طيورُ الرب

·

·

, ,
للكاتب: ميا كوتو
ترجمة: مصعب عثمان

أستميحك العُذر، لا أعرف شيئاً  أكثر شبهاً  ب”الحاج” اكثر من النهر. تمرُ الأمواج في رحلة لا نهاية لها. منذ كم من الوقت كانت وظيفة الماء أن يفعل ذلك؟

 وحيداً في قاربه القديم، تأمل إرنستو تيمبا حياته. في سن الثانية عشر، دخل مدرسة سحبِ الأسماك من الماء. دائماً مع نسمات التيار. ظِله عكسَ قوانين النهر الساكنة فيه منذ آخر ثلاثين سنة. ولماذا كل ذلك؟ الجفاف إستنفذ الأرض، والبذور لا تفِي بوعودها.

عندما يعود من صيد الأسماك، لم يكن لديه ما يدافع به عن نفسه من زوجته وأولاده، الذين يطعنونه بعيونهم. عيون مثل تلك التي للكلب، كان كارهاً للإعتراف، ولكنَّ الجُوع كان يجعل البشر مثل الحيوانات. بينما يتفكر في معاناته، ترك تيمبا قاربه ينزلق ببطء على طول النهر. تحت شجرة المافوريرا، هناك عند الضفة، حيث يضيق النهر، ألجم قاربه لجعله يرتاح، ليتمكن هو من طرد أفكاره الحزينة. سمح لمجدافيه بقضمِ الماء، ولقاربه أن يتشبث بالسكون.  لكنه لم يتمكن من وقف أفكاره : ” ما الحياة التي عشتها؟ ماء، ماء، ولا شئ آخر”.

 بينما يتمايل جيئة وذهاباً تسبب القارب في مضاعفة غضبه ” يوماً ما سيصطادونني من الماء، مُبتلعاً من النهر”.  تخيل زوجته وأولاده يراقبونه وهو يُسحب من الطين، وبدا كما لو ان جذور الماء كانت ممزقة. في الأعلى، صدت المافوريرا شراسة الشمس المرسلة. ولكن تيمبا لم يكن يُصغِي للشجرة، عيونه كانت تختلسُ النظر إلى روحه. وكانت كما لو انها عمياء، لأن الألم غبار يستنزف الضوء. ومن العلو، نادى الصباح، وإلتقط رائحة الأزرق الكثيف. “لو فقط كنت أنتمي إلى السماء” تنهد.

وأحس بثقل ثلاثين عاماً من التعب فوق حياته. تذكر كلمات والده التي تلفظ بها ليعلمه الشجاعة “هل ترى الصياد هناك، مالذي يفعله؟ إنه يُجهز رُمحه في اللحظة التي يرى فيها الغزالة. ولكن صائد الأسماك لا يستطيع رؤية الأسماك داخل النهر. “صياد الأسماك يؤمن بشئ لا يستطيع رؤيته”.  ذلك كان درس – ما لامفر منه – في الحياة، وهو الآن يتذكر تلك الكلمات الحكيمة. لقد تأخر الوقت، والجوع أخبره بأنه وقت الرجوع إلى البيت. بدأ بتحريك ذراعه بينما يلقى آخر لمحة نحو الأعلى، في ما وراء الغيوم. كان عندها، عندما مرَ طائرٌ كبير قاطعاً السماء. كان مثل مَلِك، مسروراً بفخامته الخاصة. المخلوق، عالياً بجناحيه، إحتجزَ عينيه، وجزعٌ غير عادي ضرب جذوره بداخله. فكر “لو ان ذلك الطائر سقط الآن في زورقي”. نطق هذه الكلمات بصوت عالي. وبالكاد تمكن من إنهاء كلماته، حتى هزّ الطائرُ جناحيه الضخمين وبسرعة هوىْ بشكل لولبي رأساً نحو القارب. بدا كما لو انه طُردَ من الحياة، إلتقط تومبا الطائر المُحطم وأمسكه بين يديه. رأى ان الدم لم يفُكَ بعدُ أزرارَ الجسد. شُفِي الحيوان بالتدريج، حتى تمكن من الوقوف والتسلق إلى مقدمة المركب، لإعادة تقييم نجاته. أمسك به تومبا، ووزن لحمه، ليتمكن من حساب عدد الوجبات التي يمكن أن يوفرها. وضع الفكرة خارج رأسه، وبدفعةٍ، ساعد الطائر ليحلق. “فلتحلق، أيها الطائر، عُد من حيث أتيت”.

ولكنَّ الطائر إستدار وإتجه راجعاً نحو القارب. قام الصياد مرة أخرى بدفعه بعيداً. مع ذلك، عاد مجدداً. إرنستو تيمبا بدأ يائساً  “عد إلى حياتك، أيها الطائر اللعين”. لا شئ، الطائر لم يتحرك. كان عندها، عندما بدأ صياد الأسماك يتسائل : ذلك الشئ لم يكن طائراً، كان إشارة من الرب. إن التحذير من السماء، سيدمرُ راحةَ باله إلى الأبد.

مُرافَقَاً بالحيوان، رجع إلى قريته. زوجته إحتفلت بعودته : ” دعنا نعد الطائر للغداء”. مبتهجة، نادت على الأولاد : ” أيها الصغار، تعالوا وإنظروا إلى الطائر السمين”. بدون أن يُجيب، وضع تيمبا الطائر على الحصيرة، وذهب إلى خلف المنزل لجلب بعض الألواح الخشبية، والأسلاك والقصب.

ثم جلس ليعمل على بناءِ قفص، كبير جداً لدرجة أن رجلاً يمكن أن يتسعَ في الداخل واقفاً على قدميه بإستقامة. وضع الطائر بالداخل، وأطعمه السمك الذي أمسكه. زوجته كانت مذهولة : الرجلُ كان مجنوناً. مرَ الوقت، وتيمبا لم يهتم سوى بالطائر. سألت زوجته مشيرة إلى الطائر : ” وأنت ترى كيف أن الجوع يضغطنا، ألا تريد قتله؟”. رفع تيمبا يده بشكلٍ قاطع : “أبداً، أيَّا كان من يلمس الطائر سيعاقب من الرب،  سيُوسَم مدى الحياة”.

مرت الأيام، وظل صياد الأسماك منتظراً إشارة جديدة عن نوايا السماء. مراتٍ لا تُحصى تريث في حرارة بعد الظهيرة الرطبة، بينما جلس النهر هناك، أمامه. عند نزول الشمس سيعود ليتفحص القفص حيث ينمو الطائر أكبر فأكبر. رويداً رويداً، بدأ يلاحظ ظلالاً من الحزن تسقط فوق الطائر المُقدس. أدرك أن الطائر كان يعاني لأنه كان وحيداً. ذات ليلة سأل الرب ان يرسل للطير المنعزل رفيقاً. في الأيام التالية، إستقبل القفص نزيلاً جديداً، أنثى. شكر تيمبا، بصمت، الهدية الجديدة من السماء. وفي نفس الوقت إمتدت جذور القلق بداخله : لماذا يهتم الرب بأن يحتفظ هو بهذه الحيوانات، ما الذي يمكن أن تكون الرسالة التي جلبوها؟ “. فكر، وفكر. تلك الإشارة، ذلك البرق الخاطف من الريش الأبيض، يمكن أن يعني فقط بأن سخرية السماء على وشك ان تتغير. إذا إتفق الرجال على توزيع طيبتهم على رُسُل السماء هؤلاء. سينتهي الجفاف ويبدأ موسمُ الأمطار. لقد وقع الإختيار عليه، صياد أسماك مسكين من النهر، ليمثل دور مبعوث الرب. كانت هي مهمته، ليثبت أن الرجال ما زال بإمكانهم أن يكونوا صالحين. نعم، ذلك الصلاح الذي لا يمكن أن يقاس في زمن الوفرة، ولكن عندما يرقُص الجوع في أجساد الرجال. زوجته، التي عادت من ماكامبا، قاطعت أفكاره : “إذاً، هناك إثنان منهم الآن، أليس كذلك؟”. جاءت، وجلست على نفس الحصيرة، ونظرت طويلاً وبشدة في عيني رفيقها، قائلة : ” أيها الزوج، القِدرُ على النار، أنا أسألك رقبة واحدٍ منهما، فقط واحد”.  كانت مضيعةً للوقت، وعدَ بعدة عقوبات تتنزل على أيًّا كان من يسئ معاملة الطيور الإلهية.

مع الوقت، حصل الزوجان على فراخ، كان هناك ثلاثة منها، خرقاء وقبيحة. حناجرهم مفتوحة أبداً : بشهية يمكن أن تُفرِغ النهر. تومبا كَدَح بالنيابة عن والديهم. رِزقُ الأسرة، الشحيح أصلاً، تم تغيير مساره لإطعام القِنّ.

في القرية، راجت الإشاعات في الأرجاء : إرنستو تيمبا كان هاذياً ومجنوناً تماماً. زوجته، بعد عدة تهديدات، قامت بهجرِ البيت آخذة معها كل الأولاد. تيمبا، لم يبدو عليه حتى أنه لاحظ غياب عائلته. كان معنياً أكثر  بضمان سلامة دواجنه. لقد إكتشف روح حسدٍ من حوله، الإنتقام يَفْقِسُ نفسه. هل كانت غلطته في انه اُختِير؟ لقد قالوا بأنه جُنّ. ولكن من يصطفيه الرب، دائماً ما يضلُ عن طريقه. ولكن يوماً ما، بعد ان إنتهى من عمله في النهر، شُعُورٌ بعدم اليقين ألهب رأسه. الطيور! وانطلق إلى البيت بعجلة. عندما إقترب، شاهد عموداً من الدخان يرتفع خلال الأشجار بالقرب من منزله. جذف بقاربه بسرعة بإتجاه ضفة النهر، وقفز بدون حتى أن يربطه. وبدأ بالركض مباشرة بإتجاه مسرح المأساة. عندما وصل، لم يرى غير الخراب والرماد. الأسلاك والألواح مُضِغت باللهيب. ما بين الأخشاب، جناحٌ، لم تلمسه النار، طَلبَ النجاة لنفسه. لا بُد أن الطائر إنكمش على نفسه في مواجهة جُدران النيران، والجناح طار بعيداً، كسهمٍ، يشيرُ بشكلٍ مشؤوم بإتجاه الكارثة. لم يكن يتأرجح جيئةً وذهاباً، كهوسِ الأشياء الميتة. كان صارماً، مليئاً باليقين.  تراجع تيمبا للوراء، مرعوباً. صرخ منادياً زوجته، منادياً أولاده، وعندها، عند إكتشاف أنه لم يتبقى أحدٌ للمناداة عليه، ذرفَ دموعاً من الغضب لدرجة أن عينيه آلمته. لماذا؟ لماذا آذوا هذه الطيور، الجميلة كما كانت؟  وفي ذلك المكان و الوقت وجه كلامه إلى الرب : “ستكون غاضباً، أعلم. ستعاقب أولادك. ولكن إنظر : أنا أسألك لتغفر لهم. دعني أكون الشخص الذي يموت، أنا، ودع الباقين ليعانوا ما هم يعانون منه مسبقاً. بإمكانك نسيان المطر، بإمكانك أن تدع الغبار يستلقي على الأرض، ولكن أرجوك لا تعاقب رجال هذه الأرض.”

في الأيام التي اعقبت، وجدوا إرنستو معانقاً تيار النهر، مغلفاً بضباب الصباح الباكر. عندما حاولوا رفعه، وجدوه ثقيلاً ومن المستحيل فصله عن الماء. أقوى الرجال كلفوا بأداء المهمة، ولكن كل جهودهم ذهبت أدراج الرياح. الجسد كان ملتصقاً بسطح النهر. إحساس غريب بالرهبة إنتشر بين الحاضرين. لإخفاء خوفهم، قال أحدهم : “إذهبوا واخبروا زوجته. وأخبروا الآخرين بأن مجنون القرية قد مات”. وإنسحبوا.

وعندما كانوا يصعدون الضفة، الغيوم تصادمت، والسماء بدأت تسعُل بتجهم كما لو انها مريضة. في ظروف اُخرى، كانوا سيحتفلون بقدوم المطر. لكن ليس الآن. لأول مرة تجتمع صلواتهم مع بعضها داعين ان لا يكون مطراً. بلا عاطفة، فاض النهر على المسافات، ضاحكاً على جهل الرجال. إرنستو تيمبا هُدهِد برفق بجانب الضفة، محمولاً على التيار نحو المصب، واُظهِرت له الممرات الجانبية التي لم يلمحها إلا في الأحلام.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *