عندما تُشاهد فيلم (أيام حارقة) يُخيل لك عند إكماله أنك كنت أمام قصة تشويق مشحونة للغاية، وبناءً متقناً لعالم مغلق، ونقداً لاذعاً للذكورية والشعبوية ومخاطرهما الملموسة، ليس هذا التعميم المبدئ فقط، بينما يأخذنا المخرج “ألبير”، الحاصل على درجة الدكتوراه في تاريخ تركيا الحديث، متناولاً سياسات البلدات الصغيرة بمنظور باحث متمكن، العنف، السياسة، السلاح، والخطاب الشعبوي، يحتوي الفيلم على سرد متحفظ نوعاً ما ولكنه بليغ لعودة ظهور (رهاب المثلية) – وهو ركيزة أساسية للشعبوية اليمينية – في تركيا. ومن ناحية أخرى، هو فيلم يجمع بين نوعين سينمائيين بالتساوي: نصفه فيلم إثارة وجريمة ونصفه الآخر فيلم “ويسترن” (غربي)، يشابه في سرده أعمال هنريك إبسن المسرحية: “عدو الشعب”.
في هذا الفيلم يصل (النائب العام) شاب نزيه من المدينة إلى بلدة صغيرة، حيث يجد نفسه سريعاً في مواجهة غضب أهلها. إنه أشبه بشخصية “وايات إيرب” في الأساس، باستثناء أن “إيمري” القادم من المدينة هو من نوع الموظفين الحكوميين الذين تتجلى نزاهتهم في تطبيق القانون بحذافيره. كما أنه شديد الأناقة، حتى عندما تنقطع المياه عن منزله، وهو ما يحدث كثيراً، وسنتحدث عن هذا بعد قليل.
“إيمري” أيضاً شخصية انطوائية، غير قادر على إيجاد أرضية مشتركة للحوار مع وجهاء البلدة. ومع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، يواصل العمدة دعوته إلى العشاء، وهو ما يخبره حدسه بضرورة تجنبه بأي ثمن. وعندما يرضخ أخيراً، يحثه “شاهين” ، ابن العمدة، على الانضمام إلى جماعتهم في المرة القادمة التي يزور فيها بيت الدعارة المتنقل البلدة. وقبل ذلك، عليهم الذهاب في رحلة لصيد الخنازير!
الأسوأ من ذلك أن تطبيق القانون بحذافيره لا يجدي نفعاً هنا؛ فالاقتصاد قائم على تبادل الهدايا والمصالح. حتى مجرد المشي في الشارع الرئيسي يعني خوض معركة من أكواب الشاي المعروضة عليه، وكل كوب منها يحمل في طياته التزامات معينة.
في الواقع، هناك شيء واحد فقط يهم الناس حقاً، وهو أن السماء لا تمطر أبداً في “يانيكلار”. في مشهد طويل تم تصويره من الأعلى، تتبع الكاميرا سيارة “إيمري” وهو يقود على الطريق الرئيسي المؤدي إلى البلدة، والذي يخترق صحراء لا نهاية لها. تُسحب معظم مياه البلدة من منسوب المياه الجوفية، وإن كان ذلك بشكل متقطع وغير موثوق، مما يعني أن معظم المنازل تقضي ساعات أو أياماً دون مياه جارية. العمدة الحالي، وهو من طراز الحكام المستبدين التافهين الذين يمكن أن تجدهم في أي بلد في العالم، يراهن في إعادة انتخابه على وعد بمشروع مياه جوفية أكبر وأفضل. فمن يستطيع بناء نافورة سيصبح العمدة إلى الأبد.
في مواجهته يقف المعارضون الذين يشيرون إلى الحفر الانهدامية الشاسعة التي بدأت تنتشر في الأراضي المحيطة كالندوب، والتي ابتلعت بالفعل إسطبلاً مليئاً بالحيوانات. الحفرة التالية قد تبتلع حياً سكنياً بأكمله. يقترح هؤلاء تحويل المياه من نهر بعيد، لكنه خيار أكثر تكلفة، وعلى أي حال، هناك قوى خفية تقف في وجههم. لأن الأمر لا يتعلق فقط بكيفية إيصال المياه إلى البلدة؛ بل هو أيضاً حرب أيديولوجيات وشخصيات: وهي أسوأ أنواع الحروب. وهذه الحرب على وشك أن تصل إلى مكتب “إيمري”، حيث تطالب عائلة شُردت بسبب إحدى هذه الحفر الجديدة بمقاضاة المسؤولين.
إنها خلفية معقدة للأحداث، مليئة بالتفاصيل الإدارية الدقيقة، والمؤامرات المشروحة بشكل غامض، والإجراءات القانونية التي غالباً ما تحجب القصة الرئيسية، التي تدور حول اغتصاب فتاة محلية من أقلية الروما تدعى “بيكميز”. إن صعوبات التعلم التي تعاني منها “بيكميز” وميلها البريء للاحتفال يجعلانها هدفاً سهلاً للمتنمرين. في نفس الليلة التي يُقنَع فيها “إيمري” أخيراً بالذهاب إلى العشاء في منزل العمدة، تظهر “بيكميز” وتبدأ في الرقص مع “شاهين” وطبيب الأسنان المحلي، وهو أحمق كثير الضحك يُدعى “كمال”. في اليوم التالي، تكون في المستشفى، مذهولة ومضرجة بالدماء.
ماذا حدث هناك بالضبط؟ كان مشروب “العرق” قوياً، و”إيمري” ليس معتاداً على الشرب. كل ما يعرفه أنه شعر بالغثيان ونام على أريكة العمدة. ينكر “شاهين” و”كمال” كل شيء، لكنهما يلمحان أيضاً إلى أن “إيمري” استيقظ و”استمتع بوقته” هو الآخر. على العكس من ذلك، يقول جارهما الوسيم “مراد” (إيكين كوتش)، الذي يعمل محرراً للصحيفة المحلية ويقود المعركة ضد العمدة في قضية المياه، إنه هو من استضاف “إيمري” في منزله تلك الليلة. وماذا بعد؟ لقد أطلق رفقاء العشاء بالفعل تلميحات واضحة بأن ميول “إيمري” الجنسية موضع شك. والآن يعتقدون جميعاً أنه متورط في علاقة مع “مراد”. ربما هو كذلك فعلاً. وكل ما يعرفه “إيمري” هو أنه قد يكون هو المغتصب.
عند هذه النقطة، يتخذ الفيلم مساراً قصصياً “نولانياً” على غرار فيلم “Memento” (تذكار) للمخرج كريستوفر نولان، وهو فيلم إثارة وغموض ” أُنتج عام 2000. تتخلل ذكريات “إيمري” المربكة مشاهد يقطعها ظلام يظهر ويختفي، فيُزيل وجود “مراد” بجانب “إيمري” ويعيده بالتناوب كلما اتضحت رؤيتنا. ويتفاقم هذا الشعور بالارتباك في ذروة الفيلم، حيث تخلق المصابيح اليدوية التي يحملها “شاهين” وطاقمه تأثيراً يشبه الومضات الضوئية المتقطعة وكأنهم يطاردون الخنازير التي تقتحم الحقول، إذ ترتفع وتنخفض مع ركض الشخصيات. يضفي هذا الكثير من البراعة على فيلم إثارة بطيء الإيقاع، ويأتي كمكافأة لصبر المشاهد على الوتيرة البطيئة التي تكاد تكون معذبة والتي تتطور بها صراعات الفيلم.
من هو الصياد، ومن هو الفريسة؟
في مشهد افتتاحي قوي يصور عملية صيد خنازير برية محلية، تتبع الكاميرا الخنزير الذي تم صيده وهو يُجر ببطء في الشوارع بواسطة سيارة جيب، تاركاً وراءه أثراً مقلقاً وداكناً من الدماء. يتلاعب “ألبير” باستمرار بفكرة “الصياد في مواجهة الفريسة” – أهل البلدة ضد الخنازير، والمدعي العام ضد أهل البلدة، والعكس صحيح. إنها استعارة غير خفية، لكن مع حبكة مثيرة والتلميحات المثلية، تصبح مقلقة للغاية، وذلك يُمكن الفيلم من أن يجعلك تلتقط الخوف والقلق من أن تكون مثلياً أو امرأة في مجتمع تحكمه شعبوية يمينية معادية للمرأة ورافضة للمثلية.
أما بخصوص الشخصيات النسائية، فحتى مع كون إحداهن محور أحد صراعات الفيلم العديدة، إلا أنها تبقى مهمشة في القصة. فالقاضية “زينب” ، التي لم تتعلم فقط كيف تلعب وفق قواعد مجتمعها الكاره للنساء بعمق، بل وكيف تزدهر في ظله، تحمل إمكانات قصة خلفية مثيرة للاهتمام، لكنها تظل مهملة وغير مكتملة. وبالتالي، على الرغم من نقد الفيلم للثقافة الشوفينية والأبوية، فإنه يظل إلى حد ما نتاجاً لتلك الثقافة ذاتها.
لكن المخرج يبرع حقاً في تصوير مناخ الفساد والمساومة والتهاون الذي سرعان ما يتغلغل في أي هيئة سياسية لا تخضع للرقابة والمساءلة. تنشأ مفردات محلية تعمل على تلطيف أي شيء مزعج؛ فبالنسبة لـ”شاهين” و”كمال”، يبدو أن عبارة “الاستمتاع بالوقت” تغطي جميع الاحتمالات. كما يرفع الفيلم راية القيم الحديثة، والتعليم في وجه الجهل، والمدينة العالمية في مواجهة ذلك النوع من الأماكن الذي لا يرغب أحد فيه في أي تغيير، الحداثة في مواجهة قرية غارقة في الفساد، سياسات النوع الاجتماعي، يظل “أيام حارقة” تأملاً عميقاً ومهماً في تصاعد اليمين الاجتماعي والسياسية المتزايدة في تركيا المعاصرة. فما يفتقر إليه الفيلم في السرعة، يعوضه بالأسلوب ونهاية مفتوحة تخضع لتفسير المُشاهد، ولكنها مُرضية.
المصادر:
‘Burning Days’: Cannes Review: By Jonathan Romney-
BTFF REVIEW: Burning Days (2022) by Joshua Polanski-
Review is published as part of *SCAPE’s Film Critics Lab: by The Filmic Eye with support from Singapore Film Society and Cinema.
Cannes Review: Emin Alper’s ‘Burning Days’ By Stephanie Bunbury-


اترك تعليقاً