الكاتب: دوغلوس جونسون
ترجمة: أتيم سايمون
مراسم الاستقبال:
لم يكن ما تلا ذلك منسقًا بالكامل، بل كان عرضًا مرئيًا للفوضى المنظمة التي وصفها عالم الأنثروبولوجيا سير إي. إي. إيفانز-بريتشارد بأنها سمة مجتمع النوير، حيث قام الأفراد والجماعات بأفعالهم «كما تحركهم الروح»، دون أي هياج ديني. خلال الخطب، إذا شعر أحد بالرغبة بالغناء أو الرقص، بادر إلى ذلك وانضم إليه الآخرون دون تردد.
كانت هناك فرقتان من الشباب الراقصين، يرتدون ملابس كرة القدم ويحملون عصي خيزران ودروعًا معدنية، يتنافسون على النمط التقليدي للـ لو نوير، ويجرون مواجهات رمزية بالرماح. حملت إحدى المجموعات دروعًا سوداء مكتوب عليها «مالي» بأحرف بيضاء، مع شعار مناهض للإيدز، وكان هؤلاء أعضاء مؤسسة تطوير التراث مالي، ومؤسسها شاب يُدعى دينق نيال، يرتدي لباسًا أبيض كاملًا وقطعة قماش بنقش جلد النمر على طريقة الكوار مون، زعيم الأرض لدى النوير، وتولى إدارة المراسم طوال اليوم.
وصل عدد من كبار المسؤولين الحكوميين في أوقات متفاوتة، بينهم لوكا بيونق، وزير شؤون الرئاسة، ومارتن إيليا لومورو، وزير الشؤون البرلمانية، وقير شوانق ألونق، وزير الاتصالات، والدكتور جوزيف مونجتويل، وزير الصحة، ومايكل ماريو، سكرتير بيتر قاتكوث أثناء بدايات البحث، ود. ك. ماثيوز، أكبر الشيوخ الحاضرين. غاب عن الحفل الرئيس سلفاكير، لكونه في بينتيو، وألبينو أكول أكول، وزير الثقافة والشباب والرياضة، لوجوده في الهند.
ظهرت أيضًا مجموعات راقصة من الدينكا من شمال بحر الغزال وواراب، ما أدى إلى توقف المراسم مؤقتًا للتعرف عليهم. حملت فرقة أويل نموذجًا من الورق المقوى لرجل أجنبي (خواجا) بحجم طبيعي، مزوّدًا بأطراف مفصلية للحركة الإيقاعية للرقص.

شارك ريك في الرقص بشكل متكرر، وعندما أعجبه مغنٍ أو راقص، كان يرفع يده فوق رؤوسهم، فيقف الحاضرون ويكررون الحركة. تقدمت مجموعة من النساء حاملة عصي خيزران ودروعًا، فانضمت إليهن أنجلينا، تلتها ريك سريعًا، وكانت ريشة النعام على قبعته تتمايل فوق رؤوس النساء.
غنت الآنسة جوي أغنية حديثة على لحن شرق أفريقي بعنوان طريق نقوندينق. ثم غنت ماري بويوي أغنية حديثة بالعربية مع تكرار بالإنجليزية “أنا مجنونة من أجل الاستفتاء”. وقد حظيت كلتا الأغنيتين بحفاوة كبيرة.
شهدت المراسم العديد من الخطب، معظمها بلغة النوير، مع تنقل بعض الخطباء بين النوير والإنجليزية والعربية أحيانًا. قدم مايكل ماريو سردًا موجزًا لتاريخ نقوندينق، بينما عرض غابرييل سردًا دقيقًا عن تاريخ دانق، وكيف انتهى مع «نياكورييث» وشرائه وخطّة إعادته.
وأخيرًا، حان وقت الكشف عن دانق. وضع ريك حقيبة القنّاص على الطاولة، أحضر ثورًا أبيض للتضحية، وفتحت حقيبة القنّاص لإزالة غلاف الفقاعات البلاستيكي، ثم سلّمت العصا إلى ريك، الذي رفعها بكلتا يديه ليشاهدها أكبر عدد ممكن من الحاضرين.

رغم الضوضاء، بدأت الصور تُلتقط، ولمس القريبون العصا بدافع الفضول، بينما كان المغنيان في جلود الفهد يدخنان بهدوء. وعندما أخرجت كيس تبغ الطبل الذي رافق دانق لعشر سنوات، أعطيا القليل من التبغ ورشّاه على العصا وعلى الثور.
بعد تحريك الثور بعيدًا وسحبه للاستلقاء، نقره ريك برمحه غير الحاد، ثم ذُبح وفق الطريقة الإسلامية، بينما ألقيت كلمة موجزة مع ترجمة غابرييل، مُعبّرًا عن سعادتي بمساهمتي في إعادة دانق إلى وطنه، ليصبح ملكًا لناث، كما يسمي النوير أنفسهم.
