البنية الحاكمة للمونجيي – ميجي عند (الأوتوهو) بجنوب السودان
للكاتب: ستيف باتيرنو
ترجمة: أتيم سايمون
تُعدّ المونجيي-ميجي بنية سياسية تقليدية منظَّمة لدى رجال قبيلة الأوتوهو، وتتكوّن من عدة طبقات محددة من التنظيم الاجتماعي والسياسي، ومن خلال مؤسسة عريقة الجذور، يُلزم كل فرد من الذكور البالغين من الأوتوهو بالخضوع لعمليات بدنية صارمة ومتسلسلة، تتجذر بعمق في الممارسات الطقسية والتقاليد المحلية، وذلك ضمن طقوس الانتقال والتهيئة التي تؤهله للانضمام إلى عضوية المونجيي-ميجي بعد استيفائه متطلبات رتبة إيتو هورونغ Eito Horwong، وهي درجة أدنى مباشرة من رتبة المونجيي-ميجي.
يمثل بلوغ مرتبة المونجيي-ميجي مصدر فخر تقليدي لكل رجل من الأوتوهو، لما تحمله من رمزية اجتماعية وامتيازات متأصلة، تشمل حق الزواج الشرعي والمشاركة في أنشطة وقرارات المونجيي-ميجي، وغيرها من الامتيازات المرتبطة بالمكانة الاجتماعية والهوية الثقافية.
تشتق تسمية المونجيي-ميجي من كلمتين ذواتي دلالة عميقة: مونجيي وميجي، وتعنيان حرفيًا “أب أو مالك القرية أو الشعب“، تُجسّد هذه الدلالة الإلزامية لفكرة الأبوة والملكية والانتماء جوهر السلطة السياسية لدى المونجيي-ميجي، الذين يُعدّون الهيئة الحاكمة العليا في النظام الثقافي للأوتوهو، والمسؤولين عن إدارة الشؤون الاجتماعية والسياسية للقرية، وضمان رفاه المجتمع المحلي.
ويُستكمل نظام المونجيي-ميجي بهياكل سلطوية أخرى تشكّل مكونات أساسية في النظام السياسي التقليدي للأوتوهو، وهي:
الأبالوك : Abalok- أي ملاّك الأرض، وهم يمثلون السلطة الروحية المرتبطة بالأرض والزراعة والماشية والطبيعة.
الهوبو: Hobu- أي الملك أو الملكة، ويؤدّون وظائف طقسية تتعلق بالتطهير والبركة والتحكم في قوى الطبيعة، بما في ذلك الأمراض والأمطار والمواسم.
تتمتع هذه المؤسسات بصلاحيات مختلفة وسلطات متوازية، صُمّمت لضمان توازن القوى والمساءلة المتبادلة داخل البنية السياسية للأوتوهو. فعلى الرغم من أن مؤسسة الهوبو تُعدّ الجهة العليا رمزيًا، فإن المونجيي-ميجي يمتلكون صلاحيات تخوّلهم نقض قرارات الهوبو، أو عزله، بل وحتى قتله في حالات النزاع، كما حدث في عدد من الوقائع التاريخية. وفي المقابل، يستطيع الهوبو معاقبة المونجيي-ميجي بوسائل متعددة، منها تجنيد جيش خاص أو استئجار مقاتلين مرتزقة لمحاربتهم، كما جرى في حادثة مشهورة في قرية إيماتاري (Imatari) قبل قرون، حين استعان الهوبو بمقاتلين من التوبوسا (Toposa) الذين أقدموا على إحراق القرية.
على الرغم من الثراء الثقافي لنظام المونجيي-ميجي وتجذّره العميق في التاريخ والعرف التقليدي لشعب الأوتوهو، ظهرت في السنوات الأخيرة محاولات غير ناجحة من قِبل بعض الأفراد المتعلّمين من أبناء الأوتوهو، ممن نشأوا في المدن وتأثرًوا بالخطابات الحديثة حول المساواة الجندرية، فقد سعى هؤلاء إلى إعادة تأويل النظام التقليدي عبر صياغة مصطلح جديد هو هونجيي-ميجي (Honyei-miji) باعتباره المقابل الأنثوي للمونجيي-ميجي، أي “المرأة المالكة أو القائدة”، في محاولة لتأسيس نظام نسائي موازٍ للمونجيي-ميجي.
إلا أن هذا المفهوم المستحدث لا يمتلك أي أساس في منظومة القيم والأعراف التقليدية للأوتوهو، إذ يتنافى مع بنية المجتمع الأبوي التي تشكّل جوهر النظام الاجتماعي لديهم، وبدلاً من وجود صيغة أنثوية مماثلة للمونجيي-ميجي، فإن المقابل الاجتماعي الطبيعي له في ثقافة الأوتوهو هو فئة تُعرف باسم: أنغورو مونجيي-ميجي (Angorwo Monyei-miji)، أي “زوجات المونجيي-ميجي”.
وتُعبّر أنغورو مونجيي-ميجي عن البنية الاجتماعية الأنثوية الشرعية في النظام التقليدي للأوتوهو، إذ تُشير إلى النساء المتزوّجات زواجًا شرعيًا من رجال المونجيي-ميجي، بغضّ النظر عن انتمائهن القبلي أو نسبهن العائلي أو مكانتهن الاجتماعية أو التعليمية أو السياسية أو العسكرية. ويُعدّ هذا التصنيف أكثر انسجامًا مع الطابع الأبوي المترسخ في ثقافة الأوتوهو، حيث تُحدّد الهوية الاجتماعية للمرأة ضمن الإطار القرابي والزوجي، وليس عبر مؤسسات مستقلة أو موازية لتلك الخاصة بالرجال.
على الرغم من أن العديد من القبائل تمارس أنماطًا مختلفة من نظام المونجيي-ميجي القائم على الفئات العمرية، إلا أنّ من المؤسف أنّ بعض القادة السياسيين والعسكريين المعاصرين – لا سيما من ولاية شرق الاستوائية – يميلون إلى الاستخدام المتهوّر والمغلوط لمفهوم المونجيي-ميجي لدى الأوتوهو في دعايتهم السياسية، متعاملين معه كـ”علامة ثقافية” يمكن نسخها وتوظيفها بسهولة كأداة لتحقيق أجندات سياسية ضيّقة ومُقسِّمة.
تتفاقم هذه الظاهرة نتيجةً لممارسات بعض أفراد الأوتوهو الذين فقدوا ارتباطهم بثقافتهم الأصلية تحت ذرائع التحضّر والتقدّم التعليمي، مثل أولئك الذين حاولوا سابقًا ابتكار النسخة الأنثوية المتخيّلة من المونجيي-ميجي، إنّ هذه الانحرافات المفاهيمية مجتمعة تؤدي إلى تشويه الفهم الحقيقي للقيم والأعراف والأدوار الاجتماعية التقليدية لنظام المونجيي-ميجي، والذي كان تاريخيًا أحد الركائز الأساسية في تعزيز الروابط الإنسانية وتنظيم التوازن الاجتماعي داخل المجتمع.
ومن المهم التأكيد على أنّ التعليم والتحضّر الحقيقيين لا ينفصلان عن الجذور الثقافية الأصيلة، بل ينبعان منها ويستمدّان معناهما من خلالها، فالثقافة هي الإطار الذي تُقاس من خلاله مدى إنسانية التطوّر وعمق الحضارة، ولهذا السبب، يُنظر بإجلال إلى دراسة التاريخ الثقافي والحضاري للإغريق والرومان والمسيحية في صورهم الأصيلة والمتفردة، وبالمنطق نفسه، فإن ثقافاتنا التقليدية وحضاراتنا الإفريقية تستحق الاحترام والتقدير في أشكالها الأصيلة والفريدة، إذ تمثّل مكوّنات حيّة وثرية في التجربة الإنسانية الكونية.
ومن اللافت أنّ الاهتمام المتزايد من الباحثين والعلماء من خارج القارة الإفريقية بدراسة هذه الثقافات الموصوفة أحيانًا خطأً بأنها “بدائية”، إنما يعكس إدراكًا متناميًا لقيمتها المعرفية والإنسانية، وثرائها بالممارسات الاجتماعية والرمزية التي تُسهم في فهم أعمق لتنوّع التجربة البشرية.


اترك تعليقاً