سردية الأسماء وصناعة الهوية الحضرية في جنوب السودان -2

من طونقفينج إلى جوبا نا باري

الكاتب: كريستيان ج. دول
ترجمة: أتيم سايمون
المكان نفسه

في العام 2015، التقيت أنا وصديقي المقرب مكوي بشيخ من الدينكا سأدعوه جون أمام (توكوله) الكبير ذي السقف العشبي (وهو منزل صغير مصنوع من مواد متاحة محليًا) في حي جوبا المسمى (حي غابات). جئنا لنتحدث إلى جون لنسمع تجربته في العيش داخل جوبا وخارجها على مدى العقود الماضية. حي غابات، الذي سُمّي باسم وزارة الغابات التي كان لها مكتب هناك، يُعد حيًا طويل الأمد لكنه “غير رسمي”، لأن سكانه لم يُمنحوا اوراقا رسمية كاملة لقطع أراضيهم وكانوا دائمًا مهددين بالطرد. تصطف على شوارعه الضيقة عدد من الـتوكولات (جمع تكل) والمطاعم المصنوعة من ألواح الحديد، ونظرًا لقربه من نهر النيل، كان دائمًا موحلًا ويغرق أحيانًا، خصوصًا خلال مواسم الأمطار. كانت لجون قطعة أرض صغيرة ضمن هذا الحي الصغير محاطة من جميع الجهات بمطار جوبا الدولي المتوسع، ونهر النيل، وأحد أكثر الطرق ازدحامًا في جوبا، وأحد أقدم وأكثف الأحياء المبنية في جوبا المسمى حي جلابة. هذا الحي المجاور، على عكس حي غابات غير الرسمي، سُمّي على اسم مسؤولي الحكومة الشمالية في السودان “جلابة” في لهجة جوبا العربية تعني “العرب”، أي الشماليون، الذين شيدوا مباني الطوب القديمة هناك من عقود سابقة. كانت هذه المساكن تخدم الآن وظيفة مماثلة، حيث احتضنت الجيل الأخير من صانعي القرار في جوبا: موظفي المنظمات غير الحكومية والمسؤولين الحكوميين.

   كان جون قريبًا من الثمانين، وكان ذا ذاكرة حادة لعقود حياته داخل وخارج جوبا، وهو ما عزاه إلى تنقلاته اليومية وامتناعه الدائم عن الكحول طوال حياته. كانت الفيضانات في منطقة المستنقع شمال شرقي جوبا، حيث نشأ، قد أجبرته هو والعديدين غيره على مغادرة منازلهم، وانتقلوا في منتصف الستينيات إلى جوبا. بنى الوافدون الجدد منازلهم ورعوا ماشيتهم على أراضٍ لم تكن مأهولة آنذاك—“أدغال وغابات”، كما وصفها جون—وأصبحت مواقع للمصارعة والرقص كما كان يحدث في ساحات مدنهم الأصلية. لم يكن الدينكا النازحون سعداء لمغادرة منازلهم، لكن مع شعورهم بالراحة وزراعة محاصيل جديدة ورعاية ماشيتهم، بدأوا يقولون إن مكانهم الجديد جيد تمامًا مثل الأرض التي تركوها وراءهم. وقد منح هذا الأرض التي كانت بلا سكان اسمًا في لغة الدينكا: طونقفينج، بمعنى “المكان نفسه” (من “thöŋ” أي “نفس” و*“piny”* أي “أرض” أو “مكان”). كان الاسم يعبر عن إمكانية بناء مجتمعهم والاعتماد على نفس مصادر الأمن والدخل كما كانوا يفعلون سابقًا، رغم تهجيرهم. يمكنهم بناء حياة جديدة في هذا المكان. كان “thöŋ piny” لأنهم يستطيعون العيش هنا كما عاشوا في أماكن أخرى.