بعد المراسم
يبدو أن دانق يولّد قصصه الخاصة. لاحقًا، سألني دينق نيال شيوك: “هل صحيح ما يُقال عن العائلة في إنجلترا التي كانت تحتفظ بالدانق، بأنهم شهدوا الكثير من الوفيات، ولهذا السبب أفرجوا عنه الآن؟” فكان جوابي هادئًا: “يموت كل إنسان في وقته، وأولئك الذين فارقوا الحياة من العائلة توفوا في سن متوقعة”
لم يكن الجميع مسرورين برؤية دانق يُعاد بهذه الاحتفالية الفخمة. انتشرت نظريات المؤامرة، فذهب البعض إلى القول إن ريك يسعى لاستغلال دانق للوصول إلى رئاسة جنوب السودان، بناءً على شائعة تقول إن لمس سلفا كير للدانق قد يودي بحياته.
غير أن الحقيقة كانت أن سلفا كير نفسه أعلن عن عودة دانق في خطاب أمام قادة تقليديين في يوم وصوله، وتبعه إعلان آخر في جوبا خلال الاحتفال المتأخر بيوم الجيش الشعبي. وقد استنكر بعض المسيحيين الحدث ووصفوه بالشعوذة والوثنية، رغم حضور مسيحيين أيضًا لاستقباله، أبرزهم مساعدي البحثي غابرييل قاي ريام، الذي أصبح لاحقًا القس غابرييل قاي ريام.
أبدى أحد أعضاء فرع بول نوير من عائلة نقوندينق، وهو مدير مكتب قائد الميليشيا السابق فاولينو متيب، اعتراضه على أن ريك قد سيّس دانق، مؤكّدًا أنه كان يجب أن يُعاد للعائلة، إلا أن بقية أفراد العائلة أوقفوه عن متابعة هذا الاعتراض.
نظرًا لارتباط دانق الوثيق بنقوندينق وأغانيه ونبوءاته، كان من المحتم أن يشارك في مشهد السياسة الجنوب سودانية. غير أن نبوءات نقوندينق معروفة بالغموض وصعوبة التفسير.
فقد سمعت أول نبوءة منه في عام 1975، والتي تنبأت بوجود حربين أهليتين، واعتُبرت الثانية أسوأ لكنها أقصر من الأولى. وعند محاولة ربطها بالحروب الأهلية في السودان، تبين أنها لم تتحقق بدقة: فقد كانت الحرب الثانية أشد وطولاً بكثير. وإذا أُعيد تفسير النبوءة لتطبيقها على الحربين الأهليتين داخل جنوب السودان، اللتين شارك فيهما ريك، فإنها تقترب أكثر من واقع التحقيق.
في 16 مايو 2009، يوم إعادة دانق إلى جوبا، كان الرئيس سلفا كير ميارديت في بانتيو يخاطب مؤتمرًا لقادة تقليديين، وأعلن في خطابه:
“أود أن أشارككم في هذا اليوم الخاص أن دانق، قائدنا الروحي العظيم قويك نقوندينق، قد أعيد من المملكة المتحدة إلى جوبا في هذا اليوم التاريخي. إن إعادة هذا الأثر المقدس يمثل انتصارًا لشعبنا، إذ يرمز إلى مقاومة شعبنا، وخاصة قادتنا التقليديين… وعلى الرغم من أن هذا الدانق استُخدم في الحرب، فإننا سنحث قادة النوير التقليديين على استخدامه لتعزيز السلام والوحدة بين شعبنا… مبارك لقادتنا التقليديين لاستعادة دانق إلى الوطن. سنحتفظ به كأثر وطني مهم في متحفنا القومي، وأوجه وزارة الرياضة والثقافة لاتخاذ الترتيبات اللازمة بالتشاور مع مجتمع النوير للحفاظ على هذا الأثر القومي الهام.”
اعتُبر دانق ذا أهمية وطنية كبرى، فتم إقامة مراسم ثانية للاحتفال بعودته في جوبا في يوليو من ذلك العام، بحضور الرئيس ونائبه، والوزراء، وأعضاء الجمعية التشريعية الجنوبية، وحكومة ولاية جونقلي، وعدد من الشخصيات البارزة، بمن فيهم قادة ميليشيات سابقون، مثل فاولينو متيب وبيتر قديت، الذي ضحّى بالثيران نيابة عن بول نوير.
كما حضر سايمون ماين توت، الخبير البيطري الذي عرفته في ملكال في سبعينيات القرن الماضي، ورافقني في أول زيارة إلى هرم نقوندينق الترابي قرب وات، وكان في الثمانينيات من عمره. وقد تذكّر هروبه إلى الأدغال عندما جاء جنود الحكومة لمقاتلة قويك في عشرينيات القرن الماضي، وأراد رؤية دانق مرة أخرى قبل وفاته.
نبوءات نقوندينق ودور دانق في الأحداث الراهنة
لم يُنفَّذ التوجيه الرئاسي أبدًا، إذ يعاني قسم الأرشيف والآثار في الوزارة من نقص مزمن في التمويل والكوادر. لا يوجد مبنى متحف لحفظ دانق، ولا مكان آمن مؤقت له، ولا موظفون مدرّبون للإشراف على هذا الأثر الوطني أو أي كنز آخر. بعد الاحتفالات في جوبا، ظل دانق في حوزة نائب الرئيس داخل مجمّعه.
في إحدى المناسبات، حين أعيد قابرييل تانغجا، قائد ميليشيا سابق، إلى صفوف الحكومة عام 2010، أجرى ريك مراسم بالدانق، حيث أمسك به هو وتانغجا ومرؤوسوه معًا. وإذا كان الهدف هو ربط تانغجا بالحكومة أو بريك، فقد فشل. كما استُخدم دانق لجذب قادة معارضين من النوير قبل الاستفتاء، لكن مع إقالة ريك من منصب نائب الرئيس في يوليو 2013 وفراره من جوبا في ديسمبر، أخذ مصير دانق مسارًا آخر.
حتى قبل هذه الأحداث، أثار استخدام دانق كملك شخصي غضب كثير من لو نوير. وقد تلقيت عدة طلبات للتدخل للإفراج عنه، فكان رد ريك أن الوضع الأمني في جونقلي لا يسمح بعد بإعادته إلى لو، وهو تبرير اكتسب بعض المصداقية مع تصاعد النزاع بين لو نوير وجيرانهم المورلي عام 2012، قبل أن يُدمج لاحقًا ضمن النزاع الأوسع في الجنوب في ديسمبر 2013.
تعززت الرمزية السياسية للدانق بمحاولة ريك استثمار مكانة نقوندينق لتعزيز طموحاته. بعض الأعضاء المنشقين عن حركته في التسعينيات حاولوا تبرير أعمالهم بادعاء أنها تحقق نبوءات نقوندينق، واستمرت بعض هذه الادعاءات بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005 وصعود ريك إلى منصب نائب الرئيس.
وردت إشارات أخرى في الأغاني والنبوءات: يُقال إن نقوندينق تنبأ برجُل أعسر اليد وذو فراغ بين أسنانه، وهو الوصف الذي ينطبق على ريك. غير أن هذه الادعاءات لم تصمد أمام التدقيق، فكان نقوندينق نفسه أعسر اليد، وكان دعاة سلام بين أقسام لو نوير وبين جيرانهم، بما في ذلك الدينكا. وعادةً ما يُفهم أي ذكر لرجل أعسر في أغانيه على أنه إشارة إلى نفسه.
أما الأغاني، فهي غالبًا غامضة، تشير إلى أحداث معاصرة منسية يمكن إعادة تفسيرها وفق ظروف اليوم. وقد سجلت نحو 318 نسخة من أغاني نقوندينق بين عامي 1975 و1976، ولم أتمكن من جمع كل ما هو موجود، لكن كثيرًا من هذه الأغاني تُنسب إليه، وذُكر فيها إلهه دينق صراحة.
بالنسبة لنبي غرب النوير، تينج، لم أجد أي إشارة له في مجموعات ما قبل الحرب التي اطلعت عليها. وأي أغنية حديثة تشير إليه فهي إما تأليف حديث أو لأتباعه، ولا يمكن نسبتها إلى نقوندينق.
خلاصة
تحقيق النبوءة صعب، وغالبًا يُقال إنها تحققت بعد وقوع الأحداث فقط. وستستمر أغاني نقوندينق في إلهام التفسيرات، بلغة غامضة تشير إلى أحداث مضطربة يمكن إعادة ربطها بالحاضر، طالما أن واقع جنوب السودان يشبه أزمنة نقوندينق الممزقة والمضطربة.
لا يزال مصير ومكان وجود دانق غير معروف، وقد سيّس ريك استخدامه لدرجة أن دانق لم يعد يُنظر إليه كأثر تاريخي وطني. ومنذ اندلاع الحرب مجددًا، وردت تقارير تفيد بأن ريك ما زال يستخدم دانق كرمز ديني لتعزيز شعور استحقاق ووحدة النوير وراء طموحاته الشخصية، وإذا كان هذا صحيحًا، فإن قوة دانق تكمن في خطره المحتمل، كما كانت على من يمتلكه سابقًا، ويبدو أنه يظل رمزًا محفوفًا بالمخاطر السياسية.
*دوغلاس جونسون هو مؤرخ وباحث أمريكي متخصص في تاريخ السودان وجنوب السودان، معروف بدراساته حول النزاعات المسلحة، الأنظمة التقليدية، والسياسة في المنطقة.
*أتيم سايمون، باحث ومترجم من جنوب السودان متخصص في علم الاجتماع و الانثربولوجيا


اترك تعليقاً