البنية الحاكمة للمونجيي – ميجي عند (الأوتوهو) بجنوب السودان
للكاتب: ستيف باتيرنو
ترجمة: أتيم سايمون
خلفية تاريخية:
في التاريخ القريب، يُعتقد أنّ شعب الأوتوهو قد هاجر من منطقة تقع شرقًا، يُرجّح أنها تقع ضمن الحدود الحالية لجمهورية إثيوبيا الفدرالية، وذلك قبل نحو أربعة إلى خمسة قرون، واستقرّوا في موطنهم الحالي الواقع في مقاطعة توريت بولاية شرق الاستوائية في جنوب السودان.
ورغم محدودية المصادر التاريخية المتوفّرة – سواء الشفوية أو المكتوبة – حول أصولهم الأولى ومسارات هجرتهم، فإن الروايات المتوارثة تُجمع على أنّ الهيكلين السياسيين التقليديين للمونجيي-ميجي والأبالوك قد لعبا دورًا محوريًا أثناء فترة الهجرة، فقد تولّت هاتان المؤسستان مهامًا أساسية مثل تأمين الحماية والسلامة الجماعية، واتخاذ القرارات المتعلقة بتوقيت التنقّل ومواقعه، وتحديد أماكن الاستقرار الدائم، وهي مهام تُشير إلى الطبيعة التنظيمية المبكرة للسلطة السياسية لدى الأوتوهو.
أما نظام الممالك ضمن البنية السياسية للأوتوهو فقد نشأ في مرحلة لاحقة، يُقدَّر أنها تعود إلى نحو ثلاثة قرون مضت، بعد استقرارهم في موطنهم الحالي، ومع مرور الزمن، تطوّر النظام الملكي إلى مملكتين منفصلتين، وهو موضوع لا تتناوله هذه الدراسة بالتفصيل.
وتتوفر اليوم تفاصيل أوفر حول تطور النظام الملكي للأوتوهو مقارنة بمراحل الهجرة الأولى، نظرًا لتداول عدد كبير من الروايات الشفوية عبر الأجيال حول تلك الحقبة التأسيسية، فعلى سبيل المثال، يمكن تتبّع تسلسل الفئات العمرية ضمن مؤسسة المونجيي-ميجي بدقّة، وصولًا إلى ما يقارب 286 عامًا من تاريخ استقرارهم الحالي، وهو ما يسمح بفهم دقيق للأدوار التي أدّتها هذه الفئات داخل المجال السياسي والاجتماعي للمملكة وخارجها.
ومن منظور تاريخي مقارن، يُمكن القول إن النظام الحاكم الكامل للمونجيي-ميجي – الذي يضم مؤسسات المونجيي-ميجي، والأبالوك، والهوبو – أقدم عمرًا من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفها اليوم، ما يعكس عمق هذا النظام وامتداده الزمني كأحد أقدم أشكال التنظيم السياسي الإفريقي القائم على التراتبية والقرابة والعرف.
يمكن تتبّع فترة استقرار الأوتوهو في موطنهم الحالي بدقة نسبية، نظرًا لاعتمادهم نظام نقل السلطة إلى جيل جديد من المونجيي-ميجي كل اثنين وعشرين عامًا، تُعدّ هذه الدورة الزمنية أساسًا لتحديد الفئة العمرية الحاكمة ضمن النظام التقليدي، وتُحتفل بها في مراسم مهيبة تُعرف باسم إفيرا (Efira) على مستوى المملكة، غالبًا برئاسة الملك أو الملكة، بعد أن تُقام مراسم نقل السلطة على مستوى القرى قبل عام من الاحتفال المركزي.
ولإتمام هذا الانتقال الرسمي للسلطة، يجب أن يخضع كل فرد مؤهل للانضمام إلى المونجيي-ميجي أولًا لمراسم التهيئة الأولية في قسم القرية المعروف باسم الأمانغات (Amangat)، وذلك بعد تخرجه من رتبة إيتو هورونغ (Eito Horwong). ويُلاحظ أنّ كل أمانغات يُخصَّص له بنيته الطقسية الخاصة التي تشمل: بيت الطبول، محراب خشبي مخصص للطقوس، ساحة للرقص، ومساحة اجتماعات خاصة بأعضاء المونجيي-ميجي.
الفئات العمرية للمونجيي-ميجي
تمتد دورة الفئات العمرية للمونجيي-ميجي على مدى اثنين وعشرين عامًا، وتنقسم داخل هذه الدورة إلى أربع مجموعات أو بيوت Asik وفقًا لمفهوم الفاصل العددي البسيط. فيما يلي التصنيف حسب وقت تولي السلطة والمهام التي سيؤدونها خلال الفترة القادمة من عشرين عامًا تقريبًا:
- اليوهاغي ايتا-بوتاي (Elohagi eta-botie) (البيت الأول: يُعدّ هذا أقدم الفئات العمرية ويعمل أعضاؤه كرؤساء أو أهو (Ahou)، أي القادة التنفيذيين الجماعيين، يتراوح عمر هذه الفئة من 38 إلى 44 عامًا تقريبًا.
- إليوهاغي ايتا-هاريهي (Elohagi eta-harihi) (البيت الثاني: عرفت هذه الفئة باسم أموروت (Amurut)، أي “الرقبة”، نظرًا لدورها في حمل ودعم السلطة التنفيذية، يعملون كمساعدين للبيت الأول في إدارة شؤون الحكم، تتراوح أعمار هذه الفئة بين 32 و38 عامًا تقريبًا.
- إليوهاغي ايتا-هونيهي (Elohagi eta-hunihi) (البيت الثالث: تُعرف هذه الفئة باسم أسوهي/إهيجي (Asuhe/Ehiji) أي “الصدر أو الوسط”، وتُكلّف بتنفيذ وتطبيق القرارات، يمتد عمر أعضاء هذا البيت من 25 إلى 33 عامًا تقريبًا.
- إليوهاغي ايتا-انغاني (Elohagi eta-angani) البيت الرابع: يُمثّل هذا البيت الدرجة الأخيرة ضمن تصنيف أعضاء المونجيي-ميجي، يعمل أعضاؤه مستشارين للجيل القادم الذي سيتولى قيادة الفئة الحاكمة المقبلة، كما يساهمون في تنفيذ القرارات بالتعاون مع البيت الثالث، تتراوح أعمار هذه الفئة بين 20 و27 عامًا تقريبًا.
مع ذلك، هناك مرونة محددة حسب الظروف السائدة، إذ يمكن للفرد داخل فئته العمرية أن يرتقي إلى رتبة أعلى أو ينخفض إلى رتبة أدنى، لأن العمر وحده ليس العامل الحاسم لتحديد تصنيف الشخص، ويصاحب هذا التصنيف الالتزام الصارم بالأقدمية داخل النظام.

عند المشاركة في تشكيلات مشتركة، مثل إعداد المواقف الدفاعية أو الهجومية، أو عند الاحتفال بالمناسبات الطقسية المشتركة التي تُقدّم فيها المأكولات والمشروبات لجميع فئات المونجيي-ميجي، تُرتّب الفئات العمرية وفق تصنيفها العددي بحيث يتعاون أعضاء البيت الواحد مع نظرائهم من نفس البيت في الأجيال السابقة، وهذا يعني ببساطة أنّ أعضاء نفس البيت يدعمون بعضهم بعضًا في جميع المهام المشتركة.
المونجيي-ميجي والعالم الخارجي
يعود أول تواصل مسجّل حديثًا للمونجيي-ميجي مع غير السكان الأصليين لجنوب السودان إلى نحو قرنين مضت، خلال الغزوات التركية-المصرية على ما كان يعرف آنذاك بالسودان. ولم يكن هذا اللقاء ودّيًا، بل جاء مليئًا بالتوتر والصراعات، كما تصور الروايات الشفوية التي انتقلت عبر الأجيال، فقد خلّفت أغاني الحرب المنقولة شفهيًا صورًا لتفاعلات عدائية بين المونجيي-ميجي والغزو التركي-المصري.
كما تُشير السجلات التاريخية للمستعمرين إلى فترات صعبة عاشها شعب الأوتوهو خلال تلك المرحلة، فقد زار السير صموئيل بيكر، المستكشف البريطاني الشهير المكلف بإنشاء نظام حكم في منطقة الاستوائية وقمع تجارة الرقيق، وأمين باشا، أعلى مسؤول تركي-مصري في المنطقة، أراضي الأوتوهو، وكانا من أوائل الشخصيات المهمة التي وثّقت المجتمع الأوتوهو. وأظهرت تقاريرهم وجود نظام سياسي تطوري متقدم لدى الأوتوهو، مما أثار اهتمام الباحثين والأنثروبولوجيين في الأجيال التالية، الذين اعتبروا نظام المونجيي-ميجي نموذجًا أوليًا للتنظيم السياسي من منظور أنثروبولوجي.
بحلول أوائل القرن العشرين، دخل الاستعمار الإنجليزي-المصري كقوة غازية جديدة لتولي حكم السودان بعد هزيمة الحركة المهدية الإسلامية، التي كان مقرّ قيادتها في الخرطوم. تجدر الإشارة إلى أنّ الحركة المهدية أطاحت بالحكم التركي-المصري، لكنها لم تتمكن من ترسيخ موطئ قدم لها في جنوب السودان خلال حملتها العسكرية الناجحة في شمال السودان ومنطقة دارفور.
وخوفًا من المغامرات العسكرية للحركة المهدية، فرّ المسؤولون والجنود الأتراك-المصريون المتمركزون في جوبا إلى أوغندا. بعض هؤلاء المسؤولين والجنود الذين استقرّوا في شرق إفريقيا أسسوا فيما بعد قبيلة مميزة تُعرف باسم النوبي (Nubi) في أوغندا وكينيا، وتتميّز هذه المجموعة بممارستها الدين الإسلامي، وباستخدام اللغة العربية المنطوقة بشكل غير مألوف، وبارتباطها القوي بالسودان عامة، وجنوب السودان خاصة.
عند وصولهم إلى أراضي الأوتوهو، اعتمد البريطانيون على استغلال النظام السياسي القائم مسبقًا لتوسيع نطاق حكمهم، وهو ما عُرف بسياسة “الحكم غير المباشر”، ومن خلال هذه السياسة، قام المستعمرون باستغلال مؤسسات الهوبو والأبالوك بشكل مكثف، من خلال تمكينهم سياسيًا وعسكريًا، بما في ذلك تزويدهم بالرشاشات والذخائر، للأسف على حساب المونجيي-ميجي.
ونتيجة لذلك، أصبح الهوبو والأبالوك أكثر قوة وأخذوا يتصرفون أحيانًا بشكل معادٍ للمونجيي-ميجي، من الأمثلة البارزة على ذلك الأمير لومورو، الوريث الشرعي لمملكة هوجانغ، الذي تلقّى دعمًا هائلًا من المستعمرين البريطانيين، ومع الوقت، أصبح الأمير قويًا إلى حد تشكيل جيشه الخاص المعروف باسم الجيش الملكي، وقد قام جيشه بموجب أوامره بـ شن الغارات، والاختطاف، وعمليات النهب.
في النهاية، تم طرده من قرية تيرانغوري (Tirangore) مقرّ مملكة هوجانغ، على يد المونجيي-ميجي، ولاحقًا، تعرض الأمير القوي لاغتيال ضمن مؤامرة تورّط فيها بعض أعضاء المونجيي-ميجي، ما يعكس تعقيدات التفاعلات بين السلطة التقليدية والنفوذ الاستعماري، والصراع على السلطة داخل النظام السياسي للأوتوهو في تلك المرحلة التاريخية.
لقد استطاعت الكنيسة الكاثوليكية أن تخترق مجتمع الأوتوهو عبر استغلال القيم والأعراف الثقافية القائمة مسبقًا، مما سهّل عمليات التبشير المسيحي بين السكان. ويجدر بالذكر أنّ خطة التحويل إلى المسيحية في جنوب السودان كانت جزءًا من الاستراتيجية الكبرى للحكم البريطاني الاستعماري، والتي هدفت إلى منع انتشار الإسلام جنوب خط الاستواء، فقد كانت حركة المهدية في شمال السودان تُعدّ بمثابة تهديد شديد، يمكن مقارنتها بما تمثله اليوم حركات مثل القاعدة، طالبان، الولي الفقيه الإيراني، والشباب، وفقًا لتصور المستعمرين البريطانيين، الذين رأوا في هذه الحركة خطرًا وشيكًا على استقرار المنطقة الجنوبية.
من خلال تنفيذ هذه السياسة بصرامة، تمكن البريطانيون من تحقيق سيطرة واسعة على شعب الأوتوهو، واكتشفوا أنّ أعضاء المونجيي-ميجي كانوا مناسبين للتجنيد العسكري نظرًا لانضباطهم الشخصي، قدراتهم البدنية العالية، وسرعة تعلمهم وتكيفهم مع الظروف المتغيرة بسرعة.
وقد شارك بعض هؤلاء الجنود ضمن قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، في حملة كبرى بأثيوبيا، وشكّل غالبية هؤلاء لاحقًا لبنة أساسية للأفراد الذين قادوا تمرد توريت الشهير عام 1955 ضد الحكومة السودانية في الخرطوم، ويُعد تمرد توريت 1955 نقطة البداية التاريخية لنضالات جنوب السودان المسلحة من أجل التحرير، والتي توجت باتفاق السلام الشامل عام 2005، والتي أدت في نهاية المطاف إلى استقلال جنوب السودان في العام 2011.

أثناء الحرب الأهلية السودانية الأولى (1955-1972)، أصبحت أراضي الأوتوهو تلقائيًا أحدى ميادين الحرب، ليس فقط لأنها المنطقة التي انطلقت منها شرارة النزاع، بل أيضًا بسبب الطبوغرافيا الاستراتيجية للأرض التي وفّرت ميزة تكتيكية كبيرة لمقاتلي جنوب السودان المتمردين من حركة الأنانية الأولى في تنفيذ عمليات العصيان والتمرد بفعالية.
ونتيجة لذلك، أعلنت الحكومة السودانية في الخرطوم سياسة الأرض المحروقة، حيث تم الهجوم على العديد من القرى وإحراقها بالكامل، وقد استُهدف أعضاء المونجيي-ميجي بشكل مباشر، سواء بالاعتقال أو القتل.
انضم بعض أعضاء المونجيي-ميجي إلى حركة أنيانيا لتشكيل لبنة أساسية للقوى القتالية، بينما فرّ آخرون إلى الدول المجاورة كلاجئين، وبقي بعضهم في القرى مختبئين للحفاظ على حياتهم واستمرار تقاليدهم. استمرّ النزاع لما يقارب عقدين من الزمن، حتى تم توقيع اتفاقية سلام قصيرة الأمد عام 1972. ومع ذلك، اندلعت الحرب من جديد في عام 1983، لتعيد المنطقة إلى دائرة النزاع والصراع المسلح.
مع اندلاع الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005) بقيادة الحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير شعب السودان، وجد جيل جديد من المونجيي-ميجي الذين تولوا السلطة حديثًا في عام 1977 خلال مراسم إفيرا (Efira) المهيبة، أنفسهم أمام فرصة لإعادة تعريف دورهم كجيل حاكم، وكان هذا الجيل الجديد يسعى بشغف إلى إيجاد غاية ومعنى للحياة لتأكيد مكانتهم وواجباتهم كقادة، وقد وفرت لهم الحركة والجيش الشعبي منصة مناسبة للانخراط في مساعي ذات هدف اجتماعي وسياسي، فانضم معظمهم إلى الحركة كمجموعة متماسكة تشترك في المصير والأهداف.
وكما في الحرب الأولى، أصبحت منطقة الأوتوهو مرة أخرى مسرحًا رئيسيًا للقتال، حيث دارت معارك كبرى، وتناوبت السيطرة على الأراضي الاستراتيجية، وكانت عقول وقلوب السكان على المحك. وقد شنّ الجيش السوداني مجددًا حملة الأرض المحروقة، مدمّرا المنطقة بشكل واسع، وأسفرت هذه العمليات عن حرق جميع قرى الأوتوهو الواقعة على الطرق الرئيسية، وبعض القرى تم إحراقها أكثر من مرة خلال الحرب التي استمرت إحدى وعشرين سنة.
حتى مدينة توريت، التي كانت تمتلك إمكانيات للنمو لتصبح مركزًا حضريًا مهمًا، تم تحويلها إلى مجرد ثكنة عسكرية، وأُفرغت من سكانها الأصليين، ما يعكس حجم الدمار الاجتماعي والاقتصادي الذي عانت منه أراضي الأوتوهو خلال فترة الحرب الثانية.
أصبح أعضاء المونجيي-ميجي الذين بقوا في القرى تلقائيًا جزءًا من النزاعات المسلحة المباشرة، سواء في القتال ضد الجنود السودانيين أو في صراعات داخلية بين القرى نفسها نتيجة غارات الماشية والانتقام بالقتل، وقد مثلت هذه الفترة بداية التصعيد العسكري الكبير لأعضاء المونجيي-ميجي، لأغراض هجومية ودفاعية على حد سواء. كما أصبحت الأسلحة متوفرة بسهولة، وقابلة للوصول، وميسورة التكلفة لكل عضو من المونجيي-ميجي في القرى.
وبحلول عام 1999، عند انتقال جولة جديدة من السلطة، أشرفت الملكة التي ترأست مراسم الإفيرا على جيل جديد من المونجيي-ميجي، معظمهم قضوا حياتهم في أجواء الحرب وفقدوا العديد من أقرانهم نتيجة الصراعات المستمرة، وقد حبست الملكة دموعها وأصدرت الإعلان التالي: “أعلن أنّ اسمكم هو أوفيتو-فيري أي بقايا الحرب”.
وللأسف، استمر أعضاء هذا الجيل الحاكم، سواء الجنود أو المدنيين، بالتواجد في قلب النزاعات المسلحة حتى توقيع اتفاق السلام في عام 2005، ما يعكس التأثير العميق للحرب على البنية الاجتماعية والسياسية للمونجيي-ميجي وأراضي الأوتوهو.
دور المونجيي-ميجي في بناء الأمة
في العام 2021، تولّى جيل جديد من المونجيي-ميجي زمام السلطة، وهو جيل مختلف عن الجيلين السابقين اللذين أمضيا فترات حكمهما محاطين بأجواء الحرب، فقد توقفت العسكرة المكثفة للمونجيي-ميجي بفضل السلام ووجود مؤسسات الحكم، التي وفرت استقرارًا غير مسبوق في المنطقة.
كما تغيّرت طرق ممارسة غارات الماشية والقتل الانتقامي التي كانت منتشرة في الماضي، لتتحول إلى نشاطات إجرامية فردية من قبل بعض المجرمين من القرى المختلفة، الذين يشكلون شبكات للسرقة، والقتل، ونصب الكمائن على الطرق والسطو، وفي بعض الحالات، تتصاعد هذه الأفعال لتتحول إلى نزاعات بين القرى أو داخلها، مما يستدعي تدخل السلطات الحكومية.
ومن الجوانب الإيجابية، فإن غالبية أعضاء هذا الجيل يتوجهون إلى المراكز الحضرية إما لطلب التعليم أو البحث عن فرص اقتصادية، وتشير هذه الأنماط المتطورة إلى أنّ التحديات والفرص السائدة في أي فترة زمنية معينة تشكّل طبيعة وأدوار المونجيي-ميجي في تلك الحقبة، مما يعكس مرونة واستجابة هذه المؤسسة التقليدية لمتطلبات المجتمع الحديث.
خلاصة
من المهم إدراك أنّ أعضاء المونجيي-ميجي في مجتمع الأوتوهو هم الذكور الذين يتم إدخالهم طقسيًا إلى الأمانغات، ويشكّل نظام المونجيي-ميجي في القرى الإطار المؤسسي السياسي المسؤول عن:حماية مصالح المجتمع، توفير الأمن والاستقرار، الحفاظ على السلام والنزاهة الأخلاقية، وتعزيز بيئة متناغمة ومتماسكة.
ويجب تقدير نظام المونجيي-ميجي لدى الأوتوهو، ذو الجذور التاريخية الطويلة والقيم التقليدية الغنية، بصوره الثقافية الأصيلة والفريدة، ومن ثم، فإنّه من الخطأ الجسيم مقارنة هذا النظام بأي مجموعة أو نظام آخر من قبل من هم خارج هذا السياق ويفتقرون إلى المعرفة الدقيقة بالنظام، إذ أنّه نظام أصيل وفريد في جميع جوانبه.
كما أنّه من غير مقبول لبعض أعضاء الأوتوهو الذين فقدوا الاتصال بالواقع أن يُعيدوا تعريف نظام المونجيي-ميجي حسب أهوائهم الشخصية. بالطبع، الثقافات ديناميكية وتتغير عبر الزمن، إلا أنّ هذه العملية يجب أن تأخذ مسارها الطبيعي بعيدًا عن التعسف أو التحريف، بما يحافظ على استمرارية القيم والأعراف الأصيلة لمجتمع الأوتوهو.
إنّ نظام المونجيي-ميجي لدى الأوتوهو هو نظام تطوري بطبيعته، مثل أي ثقافة أخرى، فهو يمضي في مسار تغيّر طبيعي متدرج، لكن من المهم التأكيد أنّ تحديد مصير الأجيال المستقبلية للمونجيي-ميجي يعود حصريًا إلى المشاركين المباشرين في النظام، وليس لأولئك الذين هم خارج هذا الإطار، كما يظهر من قراءة أو سماع الملاحظات غير الدقيقة حول المونجيي-ميجي.
وبالنسبة لبعض السياسيين والقادة العسكريين المتحدّين الذين يحاولون استغلال علامة المونجيي-ميجي لتحقيق أجندات سياسية سيئة ومحفّزة للانقسام، فهم في الواقع يلاحقون الرياح بلا جدوى، ففي هذا السياق، من المهم أن نعرف أنّ المونجيي-ميجي ليسوا خاضعين للهوبو فحسب، بل ولهم ولاء مباشر لقراهم وشعوبهم، ويمكن فهم ذلك بوضوح عند إدراك المعنى الحرفي لـ المونجيي-ميجي، والذي يعني “أب أو مالك القرية أو الناس”.
وتكمن سلطة المونجيي-ميجي بالكامل في الجسم الجماعي المنظم للمونجيي-ميجي، حيث يعمل الأهو (Ahou) كهيئة تنفيذية رئيسية، تمثل الجهة الرئيسة للتواصل مع الهوبو والأبالوك، الذين يتولون بدورهم المناصب الطقسية العليا ضمن المجتمع المؤسسي المصغر للأوتوهو في جمهورية جنوب السودان.
ومن الجدير بالذكر أنّ المجموعات الأخرى، وخاصة الجماعات المسلحة الجديدة، التي نشأت حديثًا دون أي أساس ثقافي أو سياسي متين، وتحاول مقارنة نفسها بـنظام المونجيي-ميجي عند الأوتوهو، فهي في الحقيقة تتبنّى الجهل، وحتى تتعلم هذه المجموعات وتقدّر الفروق الجوهرية بينها وبين نظام المونجيي-ميجي، فلن تنجح أبدًا في أي من أجنداتها الزائفة.
فمحاولة نسخ أو مقارنة نظام المونجيي-ميجي ليست مسألة مجرد تقليد أو نقل، إذ أنّ النظام موجود منذ قرون طويلة، وقد استطاع التكيف بسلاسة مع التغيرات والتحديات التي فرضتها الحداثة، محافظًا بذلك على استمراريته ونجاحه في إدارة شؤون المجتمع بفعالية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ستيف باتيرنو : باحث ومحلل وكاتب مستقل من دولة جنوب السودان، يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني: paternosteve@gmail.com.
*أتيم سايمون : باحث وكاتب ومترجم من جنوب السودان، متخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
.


اترك تعليقاً