  بينما كان جون وجيرانه يبنون مجتمعهم الجديد وينتظرون الحفاظ عليه مستقبلًا، أصبح الترتيب المكاني للبلاد وسيلة للمناورة السياسية. ففي عام 1972، انتهت الحرب الأهلية السودانية الأولى باتفاق سلام أتاح لقادة حركة أنيانيا المتمردة (التي حاربت من أجل جنوب سودان مستقل) الوصول إلى مواقع السلطة في الخرطوم. ورغم أنهم لم يحققوا هدفهم في إنشاء جنوب مستقل بالكامل، فإن اتفاقية أديس أبابا الموقعة بين زعيم المتمردين جوزيف لاغو ورئيس السودان جعفر نميري أنشأت جنوبًا ذي حكم ذاتي وعاصمته جوبا. لكن الاستوائيين، الذين كانوا يهيمنون على أنيانيا، شعروا بالغضب بسبب عدد المناصب الحكومية في جوبا التي أُعطيت لغير الاستوائيين، خصوصًا الدينكا والنوير، الذين بدأوا يستقرون في جوبا بشكل متزايد. في الأشهر والسنوات التالية، أدت النزاعات داخل النخبة السياسية الجنوبية الجديدة والشعور بأن التفضيل العرقي أثر على توزيع المناصب إلى الدعوة لتقسيم المنطقة الجنوبية إلى وحدات إدارية أصغر. أُطلق على هذه السياسة اسم كوكورا، وكانت تهدف إلى اللامركزية بالإضافة إلى إلزام الناس بالعودة إلى منطقتهم “الأصلية” في أحد الأقاليم الثلاثة التاريخية لجنوب السودان.

   تذكر جون أن الكوكورا أجبرته هو وجيرانه على الاختيار بين الانتقال إلى مكان يكادون يعرفونه أو مواجهة مقاومة مستمرة لحضورهم في المساحة التي اعتبروها وطنًا. في نهاية المطاف، غادر جون جوبا، المكان الذي بنى فيه منازل وحياة مع زوجاته وأطفاله، وانتقل مع أسرته إلى مدينة بور. بعد أن وجد فرص العمل قليلة، توجه إلى الخرطوم، التي كانت آنذاك عاصمة السودان الموحد. مع اندلاع الحرب، ذهب أطفال جون إلى المدارس في مخيم للاجئين في كينيا بينما انضم هو إلى الجيش الشعبي، تاركًا أسرته خلفه أثناء تنقله في البلاد. عندما انتهت الحرب في 2005، حصل جون أخيرًا على فرصة العودة إلى جوبا بعد تلك السنوات المتنقلة. وعندما عاد، وجد هو وعائلته مدينة تمتلئ بالمحاربين القدامى والعائدين من جميع أنحاء العالم، ولم يتعرفوا سوى على عدد قليل من جيرانهم القدامى. كان طونقفينج يُبنى الآن ليصبح “حيًا من الدرجة الأولى”، مع احتلال الأوغنديين والإستوائيين لمعظم الأراضي.

    عند عودتهم، تقدّم العديد من أصدقاء جون إلى السلطات المحلية والوطنية الجديدة للحصول على أراضٍ بالقرب من حيث عاشوا سابقًا. وأشاروا إلى أنه حتى لو لم يكونوا موجودين في جوبا طوال الحرب، ورغم أنهم لم يولدوا هناك، فإنهم قد دفنوا آباءهم وأطفالهم في جوبا. شعروا أن هذا يمنحهم نفس الحق مثل الآخرين في اعتبار جوبا وطنهم.

تُعبر رواية جون عن تجربته وتجارب أصدقائه عن شعورهم أن حياتهم السابقة في جوبا تبرر وجودهم الحالي، وهو أمر بالغ الأهمية، إذ أن التغيرات المستمرة تهدد مطالبتهم بالانتماء للمدينة. وعلى الرغم من أن جون قد ضمن أخيرًا قطعة الأرض التي التقيته عليها في حي غابات عام 2015، وبنى ثلاثة منازل ذات أسقف من القش حيث تحدثنا معه، إلا أنه كان لا يزال يمتلك موقفا رسميًا ضعيفًا عن مكانه في جوبا. وقد تفاقمت النزاعات القضائية المحيطة به بسبب التطورات والتغيرات التي أعقبت الاستقلال في 2011 والأحداث اللاحقة.

جوبا لأهلها من الباري

تختلف روايات الحياة التي سردها لي مواليد جوبا، خاصة المتحدثون بلغة الباري، عن تلك التي رواها لي جون ومكوي. بالنسبة لهؤلاء السكان المحليين، كانت الحروب الأهلية فترات من عدم الاستقرار، بينما كان إنهاؤها—مع التدفق المفاجئ للوافدين الجدد وتحول الواقع السياسي—مصدر اضطراب. سرد لي متحدثو الباري عن العودة إلى أراضي عائلية بعد كل حركة نزوح ناجمة عن الحرب، مما عزز شعورهم بأنهم عادوا إلى موطنهم الشرعي. هذه التجربة من الإقامة المستمرة في جوبا تتناقض مع قصص جون عن النزوح والانتقال المستمر والهشاشة.

  قصة رجل الأعمال واني، على سبيل المثال، تجسد الاستقرار المستمر في حي ذو اسم متنازع عليه. حصل واني على قطعة أرضه بعد اتفاقية أديس أبابا عام 1972م، وبدأ في تأجيرها بعد الحرب الأهلية الثانية، مستفيدًا من ارتفاع قيمة الأراضي مع وصول الوافدين الجدد، خصوصًا النوير. وأوضح أن النزاعات تنشأ لأن نظام توزيع الأراضي لدى الباري قديم ومستقر، بينما “الدينكا يأخذون الأرض” دون اتباع الإجراءات الرسمية.

تُظهر قصص واني وسوكجي وكيتالي، واسم جوبا نا باري نفسه، المدينة كمكان قابل للاستمرارية، حيث يعيش السكان ويحتفظون بالملكية خلال سنوات ما بعد الحرب الثانية وحتى ما بعد الاستقلال. يُترجم الاسم ببساطة إلى “جوبا لأهلها من الباري”، لكنه أيضًا يُفسر من قبل بعض الدينكا على أنه “كل جوبا ملك للباري”، مؤكدًا على ملكية تاريخية وثابتة للأرض، وهو ما يدعم مطالبة السكان الأصليين بالمدينة رغم وجود الوافدين الجدد.

    الاسمان جوبا نا باري وطونقفينج، يقدمان نافذة على الطبيعة المتعددة الأصوات للحياة الحضرية والتبعات المستمرة لتجارب الحرب والسلام المختلفة. يعكس طونقفينج مجتمعًا يخلق استمرارية رغم النزوح، بينما يمثل جوبا نا باري ملكية تاريخية متواصلة للأرض تمتد عبر أجزاء مختلفة من المدينة، مؤكدًا سيطرة السكان الأصليين.

كلا الاسمين يجسدان تجارب مختلفة من الصراع والتغيير، ويتصوران مستقبلًا جنوب سودانيًا وجوباويا قائمًا على التنبؤ والإمكان، مع التأكيد على الاختلاف والانقسام كواقع مستمر في البلاد.

عن الجعة والعمل

خلال فترة عملي الميداني الممتدة في جوبا عام 2015م، كنت أفتخر بالاحتفال باستقلال جنوب السودان بشرب جعة وايت بول، وهي الجعة الوحيدة التي كانت تُصنع في جنوب السودان آنذاك. في أحد الأيام، وأنا جالس خارج منزل صديقي من الزاندي يوسف عند غروب الشمس، أوضح لي أنه لا يهتم بشرب وايت بول. لم يكن شرابًا لكل الجنوب سودانيين، كما ادعى، بل جعة صُنعت لـ“أولئك الناس” المهتمين جدًا بالماشية—الدينكا والنوير والمورلي وغيرهم من الرعاة. كان يفضل استيراد تاسكر من كينيا أو حتى نايل أو بيل من أوغندا. إن شرب هذه المستوردات ربطت يوسف بمجتمع شرق أفريقي يشعر معه بألفة أوسع، ولم يكن يثقل عليه ارتباط الدولة الجنوب سودانية بالرعاة. يعكس تفضيل يوسف شعورًا بالغربة والرفض تجاه أولئك الجنوب سودانيين الذين يعتبرهم مرتبطين بأساليب حياة تختلف جذريًا عن أسلوب حياته، وكذلك شعورًا بالارتباط بجيرانه في شرق افريقيا. قدمت الجعة الأوغندية والكينية نقاط تواصل محايدة—إن لم تكن إيجابية—لتحديد هوية بان-أفريقانية، بينما كان الإحساس بالوطنية المرتبطة بجعة وايت بول محسوسًا على أنه عامل إقصاء.

     يشير شعور يوسف بالاختلاف الناتج عن جعة مرتبطة بالرعي إلى مدى اتساع الفوارق والانقسامات المضمّنة في الأسماء طونقفينج وجوبا نا باري. كما يشير مكمايكل، مستشهدًا بـلوناردي، فإن النزاعات على الأراضي في محيط جوبا “تُعرض غالبًا على أنها صراع حتمي بين الدينكا والإستوائيين”. في هذه الاسترجاعات لإعادة تقييم التصنيفات الاستعمارية، التي تظهر في النقاشات المحلية والسياسات، يُنظر إلى “الدينكا” كمجموعة عرقية واحدة غير متمايزة في مواجهة “الإستوائيين”- وهي فئة ممتدة “تشمل عددًا من الأعراق واللغات وأساليب المعيشة في ما كان يعرف بالمنطقة الاستوائية، والتي قُسّمت الآن إلى ثلاث ولايات هي: وسط، غرب وشرق الاستوائية”.

يكمن في المرجع المكاني المتغير لـجوبا نا باري، وفي محاكاته الضمنية للمحو، وكذلك في اسم “توونق فينج” أي (أرض الفول السوداني)، إدراك أوسع لتقسيم سكان جنوب السودان إلى نوعين متقابلين: الزراعيون والرعاة. هذا التصنيف ليس حصريًا لجنوب السودان؛ كما يوضح كل من لوناردي ومكمايكل، فإنه متجذر في التصنيفات الاستعمارية التي بسّطت الوصف الإثنوغرافي للنشاطات الاقتصادية والهياكل السياسية. ومع أن هذه الثنائية لها جذور تاريخية واضحة وتشوه التعقيدات القائمة، فإنها لا تقل أهمية عند استيعاب المفاهيم المعاصرة للمكان والمجال. بل أصبحت هذه الفروق أكثر طبيعية مع انتقالها تدريجيًا إلى فهم الدولة الجنوب سودانية والمحتوى القومي، كما قرأ يوسف في جعة وايت بول. بيان يوسف بأن هذه الجعة ليست له ليس مجرد دليل على فشل تسويق الجعة (رغم أنه كذلك أيضًا)؛ بل هو تجلٍ عادي لتخيل أوسع ومشاعر عميقة بالانتماء والانقسام.

  في أشكالها المادية والتمثيلية، تمثل الأبقار توترات ومشاعر تمييز أوسع في جنوب السودان. كان ذلك واضحًا في الطريقة التي تحدث بها العديد من متحدثي الدينكا (مثل جون ومكوي) عن فترة الكوكورا باعتبارها فترة تزايدت فيها القواعد القاسية والمدمرة المتعلقة بحفظ الأبقار في المدينة. بالنسبة للآخرين، يُنظر إلى الرعي كعلامة واضحة على اللامعقولية والعدوانية: مصدر الاضطراب في البلاد وشيء يجب إزالته من المدينة. أحد متحدثي الباري ذكر الشكاوى المستمرة لعائلته وجيرانه من الرعاة العراة الذين “استولوا على المدينة وأفسدوها” خلال ثمانينيات القرن الماضي. وفي أبريل 2015، وفي أكبر عرض علني لتلبية هذه المشاعر المستمرة، أصدر الرئيس سلفا كير مرسومًا يأمر الرعاة بنقل قطعانهم خارج ولايتي الاستوائية الوسطى وغرب الاستوائية، ثم خضع هو نفسه لهذا المرسوم بنقل قطيعه الضخم إلى منطقته في ولاية واراب.

  يجادل كل من لوناردي (2011) ومكمايكل (2016) بأن هذه القصص العرقية تُخفي ما يمكن فهمه بشكل أفضل على أنه تكوين طبقي وتأثير الدولة المتزايدة الاستخراجية.

عند مناقشة المستوطنات غير الرسمية في جوبا، تشير مكمايكل إلى أن النزاعات على الأراضي-رغم أنها تُؤطر بخطاب عرقي-ما هي إلا نتيجة تنظيم غامض يُمكن التلاعب به بسهولة لخدمة مصالح النخبة وشركائهم. تحت النزاعات الأرضية التي شهدتها، “كان كل من الوافدين الجدد والسكان الفقراء طويلو المدة في المدينة يعانون بشكل متزايد في المنافسة على الوصول الآمن للأراضي الحضرية، بغض النظر عن أعراقهم، أو ما إذا كان الآخرون يصنفونهم كـ ‘دينكا’ أو ‘استوائيين’”. كما فسّر لوناردي، وبشكل استفزازي، سرد قصص الاستيلاء على أراضي جوبا بـ“دلاء الدماء” على أنها تعكس مخاوف من دولة عنيفة وقسرية تُزيح نظم توزيع الأراضي العرفية وتستبدل أنظمة القرابة بـ”اقتصاد حضري نقدي” متمركز حول الحكومة.

    تزايد شعور الحرمان هذا مع توسع الدولة وآلية المساعدات الإنسانية في جوبا. عند حديثي مع الشباب في المدينة، خاصة طلابي في جامعة جوبا، كنت أسمع باستمرار إحباطهم من صعوبة الحصول على وظائف سواء مع الحكومة أو في قطاع المساعدات الإنسانية. كانوا يروون الأسابيع التي قضوها في التواصل المهني، أو العمل التطوعي على أمل الحصول على مكافأة مستقبلية، والرد المستمر على الوظائف المنشورة على الإنترنت أو على لوحات خارج مقار الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية.

   اشتكى متحدثو الدينكا الشباب من أنهم لم يُنظر إليهم أبدًا لشغل وظائف المنظمات غير الحكومية، إذ يهيمن عليها الإستوائيون الذين يضمنون توظيف أفراد عائلاتهم وأصدقائهم فقط. في المقابل، اشتكى القادمون من الولايات الإستوائية، سواء كانوا من الباري أو الأشولي أو الزاندي، من أن معظم المكاتب القومية ممتلئة بأفراد من عائلة “الرجل الكبير”، الذين يتدفقون إلى جوبا لاحتلال وظائف في مكتبه فور تعيينه. وأوضح بعضهم تجربتهم في دخول مكتب حكومي وسماع الموظفين يتحدثون فقط بالدينكا بدلًا من اللغات الأكثر شيوعا مثل الإنجليزية أو العربية.

     وفقًا للرواية الأولى، كانت الحكومة “مهيمن عليها من قبل الدينكا”، مع وظائف مخصصة فقط لمن سيطر على الحركة الشعبية والجيش الشعبي، واعتبر التوظيف الحكومي من غنائم الحرب. وفقًا للرواية العكسية، فإن قرب مناطق الإستوائيين من كينيا وأوغندا يعني أن سكانها متصلون بشكل أفضل بالمجتمعات الإنسانية المهنية في تلك البلدان، وأكثر احتمالًا أن يكونوا قد تلقوا تعليمًا باللغة الإنجليزية، مما منحهم مؤهلات تعليمية ومهنية أكثر وضوحًا عند التقديم للوظائف في المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة مقارنة بمن درس في الخرطوم أو في مخيمات اللاجئين.

إذن، المجالان الرئيسيان للتوظيف في جنوب السودان—القطاع الحكومي وقطاع المنظمات غير الحكومية—اللذان كانا السبب الرئيسي لجذب الناس إلى جوبا، يتم اختباره بشكل مختلف باعتباره غير متاح إذا لم يكن الشخص عضوًا في مجموعة عرقية معينة لها تاريخيًا وصول إلى هذه المجالات وبالتالي تثبيت سيطرتها عليها. هذا التكرار المستمر، وهو سمة أساسية للنقاشات حول الفساد والقبلية في شوارع جوبا، يفسر الإحباط الناتج عن الفشل في الحصول على إحدى الوظائف الوفيرة التي كانت السبب في جذب الناس إلى جوبا في المقام الأول. مثل أسماء الأماكن، تُترجم هذه الوظائف إلى خطاب عرقي ومكاني قائم، وتساعد على فهم كيفية بقاء وفرة المدينة الظاهرية بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين.

ذاكرة العنف وإعادة تشكيل الفضاء بالقوة

وسط الأسماء والخطابات المكانية الأوسع التي تشير بطرق مختلفة إلى الاحتلالات السابقة لجوبا وتعيد صياغة الفضاء في الحاضر، هناك أسماء تستحضر التجارب الجماعية ومقاومة العنف القسري للدولة في الماضي. على سبيل المثال، كما سمعت بصيغ متقاربة في محادثاتي مع سكان جوبا المتواجدين في مواقع مختلفة، أن أحد أقدم وأكبر أحياء جوبا يُسمى “اطلع برة”، والذي يعني “اخرج” بالعربية. هذا الاسم يشير إلى فترة كان فيها هذا الحي المملوء بالجنوبيين يخضع لتمشيط جنود الحكومة خلال الحرب الأهلية السودانية الأولى. بحثًا عن المتمردين أو مؤيديهم، كان الجنود يأمرون جميع أفراد الأسرة قائلين لهم “اخرج”، ثم يقومون باعتقال الرجال، ووفقًا للعديد من الروايات، يسيئون معاملة النساء قبل الانتقال إلى منزل آخر.

    حي آخر يُدعى “رجل مافي”، يستمد اسمه من محاولات لتجنب هذه المداهمات عبر نقل جميع الرجال إلى أجزاء من المدينة يُرجح ألا يتم تمشيطها قبل حلول الليل. عندما وصل الجنود الشماليون وصاحوا بـ“أطلع برة”، كانت النساء يرددن “رجل مافي”، أي “ليس هناك رجال”. لقد احتفظت كل من اطلع برة ورجل مافي بهذه الأسماء حتى اليوم، مما سمح للحظة ماضية من العنف الحكومي—والمقاومة الصامتة—بالاستمرار في وضع بصماتها على المدينة وتخليدها. هذه التسميات، كما ناقشنا أعلاه، تحاول إعادة صياغة الماضي وفهمه، وتُعرض كرمز للمقاومة والصمود التي سبقت تحرير جنوب السودان.

مع اندلاع الصراع في البلاد في أواخر العام 2013، شهدت جوبا مرة أخرى عنفًا لا يوصف، مما دفع الكثيرين (وخاصة النوير، الذين استهدفوا بسبب ولائهم المفترض لنائب الرئيس السابق ريك مشار والحركة الشعبية–في المعارضة التي تأسست حديثًا) إلى الفرار من المدينة أو اللجوء أولًا إلى مقار الأمم المتحدة ثم إلى المخيمات الوقائية المنشأة حديثًا على أطراف المدينة. لقد رأيت مثالًا صغيرًا على استجابة مكانية لهذه الأحداث في إحدى جولات المشي مع مكوي.

أثناء سيرنا في شارع رئيس، أشرت إلى المكان الذي كان قد استضاف فعالية حضرها هو معي في أغسطس 2013: اجتماع لغالبية من دينكا شيج من يرول (في وسط جنوب السودان). غمر الحدث الجماعي الشارع بأداء أغاني ورقصات تقليدية بلغة الدينكا من مجموعة ترتدي الملابس التقليدية، تلاها تواصل اجتماعي استمر حتى وقت متأخر من الليل. عندما سألت مكوي عما إذا كانت هذه الفعاليات ما زالت تُقام، أخبرني أنها توقفت في 2014 لأن أي احتفال أو عرض لهوية الدينكا في جوبا أصبح مثيرًا للانقسام. وأضاف مكوي أن هذه الفعاليات باتت تُفهم كعرض للسيطرة على المدينة والدولة من قبل أشخاص يُفترض بعضهم أنهم داعمون وموّجهون لنظام جديد من العنف القسري.

  يشير إنشاء المخيمات بعد انتهاء الحرب وتنازل الناس عن هذه المساحات وتوقف مثل هذه الأنشطة إلى مدى السرعة التي تعيد بها الأحداث الكبرى تشكيل المدينة وتتدخل في ملامحها واستخداماتها الصغيرة للمكان. أما كيف ستعيد هذه الحلقات العنيفة الأخيرة تشكيل الفضاء الجوباوي، وكيف ستصبح مذكورة ومخلدة في الذاكرة، فلا يزال أمرًا لم يُحسم بعد. إن تسمية مناطق من المدينة على أحداث نموذجية للعنف الحكومي تقدم لمحة عن الطرق التي تمنح بها أسماء الأماكن صوتًا للصدمات الجماعية، وتفتح سبيلًا لتجاوز هذه اللحظات دون إنكارها. مثل طونقفينج وجوبا نا باري، تقوم هذه الأسماء بترويض الأحداث التاريخية لتوفير مساحة لحاضر ومستقبل حضري مشترك بشكل متزايد، وإن اختلفت تجاربه.

خاتمة

بعد العديد من محادثاتي مع الناس حول أسماء أحياء جوبا وتجاربهم وذكرياتهم المتعلقة بالتغير المستمر للمدينة، لاحظت بشكل متزايد لافتة كنت أتجاوزها كثيرًا. كانت معلقة أمام عيادة صغيرة تُدعى موروبو، مقابل الشارع من المحلات المهدمة التي وُصفت في بداية هذا المقال. بينما تحتوي معظم اللافتات في المنطقة على عبارات طونقفينج وجوبا نا باري، تشير لافتة عيادة موروبو إلى أنها «فرع جوبا نا باري، طونقفينج». تعترف هذه اللافتة بـتعددية لا يمكن إنكارها، وفي الوقت نفسه تقدم شكلًا من أشكال المصالحة بهدوء. كما هو الحال في هذه اللافتة، سيستمر كلا الاسمين في التواجد في الحي مع نموه وامتزاجه وتغيره. إن الاختيار بينهما سيُقيّد المنطقة بشيء أحادي البُعد، وسيفترض تاريخًا واحدًا بينما ينكر الطبيعة المفتوحة والمستمرة للمكان.

لافتة عيادة موروبو مكتوب عليها «فرع جوبا نا باري، طونقفينج»

مع استمرار عملية إعادة دمج المتمردين السابقين الجدد (أولئك الذين قاتلوا الحكومة منذ عام 2013 فصاعدًا) في الدولة، وما يرافق ذلك من هجرة ودخول وخروج من مخيمات حماية المدنيين التابعة للأمم المتحدة، بعد توقيع اتفاق سلام جديد، بدأت جوبا مرحلة جديدة من التحوّل. من المؤكد أن تظهر إعادة تشكيلات جديدة، وتجسيدات مكانية، وتسميات، وعلامات، وتخليد للذاكرة.

ستظل المدينة واقعًا مفتوح النهاية يمكن للناس من خلاله إيجاد وسائل لإعادة توجيه الماضي وصياغة حاضر وحضور، بينما يبنون مستقبلًا جديدًا. مثل المدن في جميع أنحاء العالم، ستستمر جوبا في تكوينها من مجموعة متعددة من “القصص حتى الآن”.

يشير سردي لكيفية تحول طونقفينج إلى جوبا نا باري وطونقفينج، ووضعه ذلك ضمن الفهم الأوسع الإثنو-مكاني، ومشاعر الوصول إلى مجالات العمل، وتخليد العنف الماضي، إلى مدى ما هو على المحك عندما يتعلق الأمر بالتسمية وصنع المكان في المدن المتأثرة بالنزاع. الأسماء المرتبطة بالذاكرة والمستقبل تعبّر عن تجارب مختلفة للمدينة من خلال توفير مساحة للقادمين الجدد أو توسيع مطالب المستقرين منذ زمن طويل. سيكون من المبهج جدًا قراءة هذه الروايات والتسميات المتنوعة على أنها تعكس معارضة جوهرية، فهي تحوّل لحظات الصراع إلى فرص لبناء الحياة والمشاركة في المجتمع والإبداع المشترك المتبادل. كما أنها تظهر إعادة صياغة المدن بشكل متعدد الأصوات وحواري، لا جدلي، على عكس خطة هيمنة واحدة أو غائية وطنية من أعلى إلى أسفل. في المدن التي تشهد تغيّرًا سياسيًا، تحافظ الاستراتيجيات الخطابية والأفعال الطموحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كريستيان ج. دول، الاستاذ بقسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، جامعة ولاية نورث كارولاينا، رالي، نورث كارولاينا 27695، الولايات المتحدة الأمريكية.

*أتيم سايمون، باحث ومترجم من جنوب السودان متخصص في علم الاجتماع و الانثربولوجيا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *