله من معنى وما لا تحمله. بعد محاولاتٍ عديدة تضخّم لسانه وتخشّب رأسه وجحظت عيناه ونزلت دموعه، ضرب صدره بيأس وخنق رقبته بكلتا يديه، وتحسّس الكلمة متكوّمةً عند حنجرته. جسّها غير مرّة، وتحسّس استدارتها وميوعة تركيبها، أحسّ بها تتغيّر وتتشكّل ثم فجأة ومن غير سابق إنذار تنفجر. وحين عجز تمامًا عن نطق الكلمة التي أراد لفظَها، شقّت فراشةٌ حلقه وطارت، وحلّقت بعيدًا نحو السماوات.

سيردّد الناس لقرون طويلة الجزء من الحكاية الذي يقول إنّ الفراشة وقبل أن تطير بعيدًا نحو الفضاء، اقتربت من وجه عبد المعين، فاردةً أجنحتها الحرشفية ماسحةً بها دموعه المنهمرة. سيذكر الناس فيما سيذكرونه أنّ الفراشة التي خرجت من جوف عبد المعين المغربي كانت من نوع أبولو، وأنّها وعلى غير المعتاد كانت تمتلك ألف جناح ملوّن، وسيتذكّرون أنّها أسكتت جمع الشامتين بطريقة ما خبرها أحد. ولن ينسى الناس أنّ الفراشة ومثلما يحدث في حكايات الأطفال تحوّلت بغتة إلى إحساس. كيف يمكن أصلًا أن تتحوّل حشرة إلى إحساس؟ لا أحد يدري ولن يعلم أحد، لكنّها بالفعل صارت إلى طمأنينة غامرة نزلت على قلب المغربي وغسلته. وسيذكر المغربي -ما تحرك الهواء في رئتيه شهيقًا وزفيرًا- ولن ينسى للحظة السكينة التي نالها بعد أن شقّت الفراشة حنجرته.

سيتداول الناس أنّ الفراشة كانت كلمةً استعصت على عبد المعين، وستعرف الدنيا كلّها ولأزمان طويلة قادمة أنّ الفراشة فعلت الأفاعيل ونزلت على الأرض أمنًا وحياة وسلامًا.حينما طارت الكلمة الفراشة مبتعدة خلّفت وراءها أثرًا من نور، ولمّا سقط النور على الأرض نمت أزهار شتى مثلما يحدث في الأساطير، ولو ما كنتُ شاهدًا على الأمر لما صدّقت، لكنّ الأزهار نبتت تحت قدمي واللبلاب بجانبها تسلّق ساقَيّ. ورأيت الكلمة إياها تقبّل طفلًا باكيًا ليسكت ويطمئن. وعرفتُ أنّ الكلمة ذاتها هبطت على جوعى وأطعمتهم، ونزلت على مفزوعين وحوّطتهم بالسكينة والأمان. وغشِيت وحيدين وآنستهم،  وهدهدت كلّ من عذّبهم الأرق، وكانت هي الخلاص لعاشِقَين استثقلا البوح. وفي مرّة كانت أزهارًا تقصدها جموع النحل، وفي مرّات صارت غابات ترتع فيها الحيوات. وكُتِبت على السماء (سلامًا) في ساحات الحروب، وكانت فرحةً للموجوعين. كانت الراحة لمُمتَحنٍ عصف ذهنه حتى الصداع، والوصول لكاتبٍ حاصرته حبسة الكاتب.

في أحايين كثيرة كانت تتبخّر وتصير سحبًا قبل أن تذوب إلى أمطار. النسائم الباردة التي تعقب أيام الصيف الحارة كانت هي، والبرد الذي ينزل في الليل يقال إنّه بسببها. وقيل فيما يُقال إنّها كانت العزاء لكلّ من لا عزاء له في الدنيا. لن يعرف عبد المعين المغربي أبدًا أنّ كلمة استعصت عليه فعلت الأفاعيل بعدما شقّت حلقه وطارت، ولن يعرف أنّ البشريّة ستتناقل في أزمان لاحقة قولًا شائعًا يقول: (أثر الفراشة لا يرى، أثر الفراشة لا يزول).


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *