تقدمة للمختارات الأدبية
تم الجمع والإختيار للنصوص بتاريخ 27 سبتمبر 2023م
اختيار وتقديم مأمون الجاك
وجد الكُتاب والأدباء السودانيون بعد حرب الخامس عشر من أبريل، أنفسهم أمام مصير مُفجع واستعارة مريرة لشيء يحدث الآن ودومًا: الاختراق المستمر من قبل التاريخ – متمثلا في جيوش وقوى أيديولوجية محركة له– لحيواتنا اليومية واستيلائه عليها، والانتهاك الذي لا سبيل إلى وقفه. على التاريخ أن يمر، غير آبه بنا، و لكي ننجو من الانسحاق والتحطيم علينا أن نتوقف أو نغير مسارنا. بالنسبة لطفل صغير وأبله لم يعيا بعد معنى التاريخ، ولا قدرة لهما على الفعل، على المشاركة في إنتاجه – ككل الهامشيين- لا سبيل لهما سوى الاكتفاء بالتأثر به وعدم الوعي بهذا الأثر حتى.
هذه النصوص الأدبية المختارة، المكتوبة في زمن حرب الخامس عشر من أبريل، قام بتجميعها وتدوينها وكتابة تقدمة لها الكاتب: مأمون الجاك، تتخذ إلى جانب قيمتها الجمالية، قيما أخرى ذات بعد إنساني في حفظها آلام الأفراد ومعاناتهم الفائقة حيال الحرب فـفي نهاية الأمر فإن “التاريخُ يكتب مستريحَ الضمير أنَّ الحرب قد انتهت، وآنَ أوانُ الاحتفال؛ لأنَّه لم يعُدْ يسمعُ صوتَ البنادق التي انطفأتْ، لكنَّ الأدبَ وحده هو من يظلُّ ساهرا مؤرَّقاً يصغي لدويِّ طلقاتها في الدهاليزِ القصيَّةِ للروح، ويتسمَّع لدبيبها وهي تتجمَّعُ مرةً أخرى قطرةً قطرةً ، الحرب التي انتهت ظاهريا، لكنها ما زالت تنشب مخالبها في خلايانا، وفي أحلامِ أطفالنا، وفي مخازن الأسلحة التي تتراكم بعيداً عنَّا – الأسلحة التي تنتظر شركاتُها بصبر لتمزِّق جلودَنا كضباع… ففي أي كتاب من كتب التاريخ يمكن أن نجد أنفسنا في أتون ذلك الجحيم عن علل الحرب التي لا تُداوى؟”[i] ولكن الأدب كذلك قاصر عن بلوغ المأساة، فـ “الخراب أيضاً جنين شرعي للحرب. ما نكتبه هو النسخة المخففة لكل الخراب الوحشي الذي يتجول في عيون الناس أو في نفوسهم. التهشم الملعون لسقف العالم فوق رؤوسنا أكثر وحشية من الذي يقرأه الناس في أضابير الروايات المكتوبة، للنفس الإنسانية فلتر شديد التنقية لما يعبر بالمجال النفسي للشخص/الكاتب، ذلك السقوط المريع للأشياء: حريق، أعضاء بشرية تعرض في مفروش سراً وعلانية، أحلام تذبح في بريق المقولات الدينو-وطنية ، نساء يفترشن أعضاءهن التناسلية في سبيل الوجبات السريعة، فلول من أبناء جيلي في مواجهات دموية مع الماضي منحازين لمستقبل مُبهم وغير موجود بالأساس، الأمم المتحدة تقيم مهرجانات لتكريم ناجين من حروب هي نفسها -الأمم– اليد العليا في تغذية كلابها السعرانة، وبانكي مون في القنوات الدولية يُصاب بالقلق”[ii].
حين استحال صباحُ الخرطوم لرائحة الدمِ والبارود
موافي يوسف
عند الخامسة صباحاً، وبينما زرقة الفجر الواهية تخبو رويداً رويداً، وطيورٌ في البعيدِ تفتحُ شبابيك أعشاشها وتمد أعناقها الصغيرة، وصفحةُ النيل النائمة أمواجها تبدو ساكنة كصقيع سيبيري، والهواءُ مثقل بذرات الغبار ونذر الشؤم، وأنوارُ البنايات الخرطومية آخدةٌ بالانحسار، وأعمدة الإنارة وأسلاك كهربائها هناك قرب جامعة الخرطوم أصابتها رجفاتٌ طفيفة لسببٍ مجهول فضرب طائرٌ غريب جناحيه الضخمين محلقاً وزاعقاً بصوتٍ خدش ثقل الصمت الحذر والهواء الثقيل، وعند بري الدرايسة طفلٌ رضيعٌ استيقظ إثر هزةٍ بجسده حرك رأسه المستديرة الصغيرة بصورة آلية مثل روبوت وماء كقطٍ حزين قبل أن يستعيد نومته، أغنامٌ في أحياءٍ طرفيةٍ عند شمبات نفضت أوبارها برجفةٍ مفاجئةٍ وثغت، وكلبٌ رابضٌ بالجوار نفض عن رأسه وأذنيه ورفع قائمه الخلفي وتبول ثم عوى كجريح وأخذ يدور حول نفسه عكس عقارب الساعة، إذاك بدت موجاتٌ صغيرة تُولدُ من ظهر النيل وتُحرِّك مراكب صيدٍ خشبيةٍ بالموردة، عرباتٌ في الشوارع والبيوت ما تزال في سُباتها الحديدي دون علمٍ لها أنها قد تطول في ذلك، ستائرُ غرفٍ بالعمارات وعبر نوافذٍ لم تغلق جيداً أخذت بالرفيف إثر علةِ نسيمٍ متحفذ، قططٌ ضالة بالخرطوم ٢ تتمطّى بقوائم مشدودةٍ وظهرٍ مقوّس ثم تتثاءبُ بلزوجةٍ قبل إدراكها أن ثمة شيئاً طارئاً على وشك الحدوث، حركةٌ خفيفة لملاعق ترنُّ وصوت شايٍ يسكب ورائحة حليب في مكانٍ ناءٍ بأمدرمان، وأكياسٌ وقصاصات كراتينٍ قرب المطابع بدأت تمشط شوارع العربي إثر نفخةٍ مفاجئة من الهواء، وسُمعت وسط كل اللزوجة المثقلة لصباحٍ غير اعتيادي، أول تعميرةٍ لسلاحٍ جنجويدي، يحيلُ صباح ذلك الثقل الهيولي إلى خفةٍ قاتلة، وسرعان ما تعبّق هواء الخرطوم لصباحٍ تغيرّ فيه الكثير ونُزعت منه رائحة النيل لرائحة الدمِ والبارود.


اترك تعليقاً