قصة قصيرة: روديارد كيبلينج
ترجمة: علي أرباب
ولعُه بالموسيقى، حدا بمرتّلِ دَير القديس إيلود أن يُهملَ مكتبةَ الكنيسة، أما نائب المُرتّل، الذي كان يولي التفاصيل اهتماماً هوسياً، فقد تجشّم مهمةَ ترتيب المكان بعد ساعتين من الكتابة والإملاء في قاعة النسخ.
سلّمه الرهبان النسّاخون رقوقهم – وكانت نسخاً بسيطةً من الأناجيل الأربعة طلبها أحد رؤساء الأديرة في إيفشام – ثم خرجوا واحداً تلو الآخر لحضور صلاة الغروب. أما جون أوثو، المعروف باسم “جون بيرجوس”، فلم يتبدّ عليه أيُّ اهتمام؛ كان منهمكاً في تلميع زينةٍ مذهبّةٍ صغيرة في منمنمته لمشهد البشارة، ضمن نسخةٍ من إنجيل لوقا كان يعمل عليها، وكان يُؤمّل أن تنال استحسان الكاردينال فالكودي، المبعوث البابوي، وأن يقبلها هديةً.
“كفاك عملاً، يا جون.”، قال نائب المُرتّل بصوتٍ خفيض.
أجاب جون: “هاه؟ لقد انصرفوا؟ لم أسمع شيئاً. تمهّل لحظةً يا كليمنت.”
انتظر نائب المُرتّل بصبر. لقد عرف جون منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، رائحاً وغادياً على دير القديس إيلود، الدير الذي كان جون في كل أسفاره يتباهى بانتمائه إليه. وهو ادعاءٌ كان يُقبل عن طيب خاطر. فجون بيرجوس، من بين جميع آل أوثو، كانت كلُّ الفنون طوعَ أنامله، وكلّ فوائدها المثمرة طيَّ ردائه.
من فوق كتفه، تشابى نائب المُرتّل ناحية الرقّ بين يدي جون، حيث كانت الكلمات الأولى من ترنيمة Magnificat “تعظّمُ نفسيَ الرب” منقوشةً بالذهب، على خلفيةٍ من الصبغ الأحمر المُخمليّ، تُحيطها هالةُ العذراء التي لم يشتعل لهبها بعد. كان رسم العذراء يظهرها بيدين مضموتين في ذهول، أمام شبكةٍ متناهية التعقيد من زخارف الأرابيسك، على أطرافها تنبثق زهور برتقالٍ بدت وكأنها تشع في زرقة الهواء الساخن من حولها، أمام منظرٍ طبيعيٍّ دقيقٍ ومتيّبس.
“لقد جعلتها يهوديّةً بالكامل”. قال نائب المُرتّل، متأملاً الوجنتين الزيتونيتين والعينين المثقلتين بمعرفةٍ سابقةٍ لأوانها.
أجاب جون وهو ينزع الدبابيس التي تثبت الرّق:
“وماذا كانت سيّدتُنا غير ذلك؟ اسمع يا كليمنت؛ إن لم أعد من رحلتي فستنضمُّ هذه لإنجيل لوقا الكبير الذي أنسخه، أيًّا كان مَن سيكمله”.
ثمّ دسّ الرسم بين أوراق الجّلاد التي تحفظه.
قال نائب المُرتّل:
“إذاً فأنت عائدٌ إلى بيرجوس من جديدٍ كما سمعت؟”
“بعد يومين. الكاتدرائية الجديدة هناك بلسمٌ للأرواح، ألا أن بنّائيها أبطأ من غضب الرب”.
“روحُك أنت؟”، بدا نائب المرتل مُرتاباً.
“حتى روحي، إن لم يكن عندك مانع! وهناك في الجنوب، عند تخوم الأراضي المستعادة، جهة غرناطة، فإن في زخارف المور صفاءٌ للسرائر، وسكينةٌ من كبرياء الفكر. إن لها جاذبيةً كالتي شعرتَ بها، آنفاً تجاه صورة البشارة التي أرسمُها.”
“هي … كم هي جميلة. لا عجب أنك ذاهب. لكنك لن تنسى طلب الغفران قبل رحيلك يا جون؟”.
“قطعاً”.
كان هذا احتياطاً لم يغفله جون قبل أيّ سفر، تماماً كعنايته بحلاقة الشعر الكهنوتيّة منذ أول مرةٍ التزم بها فيها أيام صباه الباكر قرب جينت. فقد أكسبته سمت رجل الدين عند الحاجة، وطالما أضفت عليه هيبةً في الأسفار.
“ولا تنسَ كذلك ما نحتاجه في قاعة النسخ. وكأنه لم يعد في هذا العالم شيءٌ من اللازورد النقيّ. إنهم يخلطونه بأزرق الألمان ذاك. أمّا الزنجفر …”
“سأبذلُ أقصى ما في وسعي.”
أضاف نائب المُرتّل: “والأخ توماس” – وهو الراهب الذي يتعهّد مشفى الدّير – “إنه يحتاج إلى …”
“سيطلب ما يحتاجه بنفسه. سأمرّ عليه الآن لأعيد حلاقة شعري عنده”.
نزل جون عبر السلّم المفضي للدهليز الذي يفصل المشفى والمطبخ عن الجناح الخلفيّ من الدير. وأثناء الحلاقة، قدّم له الأخ توماس، نطاسيُّ الدير متواضع الهيئة وشديد الصرامة، قائمةً بالعقاقير التي عليه أن يحضرها معه من إسبانيا، بأية وسيلةٍ، مشروعةٍ كانت أو لم تكن.
وهنا فاجأهما مقدم قيّم الدير ستيفن، بعرَجِه، وبشرته الشهباء، وخفيّه المبطّنين بالفراء. لم يكن القيّم ستيفن دي سوتري متلصّصاً بطبعه، لكنّه شارك في شبابه في حملةٍ صليبية خائبة، انتهت به بعد معركة المنصورة، في أسر السراسنة لعامين في القاهرة، حيث يتعلّم المرءُ المشيَ على أطراف الأصابع.
كان صياداً ماهراً، وصقّاراً محترفاً، وإدارياً منضبطاً، وفوق كلّ هذا كان رجل علم، وقد نال شهادةً في الطبّ بين يدي من يُدعى رانولفوس، أحد قُسُس كاتدرائية القديس بولس. إلا أن كان قلبه كان ميالاً لمشاغل مشفى الدير، لا لشعائره الدينية.
راجع القيّم ستيفن قائمة العقاقير بعناية، وأضَافَ إليها بعضاً من مطالبه. وبعد أن انصرف الأخ توماس، منحَ جون غفراناً واسعاً يقي من كلّ ما قد يقع في طريق سفره؛ إذ لم يكن ممّن يُؤمنون بصكوك الغفران المبتاعة خبط عشواء.
“وماذا تنشد من هذه الرحلة؟” سأل القيّم، وهو يتربع على الدكّة جوار الهاوُن والميزان، في دفء الحجرة الصغيرة التي تُخزَّن فيها العقاقير.
“الشيّاطين، في الغالب.”، أجاب جون باسماً.
“في إسبانيا؟ أليست أنهارُ “أبانا” و”فارفار” …؟”
جون، الذي لم يكن يرى في الناس إلا مادّة لرسوماته، والذي كان معتّداً بكرم محتِده (كانت والدته من آل دي سانفورد)، رمق وجه القيّم بلا مواربة وسأل: “وهل وجدتها كذلك؟”.
فردّ القيّم: “كلا. كانت الشياطين تنتظرني في القاهرة أيضاً. لكن ما حاجتك للشياطين؟»
“لأجل إنجيل لوقا الكبير الذي أعمل عليه. فلوقا هو الأبرع بين كتّاب الأناجيل الأربعة حين يتعلّق الأمر بالشيّاطين.”
“لا عجب. فقد كان طبيباً. إلا أنك لست كذلك.”
“حاشا لله! لكنّني سئمتُ شياطين كنيستنا المعتادة. فليست سوى هجائن من قردةٍ وتيوس ودواجن. ولا تصلح إلا ليوم دينونةٍ وجحيمٍ لا لون لهما إلا الأحمر والأسود. هذه الشياطين لا تفي بحاجتي”.
“وما الذي يجعلك نيّقاً بصدد الشياطين لهذا الحد؟”.
“لأن العقل والفن يقتضيان أن يكون الجحيم عامراً بكل صنوف الشياطين. أولئك السبعة، مثلاً، الذين طردهم المسيح من المجدلية، لا شكّ أنهنّ كنّ شيطاناتٍ إناث، لا قرابة لهنّ بالشياطين الشائعة من ذوي القرون واللحى.”
ضحك القيّم.
“وانظرْ أيضاً! ذاك الشيطان الذي طُرِد من الأخرس. ما فائدة خُطُمٍ أو منقارٍ له؟ لا بدّ أنه بلا وجهٍ كالأبرص. وفوق كلّ ذلك – أسأل الرب أن يطيل عمري حتى أكملها! – تلك الشياطين التي تلبّست خنازير الجَدَريّين. سيكونون … سيكونون … لا أدري بعدُ ما سيكونون، لكنهم سيكونون شياطين لا مثيل لها.
أريد أن أرسمهم متفرّدين، متنوّعين كتنوع القديسين أنفسهم. أما الآن فجميع صورهم تظهرهم جميعاً على هيئةٍ واحدة – سواءً في رسوم الجداريات، أو على زجاج النوافذ، أو رسوم الكتب.”
“أكمل، يا جون. أنت أكثر تعمُّقاً في هذا السرّ مني.”
“لا سمح الله! لكني أقول إن الشياطين، وإن كانت ملعونة، فهي جديرة بشيءٍ من الاحترام.”
“عقيدةٌ خطرة.”
“ما أعنيه أن أيّ هيئةٍ تستحقّ أن يُفكّر فيها المرء ليصوّرها للناس، فهي إذن تستحقّ أن يُفكّر فيها كأفضل ما يكون.”
“هذا تبريرٌ أفضل. وأنا لسعيد أنّي قد منحتك الغفران.”
“لا يحيق إلا أقلّ الخطر بالحرفيّ الذي لا يتعامل إلا مع ظواهر الأشياء في خدمة أمنّا الكنيسة.”
“قد يكون الأمر كذلك، لكن يا جون”. كادت يد القيّم أن تلمس كمّ رداء جون، “قل لي، بحقك، أهي … موريّة؟ أم عبرانيّة؟”.
أجاب جون: “إنها لي. أليس هذا كافياً؟”
“لقد تبيّن لي ذلك. حسنٌ … آه، حسنٌ! ليس لي من سلطةٍ في المسألة، لكن … كيف يرون الأمر هناك؟”
“آه، إنهم لا يميلون للتعصب في إسبانيا، لا الكنيسة ولا الملك، باركهم الرب! فعددُ المور واليهود أكبر من أن يُقتلوا جميعاً، وإن طُرِدوا، لانقطعَت سبل التجارة والزراعة معاً. صدّقني، في الأراضي المستعادة، من إشبيلية إلى غرناطة، نحيا جميعاً بمحبة، الإسباني والموري واليهودي. هل تفهم؟ هناك لا نُكثر من الأسئلة.”
تنهد الأب ستيفن: “نعم … نعم … ويبقى دائماً الأمل في أن تهتدي امرأتك”.
“آه نعم، الأمل باقٍ على الدوام.”
مضى القيّم إلى المشفى. كان ذلك عصراً سهلاً، قبل أن تشتدّ قبضة روما بشأن ارتباطات رجال الدين. كان يُغضّ الطرف عن كثير من الأمور إذا لم تكن تشوب سمعة المرأة شائبة، وإن لم يكن الابنُ وارثاً لكثيرٍ من امتيازات أبيه من المناصب الكنسية والجبايات. لكن كانت لدى القيّم أسبابه لتذكّر أن اقتران المسيحيين بالكفرة لا ينتهي إلا للأسى. ومع هذا، حين غادر جون مع بغاله وحقائبه وخدمه، مضطرب الخطى في زقاق الدير نحو طريق ساوثهامبتون والبحر، لم يتمالك ستيفن أن يشعر بشيءٍ من الحسد.
عاد جون بعد عشرين شهراً. متين البنيان، متيبسّه، ومحملاً بالهدايا. قطعةٌ من أفخر أنواع اللازورد، وقضيبٌ من الزنجفر بقلبٍ برتقاليّ، وكيسٌ صغير من خنافس مجففة تُستخرج منها أزهى درجات الحبر القرمزيّ، لأجل لنائب المُرتّل. وفوق ذلك، مكعباتٌ من الرخام السماويّ، تلتمع بحمرةٍ ورديةٍ خفيفة، يمكن سحقها وإذابتها لتلوين خلفياتٍ لا تُضاهى. وكان معه أيضاً حوالي نصفُ ما طلبه القيّم وتوماس من عقاقير. وقلادةٌ طويلة من العقيق الأحمر القاني لأجل عشيقة القيّم، السيّدة “آن نورتن”، التي تلقّتها بلباقة متسائلةً: “أين عثرت عليها يا جون؟”
“قرب غرناطة”.
تساءلت آن: “ولعلك تركت مَن هناك بخير؟”. (ربما صارحها القيّم بشيءٍ من اعتراف جون.)
“تركتُ كلّ شيءٍ بين يدي الرب.”
“آه! … وكم مضى على ذلك؟”
“أربعة أشهر إلا أحد عشر يوماً.”
“هل كنتَ … معها؟”
“بين ذراعيّ. في النُّفاس.”
“و؟”
“الولد أيضاً. لم يَبقَ شيءٌ الآن.”
حبست آن نورتن أنفاسها. ثم قالت بعد وهلة: “أظنّك سترتاح لذلك.”
“بعد حين ربّما أصلُ إلى ذلك. لكن ليس الآن.”
“لديك حرفتُك، وفنُّك، وتذكّر يا جون … ألّا غِيرةَ وراء القبر.»
«نعم … نعم … لديّ فني. ويعلم الرب أنني لا أغار من أحد.”
“حمداً للرب على ذلك على الأقل.” قالت آن، المرأة العليلة على الدوام، وهي تتبع قيّم الدير بعينيها الغائرتين”. ثم لمست حبّات العقد وأردفت: “وكن على ثقةٍ أنه بين أيدٍ أمينة … ما حييت.”
“لقد أحضرتُه … وثقتُ به إليك … لأجل ذلك”، أجاب وهو يستأذنها في المغادرة.
حين أخبرته آن عن أصل العقد، لم ينبس القيّم ستيفن بكلمة. لكن لاحقاً، حين كان مع توماس يخزنان العقاقير التي جلبها جون في القبو خلف المدخنة المشتركة بين المطبخ والمشفى، أشار إلى قرصٍ من عصارة الخشخاش المجففة قائلاً:
“هذا كفيلٌ بأن يقطع كلّ ألمٍ عن جسد الإنسان.”
قال جون: “لقد شهدتُ ذلك بنفسي.”
فقال القيّم: “لكن لآلام الروح، عدا نعماء الرب، فلا دواء إلا صنعةُ المرء، أو علمه، أو أي حركة نافعةٍ لفكره.”
كانت إجابة جون: “سأبلغ هذا بالمثل.”
أمضى جون اليوم التالي من أيّام مايو الصافية في الغابة مع رعاة خنازير الدير وقطعانهم، وعاد محمّلاً بالأزهار وأغصان الربيع إلى ركنه الخاص المهيّأ بعناية في الجناح الشمالي من قاعة النسخ. هناك، وتحت مرفقه الأيسر دفاتر أسفاره، انغمس متناسياً كل شيء في عمله على إنجيل لوقا الكبير.
بعد حين تجرأ الأخ مارتن، شيخ نسّاخ الدير (والذي كان لا يتكلم إلا مرتين في كل شهر) وسأله عن سير العمل.
“كلّه هنا!” أجاب جون وهو يربّت على جبينه بطرف قلمه، “لقد كان فحسب في انتظاري طيلة هذه الشهور، فقط لإجل أن … آه يا إلهي! … لأجل أن يولد. ولكن هل أنهيت النسخة الخالية من الصور يا مارتن؟”
أومأ مارتن برأسه موافقاً. كان مبعث فخرٍ له أن جون بيرجوس يلجأ إليه، رغم أعوامه السبعين، حينما يتعلّق الأمر بمتن الصفحة.
“انظر إذاً!”، قال جون وهو يبسط أمامه رقّاً جديداً بالغ الرهافة ولا تشوبه شائبة. “لن تجد مثله من هنا إلى باريس. نعم! تنسّم رائحته إن شئت. والآن، ناولني الفرجار لأحدد لك الهوامش. لكن، إن جعلتَ حرفاً أغمق أو أفتح من جاره، فسأذبحك كما يُذبح خنزير!”
“مطلقاً يا جون!” قال الشيخ، متهللاً بابتسامة.
“بل سأفعل! هيا، تابعني الآن! هنا وهنا، حيث أضع العلامات، وبخطٍ لا يزيد شعرةً ولا ينقص، ستنسخ الآيتين الحادية والثلاثين والثانية والثلاثين من الأصحاح الثامن من إنجيل لوقا.”
“نعم، خنازير الجدريين! ‘وتوسلوا إليه أن لا يأمرهم بالمضيّ إلى الهاوية. وكان ثمة قطيعٌ من خنازير كثيرة …’.
كان الأخ مارتن، بطبيعة الحال، يحفظ الأناجيل كلّها عن ظهر قلب.
“بالضبط! إلى أن تبلغ ‘فأذِن لهم.’ خذ وقتك في ذلك. أما أنا، فعليّ أولاً أن أفرغ ذهني من الانشغال بالمجدلية.”
أتمّ الأخ مارتن العمل على أكمل وجه، حتى إنّ جون سرق بعض حلوى المكسريّة اللدنة من مطبخ القيّم كمكافأة له. أكلها الشيخ، ثم ندم واعترف، وأصرّ على نيل كفّارة. وعندها، وقد أدرك القيّم ستيفن السبيل الوحيد لبلوغ المذنب الحقيقي، كلّف مارتن بنسخ نسخة من كتابٍ معنون “في فضائل الأعشاب” De Virtutibus Herbarum. كان دير القديس إيلود قد استعار الكتاب من السيسترسيّين الكئيبين، الذين لا تعنيهم الزينة ولا الجمال، وأبقى النصّ العويص مارتن مشغولًا في ذات الوقت الذي كان فيه جون بحاجة إلى مهارته في تنسيق بعض الحروف المفرّقة.
قال نائب المُرتّل بنبرة لائمة:
“انظر يا جون، ما كان ينبغي لك أن تفعل هذا. ها هو الأخ مارتن الآن تحت الكفّارة بسببك …”
“لا، بل لأجل إنجيلي الكبير. لكنني دفعتُ ثمن الحلوى لطباخ القيّم. وقد رسمتُ له صورةً جعلت خدم مطبخه أنفسهم لا يكتمون ضحكاتهم كلما رأوه. لن يشيَ بي مرةً أخرى.”
“تصرفٌ غير كريم! وقد غضب عليك القيّمُ أيضاً، فلم يأتِ على ذكرك منذ رجعت، ولم يدعُك إلى المائدة العليا قط.”
“لقد كنتُ مشغولاً. والقيّم، بما أوتي من عينين في رأسه، قد لاحظ ذلك. كليمنت، ليس من لامينجتون حتى تور أمينُ مكتبةٍ أهلٌ لأن يراجعك.”
تصلّب كليمنت في وقفته حذراً، إذ كان يعرف إلى أين تنتهي عادةً اطراءاتُ جون.
“أما خارج قاعة النسخ …”
“فمكانٌ لا أخرج إليه أبداً”.
كان كليمنت قد أُعفي حتى من أعمال الحفر في الحديقة، خشية أن تتضرر كفاه المعجزتان في تغليف الكتب.
“خارج قاعة النسخ أنت أغبى أغبياء الملكوت المسيحي. خذها مني يا كليمنت، فقد لقيتُ الكثيرين منهم.”
“إنني أقبل كل شيءٍ منك.”، ابتسم كليمنت بوقار، “وأنت تعاملني معاملةً أسوأ من معاملة صبيّ جوقة الترتيل.”
كان بوسعهما أن يسمعا من الدير صوت أحد هؤلاء الصبية المساكين وهو يصرخ فيما كان المرتّل يشدّ شعره.
“إن الرب يحبّك! وأنا كذلك! لكن، هل فكّرت يوماً كيف أنني أكذب وأسرق كلّ يومٍ في أسفاري – بل، ومن يدري، فقد أقتل أيضاً – لا لشيءٍ إلا لأجلب لك ألوانك وأصباغك؟”
“صحيح.” أجاب كليمنت المنصف حيّ الضمير، “لطالما خطر لي أنني لو كنتُ من أهل الدنيا – عياذاً بالرب – لكنتُ لصاً بارعاً.”
حتى الأخ مارتن، المنكفئ على كتابه البغيض “في فضائل الأعشاب”، لم يتمالك نفسه من الضحك.
لكن عندما انتصف الصيف، نقل الأخ توماس نطاسيّ الدير إلى جون دعوة القيّم للعشاء في منزله تلك الليلة، وطلبه في أن يحضر معه ما أنجزه من إنجيله الكبير.
“لأية غاية؟”، تساءل جون، وقد كان منقطعاً كلياً لعمله.
“ليست سوى واحدة من مآدب ‘حِكمته’. لا بد أنك قد حضرت بعضاً منها منذ أن بلغت الرشد.”
“صحيح. وكانت طيبةً في الغالب. وكيف يريدنا ستيفن أن … ؟”
“برداء الرهبنة وقلنسوته وكل شيء. سيكون حاضراً طبيبٌ من ساليرنو، يُدعى روجر، إيطاليّ حكيمٌ ومشهور بدقة مبضعه الجراحي. إنه يقيم في المشفى منذ عشرة أيام تقريباً، ويقدم لي العون … نعم، لي أنا!”
“لم أسمع بهذا الاسم قط. لكن صاحبنا ستيفن طبيبٌ قبل أن يكون كاهناً.”
“وصاحبتُه آن مريضةٌ منذ زمن. وقد جاء روجر لأجلها قبل أي شيءٍ آخر.”
“هكذا؟ الآن إذ أفكّر في الأمر فإنني لم أرَ السيدة آن منذ مدّة.”
“بل أنت لم ترَ أي شيءٍ منذ مدّة. لقد لزمت الفراش منذ قرابة الشهر، وهم الآن مضطرون إلى حملها كلما احتاجت إلى الخروج.”
“ألهذا الحد إذن؟”
“لم يفصح روجر الساليرني عن رأيه بعد. لكن …”
“فليرحم الربّ ستيفن! … ومن سيكون أيضاً على المائدة، غير حضرتكم؟”
“راهب من أوكسفورد. اسمه أيضاً روجر. فيلسوفٌ وعالمٌ ذائع الصيت. كما أنه ذو باعٍ في الشراب.”
“ثلاثةُ أطباء، إذا أخذنا ستيفن في الاعتبار. لطالما وجدتُ أن ذلك يعني اثنان من الملاحدة على الأقل.”
أطرق توماس في حرج وقال متلعثماً: “هذا مثلٌ خبيث. لا ينبغي أن تردّده.”
“هوه! لا تترهبن عليّ يا توماس! لقد كنتَ نطاسياً في دير القديس إيلود لإحدى عشرة سنة، وما تزال أخاً من العامة. لِم لم تتلقَّ رتبتك الكهنوتية حتى الآن؟”
“أنا … لستُ أهلاً لها.”
“أنت أحقّ بها عشر مرات من ذاك الخرتيت البادن … هنري لا أدري مَن … ذاك الذي يجري قداسات المشفى. يأتي مهرولاً بالمناولة الأخيرة تحت أنفك، في حين أن المريض لا يعاني إلا من دوارٍ طفيف، فيقتله هنري من الفزع لا غير! وأنت تعلم ذلك! لقد رأيتُ وجهك في تلك المواقف. خذ الرُتبة، يا ديديموس*. لينالَ مرضاك حينها طبّاً أكثر بقليل، وقدّاساتٍ جنائزية أقلّ بقليل.”
“أنا غيرُ أهل … غيرُ أهل …”، غمغم توماس بأسى.
“لستَ كذلك … لكن لكلّ إمريءٍ سيّده الذي يقف بين يديه أو يسقط. وأما الآن، وقد أفرج عملي عني قليلاً، فسأشرب مع أيّ فيلسوف كان من أيّ مدرسة كانت. أي توماس، …” أضاف متوسلاً، “أريد حمّاماً ساخناً في المشفى قبل صلاة الغروب.”
عقب مأدبة القيّم، المطهوّة بإتقان والمقدَّمة بأناقة، وبعد أن رُفعت مفارش المائدة المهدّبة، جاء نائب القيّم بالمفاتيح مؤكداً أن كل أبواب الدير قد أُحكم إغلاقها؛ فأُعيدت المفاتيح للدير ومعها ردّ القيّم: “ابقوها كذلك حتى صلاة الساعة الأولى”.
خرج القيّم وضيوفه يبتردون بنسيم المساء في الرواق العلوي، الذي قادهم عبر السطح إلى الجهة الجنوبية من قنطرة صحن الكنيسة المثلثة بمحاذاة جوقة المصلّين. كانت شمس الصيف لا تزال عالية، إذ لم تتجاوز الساعة السادسة مساءً، غير أن كنيسة الدير غرقت في عتمتها المعتادة. وتحت ثلاثين قدماً أُشعلت الأضواء استعداداً لبروفة الجوقة.
همس القيّم: “مرتّلنا لا يمنحهم أي راحة. لنقف عند هذا العمود، وسنسمع ما يسومهم الآن من عذاب.”
تعالى صوت المرتّل الخشن: “تذكّروا جميعكم! هذه روح القديس برنارد بذاته تشنّ الهجوم على هذا العالم الآثم. تقبلوها سراعاً، أسرع من خطو الأمس، واقذفوا بكلماتكم واضحةً بعد أن تحسنوا مضغها، في الأعلى هناك! ابدؤوا!”
تفجّر صوت الأرغن فجأة، منفرداً وضاجّاً. ثم تدافعت الأصوات معاً في ذاك البيت الأول العنيف من ترنيمة De Contemptu Mundi “في احتقار العالم”:
Hora novissima
tempora pessima
“الساعةُ الأخيرة
حضيضُ الأزمنة”
ثم خيّم صمتٌ ميت، حتى قطعه صوت sunt “هو كذلك” الجازم، منطلقاً من العتمة كأنه زفرة نحيب، ثم صوت صبيّ واحد، أنقى من فضة الأبواق رددّ مطوّلاً: vigilemus “فلنسهر”
Ecce minaciter,
imminet Arbiter
“ها هو الديّان
قادمٌ يزمجر بالوعيد”
انضفر الأرغن بأصوات الحناجر في رعبٍ ونذير، ليفترقا منسكبين في: ille supremus “ذاك العَليّ”.
بعدها تبدلت ألوان النغمة ممهدةً لـ:
Imminet, imminet,
ut mala terminet—”
“قادمٌ، قادمٌ
ليُنهيَ كل الشرور”
“توقفوا! من جديد!” صاح المرتّل، شارحاً مواضع الزلل بحدّةٍ غير مألوفة في تدريبات الجوقة.
همس القيّم: “آه، يا لغرور الإنسان! لقد خمّن أننا هنا. فلنذهب.”
كانت آن نورتون، في كرسيّها الذي تُحمل عليها، تصغي أيضاً على الطرف الآخر من الممر العلوي المعتم، برفقة روجر الساليرني. سمعها جون وهي تنتحب. وفي طريق العودة، سأل توماس عن حالتها الصحية. وقبل أن يجيبه قاطعهما الطبيب الإيطالي حاد الملامح قائلاً لتوماس: “عقب حديثنا معاً، رأيتُ أن من الأصلح أن أخبرها.”
“بماذا؟”، سأل جون ببساطة.
أجاب روجر الساليرني: “ما كانت تعرفه سلفاً.”
ثم شرع في اقتباسٍ بالإغريقية مفاده أن كل امرأة تعرف كل شيء عن كل شيء.
أجابه جون بجفاء: “ليست لي دراية بالإغريقية.”
فقد ظلّ روجر ينفحهم الكثير منها طوال العشاء.
“إذن فسأباشرك باللاتينية. فقد قالها أوفيد ببراعة:
(Utque malum late solet immedicabile cancer)
(للشرِّ عادةُ السرطانِ المستعصي على المداواةِ في أن يستشري …)، لكن لا شك أنك تعرف البقية يا سيدي الفاضل.”
“يا للأسف! فلاتينيتي المدرسية لا تعدو ما جمعته عَرَضاً من تشدّق الحمقى الذين يدّعون علاج النساء المريضات. (هوكس بوكس …)، لكن لا شك أنك تعرف البقية يا سيدي الفاضل.”
ظل روجر الساليرني صامتاً تماماً حتى عادوا إلى قاعة الطعام، حيث أُشعلت النار من جديد، و ازدحمت الطاولة بالتمر والزبيب والزنجبيل والتين وحلوياتٍ معطّرة بالقرفة، إلى جانب أفخر أنواع النبيذ.
اتخذ القيّم مقعده وخلع خاتمه وألقاه ليسمع الجميع رنينه في كأسٍ فضّيّة فارغة، ثم مدّ قدميه ناحية الموقد، ورفع بصره نحو وردة مذهّبة تتوّج سقف القبو.
حلّ عليهم صمت الساعات المخيّم بين صلاة النوم Compline وصلاة الفجر Matins.
كان الراهب برقبته المحدبة كرقبة ثور يتأمل شعاع شمس كسّر نفسه ألواناً على حافة ملّاحةٍ من الكريستال، فيما انهمك روجر الساليرني من جديد في نقاشٍ مع الأخ توماس عن نوعٍ من الحمى المرقّطة كانت مثار حيرتهم في إنجلترا وخارجها. أما جون، فأخذ يتأمل ملامح روجر الحادة … لعلّها تصلح كإضافة لإنجيله الكبير، فتحركت يده إلى صدره. لاحظ القيّم ذلك وأومأ له بالإذن. فاستلّ جون قلمه فضي السنّ ودفتر رسومه.
“لا، فالتواضع محمودٌ في حد ذاته، لكن لتعرض رأيك أنت”، كان الإيطالي يلحّ على النطاسيّ.
ومن باب الليّاقة مع الأجنبي جرى جلّ الحديث بلاتينية المائدة، إذ هي أبلغ وأكثر رصانةً من اللاتينية الدارجة.
بدأ توماس، كعادته، بلعثمته الخانعة: “أقرّ بعجزي عن تصور تفسير لهذه الحمى، إلا إن صحّ ما زعمه فارّو في كتابه “في شؤون الفلاحة” De Re Rustica، أن بعض الحيوانات الصغيرة، التي لا تراها العين، تدخل الجسد عبر الأنف والفم، فتُحدث فيه أمراضاً وخيمة. لكن من جهةٍ أخرى، فهذا القول لا أصل له في الكتب المقدسة.”
أحنى روجر الساليرني كتفيه ورأسه كقطٍّ غاضب مغمغماً: “دائماً هذا!”
والتقط جون التقطيبة في شفتيه الرقيقتين ورسمها بسرعة.
تبسّم القيّم مخاطباً الرسّام: “ألا ترتاح أبداً يا جون! ينبغي عليك أن تتوقف كل ساعتين للصلاة، كما نفعل نحن. لم يكن القديس بندكت مغفّلاً. فساعتان متواليتان من العمل هما أقصى ما يستطيع المرء معه أن يحتفظ بحدة بصره أو دقة يده.”
قال جون: “للنسّاخين نعم. والأخ مارتن لا يتحمّل أكثر من ساعة. لكن إن استحوذ العمل على الرجل، فعليه أن يستمر حتى يطلق العمل سراحه.”
‘ذلك هو شيطان سقراط، لا غير.”، تمتم الراهب الفيلسوف من أوكسفورد، ممتعضاً من فوق كأسه.
“قولٌ لا يخلو من غرور”، قال القيّم. “تذكّر: (هل يكون الإنسان أبرّ من خالقه؟)”
أجاب الراهب بمرارة: “ما من خطرٍ يتهدد البرّ. لكن ألا يجوز للإنسان على الأقل أن يمضي قُدُماً في فنه أو فكره؟ ومع هذا، فإن لمحت أمّنا الكنيسة حراكاً منه قيد أنملة فما جوابها: لا!، دائماً لا!، ثم التفت إلى توماس: “لكن إن كانت تلك الحيوانات الدقيقة التي تحدث عنها فارّو غير مرئية، فكيف الأمل في الشفاء منها؟ … بالتجربة؟” قالها الراهب مستديراً نحوهم.
“بالعقل والتجربة. نعم لا نفع لأحدها دون الأخر. لكن أمّنا الكنيسة … “
“أجل أجل!”، اندفع روجر الساليرني نحو الطُعم الجديد مثل سمكة زُريك: “اسمعوا يا سادة! أساقفة كنيستنا وأميرنا يفرشون طرقاتنا في إيطاليا بجثثٍ هي صنيعة لهوهم أو غضبهم. جثثٌ جميلة! لكن لو أنني – لو أن أيّاً منّا نحن الأطباء – شقّ جلد إحداها لننظر صنعة الرب تحته، فماذا ستقول الكنيسة؟ ‘تدنيس للمقدّسات! الزموا خنازيركم وكلابكم، إما هذا أو المحرقة!’”
“وليست أمّنا الكنيسة وحدها!”، أضاف الراهب. “كل الطرق موصدة في وجوهنا، تسدّها كلمات رجلٍ ما مات منذ ألف عام، وكأنها القول الفصل الذي لا رادّ له. مَن مِن أبناء آدم له أن يُغلق بهذرمته باباً نحو الحقيقة؟ لا أستثني حتى بطرس بيريجرينوس، معلّمي العظيم.”
“ولا أنا استثني بول الإيجيني!”، صاح روجر الساليرني. ثم تابع كلامه: “اسمعوا يا سادة! إليكم حالةً في صميم المسألة: يؤكّد أبوليوس أن من يأكل على الريق من عصارة عشبة الحوذان مشقوق الأوراق، ونحن نسميها sceleratus”، وتعني (الخبيثة) أو (الخسيسة)” – قال هذه مومئاً ناحية جون بتعالٍ – “فإن روحه تترك جسده ضاحكاً. والآن … هذه كذبةٍ أخطر من الحقيقة، لأنها تتضمن شيئاً من الحقيقة.”
همس القيّم بيأس: “ها هو ذا …”
“فعصارة هذه النبتة، كما تعلمتُ من التجربة، تحرِق وتحدِث البثور وتلوِي الفم. وثمة ما يُدعى بالتكشير rictus، أو الضحك الكاذب على وجوه من هلكوا بسمومٍ قوية مستخرجة من أعشابٍ قريبة لهذا الحوذان، ذلك التقلّص في الفم يشبه الضحك فعلاً. فمن المرجّح عندي أن أبوليوس، وقد رأى جثمان رجلٍ مات بهذا السم، جمح بخياله وكتب أن الرجل مات ضاحكاً!”
أضاف الراهب مقطّباً جبينه: “دون أن يتأنّى في الملاحظة، أو يؤكدها بالتجربة”
رفع القيّم أحد حاجبيه ناظراً إلى جون وقال: “ما رأيك؟”
“لستُ بطبيب”، أجاب جون. “لكنني أقول أن أبوليوس، على مرّ هذه السنين، ربما خانته أقلام نسّاخه، الذين ربما ابتسروا نصوصه ليوفروا الجهد على أنفسهم. لنفترض أن أبوليوس كتب أن الروح تبدو وكأنها تغادر الجسد ضاحكاً بعد هذا السم. ثلاثة من كل خمسة نسّاخ، في تقديري على الأقل، سيحذفون كلمة (تبدو). فمن ذا الذي يشكك في أبوليوس؟ إن بدا له الأمر كذلك، فلا بد أنه كذلك. وإلا، فمن مِن الأطفال ليس على معرفةٍ بالحوذان مشقوق الأوراق؟”
سأله روجر الساليرني بجفاء: “هل لك درايةٌ بالأعشاب؟”
“فقط بمقدار أنني عندما كنت صبياً في الدير، كنت أدهن عصارة الحوذان حول فمي وعلى عنقي لأصنع بثوراً تعفيني من حضور صلاة الليل في البرد.”
“آه! أنا لا أدّعي معرفةً بالحِيَل.” قال روجر، ثم أشاح بوجهه.
تدخّل القيّم بلباقة قائلاً: “لا بأس! والآن حان وقت حِيَلك أنت يا جون. ستعرض على الأطباء مريمَك المجدلية وخنازير جدريّيك وشياطينك.”
“شياطين؟ شياطين؟ لقد خلقتُ شياطيناً بالعقاقير، وأبطلتها بذات العقاقير. أما إن كانت الشياطين خارجةً عن طبيعة الإنسان أو كامنةً فيه، فهذا ما لم أُصل فيه بعدُ لقولٍ قاطع.”
كان روجر الساليرني ما يزال غاضباً.
“لن تجرؤ!” صرخ الراهب الأكسفوردي. “فأمنّا الكتيسة تخلق شياطينها بنفسها!”
“ليس كلّ الشياطين!”، قال القيّم ستيفن ضاحكاً. “فصاحبنا جون قد عاد من إسبانيا بشياطين جديدة!”.
ثم أخذ الرقّ الذي قُدّم له، ووضعه برفقٍ على الطاولة، فتجمّعوا حوله يتأملونه.
كانت المجدلية مرسومةً بتدرجٍ رمادي باهتٍ وشبه شفاف grisaille، أمام خلفيةٍ عاصفةٍ ومتمايلة من شيطاناتٍ بوجوه نساء، كل واحدةٍ منها ترزح تحت إصر إثمها الخاص، وكل واحدةٍ منها تتلوّى بجنونٍ تحت سطوة المجدلية التي تُخضعها.
قال القيّم: “لم أر قطّ شيئاً شبيهاً بهذا التظليل الرمادي. من أين أتيت به؟”
قال جون: “Non nobis (لا فضل لي في الأمر)، لم آتِ به بل أتاني.”
ولم يكن يعلم أنه سبق زمانه بجيلٍ أو أكثر في استخدام هذه التقنية.
تساءل الراهب: “ولمَ هي شاحبةٌ إلى هذا الحد؟”
أجاب جون: “لأن كلّ الشر قد غادرها … فهي الآن قابلة لأي لون.”
قال الراهب متأملاً: “آه، كالنور من خلال الزجاج … فهمت.”
أما روجر الساليرني، فكان يحدّق صامتاً، منحنياً أكثر فأكثر فوق الصفحة. “هو كذلك.”، ثم نطق أخيراً، “هذا فعلُ الصّرع، الفم والعينان والجبهة … وحتى ارتخاء المعصم ذاك. كل علاماته! تلك المرأة في حاجةٍ إلى منشّطات، ثم إلى نومٍ طبيعي. لا عصارةَ خشخاش، وإلا تقيّأت عند استيقاظها. وبعد ذلك … لكنني لستُ في محاضرةٍ الآن.”
ثم اعتدل في وقفته وقال: “سيدي، ينبغي أن تكون من أهل حرفتنا. فبحقّ أفاعي أسكليبيوس، إنك ترى جيداً!”
وتصافح الاثنان كندّين.
تابع القيّم مبتسماً: “وما رأيك الآن في الشياطين السبعة؟”
كانت هذه قد ذابت في شِباك، شِبهُ أزهارٍ أو لهيب، تراوحت ألوانها بين الأخضر الفسفوري والبنفسجي القاتم البالي. كانت قلوبها تُرى نابضةً من خلال مادتها الشفافة. لكن في إشارةٍ إلى حُسن الرجاء، وأمل استعادة الحياة لمسراها المتعقّل، كانت حاشيةُ الصورة السفلى مزيّنةً بالمعتاد من أزهار الربيع والطيور، يتوّج كلّ ذلك طائر رفرافٍ أزرق، يميل بجناحه، مخترقاً عنقوداً من السوسن الأصفر.
تعرّف روجر الساليرني على ضروب الأعشاب المصوّرة وأسهب في الحديث عن فضائلها.
قال ستيفن: “والآن، خنازير جدرا.”، بسط جون الصورة على الطاولة.
هنا، كانت شياطينُ مطرودةٌ ممن تلبّستهم، مرتجفةً رعباً من أن تبيد في الفراغ، متكالبةً على بعضها البعض لأجل أن تقتحم أجساد الحيوانات المصورة أمامها، متدافعةً لتَلِج كل ثغر في أجساد تلك الحيوانات. وكانت بعض الخنازير تقاوم غزو الشياطين، مرغيةً ومزبدة؛ وبعضها الآخر استسلم لها، كأنما هو في نعاس، أو كأنما يلتذّ بتربيتةِ تدليلٍ على ظهره؛ أما البقية، وقد تملّكها المسّ بالكامل، فقد اندفعت هاربةً في هياجٍ نحو البحيرة أسفل التل.
وفي زاويةِ المشهد، بدا الرجل المُبرّأ من المسّ باسطاً أطرافه وقد استعاد سلطانه على جسده، بينما ربُّنا المسيح جالسٌ يرمقه وكأنما يتساءل عما سيفعله الرجل بما ناله من نعمة؟
قال الراهب متنهّداً: “هذه شياطينٌ بلا مراء! لكن من طرازٍ غير معهود.”
كانت بعض هذه الشياطين مجرد كُتلٍ متخمةٌ بتورّماتٍ ونتوءات، كأنها ملامح وجهٍ زنيم يتبدّى من خلفِ حُجبٍ شفافة. وعائلةٌ من شياطين صغيرة ومستديرة انفجرت من بطن أمها المكشرّة في سخرية، وأخذت تدور يائسةً حول فريستها. وشياطينُ أخرى تشكّلت على هيئة عصيٍ وسلاسل وسلالم، منفردة أو متشابكة، ملتفةً حول حلقوم خنزيرةٍ صارخة بدا من أذنها ذيلٌ زجاجيٌ يجلد الهواء امتدّ من مؤخرة شيطانٍ وجد في بدن تلك الخنزيرة ملجأً آمناً.
كان ثمة شياطين مفصصّة وأخرى مكتنزة، اختلطت بزَبد الخنازير ولعابها إذ اشتد هجوم الشياطين عليها.
هكذا تدور العين بين ظهور الخنازير المشتاطة جنوناً وهي تهوي سراعاً أسفل التل، ووجه راعيها المشدوه، وكلبه المرتاع.
قال روجر الساليرني: “رأيي أن شيطانيك هذه وليدةُ العقاقير. لا شيء كهذا يتولد عن عقلٍ سليم.”
“ليست هذه!”، قال توماس البيطار، برغم أنه كان ينبغي له – كخادمٍ للدير – أن يستأذن القيّم قبل أن يتكلم. ثم أضاف “انظر! … في الحاشية.”
كانت حاشيةُ الصورة مرصّعةً بزخارف بدت كحجراتٍ أو جحور غير منتظمة الأشكال إلا أنها متسقةٌ في مجموعها، تشغلها أو تسبحُ أو تتخبّط فيها شياطينُ “خاوية”، إن جاز التعبير — كائناتٌ لم تُنفخ فيها روح الشر بعد؛ لا مبالية، إلا أنها خارجةٌ عن نطاق التصوّر. وهذه أيضاً شابهت أشكالها سلالم وسلاسل ومرافع وألماساً وبراعم مُجهَضة أو كُراتٍ حُبلى ومُتوهجة، وبعضها كانت أشبه بالنجوم. لكنها بدت لروجر الساليرني كهواجس في عقل رجلٍ كنسيّ.
سأله الراهب الأكسفوردي: “أتراها خبيثة؟”
أجاب روجر بازدراء مقتبساً: (عُدّ كل ما تجهلُه مرعباً.)
قال الراهب: “ليس هذا من ديدني. لكنها رائعة … رائعة. أظن …”
ثم تراجع، بينما دنا توماس، وقد فغَر فاه، ليرى عن كثب.
قال له ستيفن، وكان قد راقبه لبرهة: “تكلّم فجميعنا هنا أطباء على نحوٍ ما.”
“أقول إذن”، اندفع توماس قائلاً طارحاً إيمانه في نار المحرقة؛ “إن تلك الأشكال الدنيا في الحاشية قد لا تكون ملعونةً أو خبيثةً بالضرورة، بل هي نُسخٌ ونماذج، صاغ منها جون وزيّن بها شياطينه الحقيقية هناك، بين الخنازير!”
سأله روجر الساليرني محتدّاً: “إلام ترمي؟”
“في تقديري المتواضع”، أجاب توماس، “أنه ربما رأى تلك الأشكال … من غير عونٍ من العقاقير.”
قال جون بيرجوس، بعد أن ندّت عنه سُبّةً لم يُعرها أحد انتباهاً: “ومن ذا الذي حباك فجأةً بكل هذه الحكمة، يا شكّاكي العزيز؟”
“أنا حكيم؟ معاذَ الله!”. قال توماس. “لكن تذكّر، أي جون، في شتاءٍ قبل ستة أعوامٍ نُدفَ الثلج وهي تذوب على كمّيك عند باب المطبخ؟ لقد أرَيتني إياها من خلال بلوّرةٍ صغيرة تكبّر الأشياء.”
أجاب جون مؤكداً: “أجل. يسمّي المور هذه الزجاجة عينَ الله.”
قال توماس: ” لقد أريتني إياها وهي تذوب … مسدّسة الزوايا. وسمّيتها حينها بـ(أشكَالِك).”
“صحيح. رقائق الثلج إذ تذوب تصير ذات زوايا ستِّ. لقد أفدتُ منها كثيراً في زخرفة حواشي مخطوطاتي”.
تعجب الراهب: “رقائقُ ثلجٍ ذائبة تتبدّى عبر زجاج؟ بفنٍّ بصريٌ art optic؟”.
صاح روجر الساليرني: “فنٌ بصري؟ لم أسمع بذلك قط!”
سأله القيّم بلهجةٍ آمرة: “أحقٌّ هذا يا جون؟”
“توماس محقٌ” أجاب جون: ” لحدٍ ما … تلك الأشكال في الحاشية كانت النماذج التي طوّعتُ منها الشياطين المرسومة في متن الصفحة. في حرفتي، أيها الساليرني، لا نجرؤ على تعاطي العقاقير. إنها تقتل اليد والعين. أشكالي حاضرةٌ كما هي … بصدقٍ، في الطبيعة.”
قرب القيّم نحوه وعاءاً من ماء الورد وهو يقول:”حين كنتُ سجيناً لدى السراسنة، بعد معركة المنصورة”، ثم كفكف كمّه الطويل، “كان ثمة سحرةُ … أطباء … قادرون على أن يُظهروا …”، غمس إصبعه الوسطى في الماء، “كل أفلاك الجحيم، كما هي …”، ونفض قطرةً واحدة من ظفره الصقيل على سطح الطاولة النظيف، “ولو في قطرةٍ واحدةٍ كهذه.”
قال جون: “لكن ينبغي أن يكون الماء آسناً، لا نقيّاً”.
قال ستيفن: “أرِنا إذن … جميعنا … كل شيء. أودّ أن أتأكّد، لمرةٍ أخرى.” كانت نبرة القيّم رسميةً.
أخرج جون من صدر رداءه صندوقاً من جلدٍ مختوم، طوله نحو ست أو ثماني بوصات، محفوظةً داخله على مخملٍ باهت أداةٌ أشبه بفرجارٍ من خشب البقس مؤطرٍ بالفضة، وبمسمارٍ أعلاه يفتح ويغلق سيقانه بدقةٍ متناهية. لم تكن السيقان تنتهي برؤوسٍ مدببة، بل كانت على هيئة ملاعق صغيرة، إحداها يتوسطها ثقبٌ مؤطرٌ بالمعدن لا يتجاوز ربع البوصة، وأخرى بثقبٍ أعرض، نحو نصف بوصة. في هذا الأخير، وبعد أن مسحه بخرقة حريرية، أدخل جون أسطوانة معدنية تحمل في كلا طرفيها ما بدا زجاجاً أو بلوراً.
قال الراهب: “آه! الفنّ البصري! لكن ما ذاك الشيء تحته؟”
كانت صفيحةً رقيقةً من الفضة الصقيلة، لا تزيد عن حجم عملة فلورين. كانت تلتقط الضوء وتُركّزه على الثقب الصغير. قام جون بضبطها دون أن يقبل محاولات الراهب للمساعدة.
ثم قال وهو يلتقط فرشاة صغيرة: “والآن لنبحث عن قطرةِ ماء.”
قال القيّم وهو ينهض: “تعالوا إلى الرواق العلوي. لا تزال الشمس تنير الرواق.”
وفي منتصف الطريق، وهم يتبعونه إلى هناك، كان تقاطر الماء من ميزابٍ قد حفر فجوةً في حجرٍ تحته، وتجمعت فيه نقيعةٌ من المياه المخضرّة. بعناية شديدة، أسقط جون قطرة من ذاك الماء في الثقب الصغير لساق الفرجار، ثم ثبّت الأداة على الحافة، وأخذ يدير مسمار المفصل ليضبط الأسطوانة، محركاً محور المرآة حتى رضي بالنتيجة.
“حسنٌ!” قال وهو ينظر من خلال الأسطوانة: “كل (أشكالي) ها هنا. والآن انظر يا أبتِ! إن لم يقع بصرك عليها للوهلة الأولى، فحرّك هذا الحزّ هنا، إلى اليسار أو اليمين.”
قال القيّم وهو يتخذ مجلسه أمام الأداة: “لم أنسَ هذا بعد.”
ثم أردف متأملاً: “نعم! ها هي ذي … كما عهدتُها في زماني … في أيامي الخالية. لقد قيل لي إنها لا تنتهي … لا نهاية لها!”
“الضوء إلى زوال”، صرخ الراهب متضرّعاً وهو يوشك أن يزاحم ستيفن على العدسة، “دعني أنظر! أرجوك دعني أرَها أنا أيضاً!”
أفسح القيّم له، غير أن عينيه ظلّتا شاخصتين إلى ماضٍ غابر. أما الراهب، فبدل أن يكتفي بالنظر، أخذ يقلّب الأداة بين يديه البارعتين.
قاطعه جون: “لا، لا. دع الطبيب يرى أولاً.” إذ كان الراهب قد بدأ يعبث بالمسامير.
دقيقةً وراء دقيقة ظلّ روجر الساليرني يحدّق في العدسة. رأى جون عظمتي وجنتيه المزرقتين تكتسيان شحوباً أبيض. ثم تنحى أخيراً، مصعوقاً.
قال بانبهارٍ متهدّم: “إنه عالمٌ جديد … عالمٌ جديد، و … يا لَجَورِ الرب! … وأنا .. قد شِخت!”
ثم قال ستيفن: “والآن، دور توماس.”
ناول جون الفرجار للبيطار بعد أن أعاد ضبطه، وكانت يداه ترتجفان. وهو بدوره أطال النظر. “إنها الحياة”، قال بصوتٍ متهدّج: “الحياةُ … لا الجحيم! إنها حياةٌ مخلوقةٌ بهيجة — عملُ الخالق ذاته. إنها تحيا … كما حلمتُ بها! لم تكن خطيئةً أن أحلم. لا خطيئة! … يا إلهي … لا خطيئة!”
ثم خرّ على ركبتيه وبدأ يصدح مهتاجاً بتسبحة “باركوا الرب يا من أنتم عملُ يديه” Benedicite Omnia Opera.
عاد الراهب الأكسفوردي مندفعاً: “والآن أودّ أن أرى كيف تعمل هذه الآلة.”
قال ستيفن مشيراً إلى الداخل: “لندخل. هذا المكان كله عيونٌ وآذان.”
عادوا يذرعون الرواق العلوي في صمت، تحوطهم ثلاثُ مقاطعات إنجليزية تحت ضوء المغيب؛ كنيسةٌ إثر كنيسة، ديرٌ إثر دير، والهيكل الشامخ للكاتدرائية الكبرى كسفينةٌ راسية على ضفاف وهج الغروب.
عند مائدتهم، جلسوا جميعاً إلا الراهب، الذي مضى إلى النافذة وانحنى فوق الأداة كخفاش. كان يتمتم لنفسه: “هكذا! هكذا!”
قال جون مطمئناً: “لن يخربّها.”
لكن القيّم، الذي كان مثله مثل روجر الساليرني يرنو للاشيء أمامه، لم يسمعه، وكان البيطار مطرقاً برأسه على الطاولة بين ذراعين مرتجفتين. مدّ جون يده إلى كأس خمر.
وكان القيّم يتحدث إلى نفسه: “لقد قيل لي في القاهرة أن الإنسان قائمٌ أبداً بين لانهايتين … من الضخامة والضآلة. لذا … فلا نهاية … لا للحياة … ولا لــ …”
قاطعه روجر الساليرني محتداً بمرارة الشيخوخة:
“وأنا أقف على حافة القبر … من يرثي لي؟”
“صمتاً!”، همس توماس البيطار: “تلك المخلوقات الصغيرة ستُقدَّس … ستُقدَّس لخدمة مرضاه.”
“وما الحاجة إلى ذلك؟”، قال جون بيرجوس وهو يمسح شفتيه: ‘فالبلّورة لا تُظهر إلا أشكال الأشياء. إنها وحسب تظهر صوراً جيدة. لقد عثرتُ عليها في غرناطة. وقيل لي أنها قد جُلبت من الشرق.”
ضحك روجر الساليرني بحقد رجلٍ مسن:”وماذا عن أمنا الكنيسة؟ أمنا الكنيسة المقدسة؟ إن بلغها تطفلنا على جحيمها من دون إذنها، فما المناص؟”
“المحرقة!”، قال القيّم بصوتٍ ارتفعت حدّته بقدر لا يكاد يكون محسوساً: “أسمعتَ ذلك يا روجر بيكون؟ هل سمعت؟”
استدار الراهب من عند النافذة، مشدوداً إلى الأداة التي بين يديه، قابضاً عليها بقوة. ثم قال مشغوفاً: “لا، لا! ليس في عهد فالكودي … ليس في عهد ‘فولكس إنجليزي القلب’ وقد صار البابا! إنه رجلٌ حكيم … رجلُ علم. لا ينفك يطالع ما أكتبه. فولكس لن يسمح بهذا أبداً”.
اقتبس روجر ببرود: (البابا المقدّس شيء، والكنيسة المقدّسة شيء آخر.)
تابع الراهب بحرارة: “لكن .. لكن بوسعي أن أشهد بأن هذا ليس من فنون السحر. لا شيء فيه سوى فنٍّ بصري … حكمةٌ بعد تجربةٍ ومحاولة، صدقوني. يمكنني إثباته … واسمي له وزنه عند من يجرؤون على التفكير.”
“اعثر عليهم أولاً!”، قهقه روجر الساليرني بسخريةٍ مبحوحة: “خمسةٌ أو ستة منهم في العالم كله. أقلُ من خمسين رطلاً من الرماد بعد المحرقة. رأيتُ أمثال هؤلاء … يعودون إلى الرماد.”
صرخ الراهب وقد تهدّم صوته بين الشغف واليأس: “لن أتنازل عن هذا! ستكون تلك خطيئةً ضد النور!”
“”لا، لا!”، قال توماس، “فلنقدّس هذه المخلوقات الصغيرة … مخلوقات فارّو.”
انحنى ستيفن للأمام، اقتنص خاتمه من الكأس، وأعاده إلى إصبعه بنعومة قائلاً: “يا أبنائي، لقد رأينا ما رأينا.”
أصرّ الراهب: “وما رأيناه ليس سحراً، بل فنٌ بسيط.”
“لن يُجدي ذلك شيئاً. في نظر أمنا الكنيسة، لقد رأينا أكثر مما يجوز للإنسان برؤيته.”
قال توماس: “لكنها حياةً … مخلوقة، متهلّلة!”
“أن تنظر إلى الجحيم … وهو ما به سَنُدان … وهو ما سيثبت ضدنا … أن تنظر إلى الجحيم، فهذا من شأن الكهنة وحدهم.”
قال روجر بتهكّم: “أو العذارى الواهنات في طريق القداسة، ممن لهنّ أسبابٌ … تعرفها أيّ قابلة!”
يد القيم نصف المرفوعة أوقفت هذر روجر اللاذع:
“ولا يجوز للكهنة أنفسهم أن يروا في الجحيم أكثر مما تعلَم الكنيسة أنه هناك. ثمة احترامٌ مستحقٌ للكنسية يا جون، كما هو مستحقٌ للشياطين.”
قال جون بهدوء: “حرفتي في ظاهر الأشياء. في الأشكال”.
قال الراهب: “لكنك قد تحتاج أن تنظر من جديد، بحثاً عن المزيد.”
“ما يتم إنجازه في حرفتي يُطوى، ويُطلب غيره”.
تابع القيّم حديثه: “وإن تعديّنا الحدود، حتى في الفكر، فإننا نصير عُرضةً لحُكم الكنيسة.”
عاود روجر الساليرني هجومه: “لكنّك تعلم! أنت تعلم! ها هو العالم بأسره غارقٌ في الظلمة بشأن عِلل الأشياء، عِلة الحمى، داءُ عقيلتك … امرأتك أنت! الداء الذي يتآكلها شيئاً فشيئاً. فكّر!”
“لقد فكّرت في ذاك يا ساليرنو. لقد فكرتُ فيه كثيراً.”
رفع توماس البيطار رأسه مجدداً، ولكنه لم يتلعثم هذه المرة: “كما في الماء، كذلك في الدم! تصطرع تلك المخلوقات! لقد ظللتُ أحلم بهذا لعشر سنوات. ظننتُه إثماً، لكن أحلامي … وأحلام فارّو … كانت صادقة! فكّر من جديد! هذا هو النور، بين أيدينا!”
“أطفئه! لن تصمد أمام المحرقة أكثر من غيرك. دعني أعرض عليك القضية كما ستعرضها الكنيسة – بل كما سأعرضها أنا نفسي: صاحبنا جون يعود من بلاد المور ليُرينا جحيماً يعجّ بالشياطين داخل قطرة ماء! سحرٌ لا يُغتفر! بوسعك أن تسمع حطب المحرقة يطقطق بالشرر”.
“لكنك تعلم! لقد رأيتَ كل شيءٍ من قبل! بحقّ عذاب الإنسانية! حبّاً الصداقة القديمة … ستيفن!”، كان الراهب يتضرع محاولاً أن يُخفي الآلة في صدر رداءه.
“ما يعرفه ستيفن دو سوتري، يعرفه أصحابه أيضاً. وأريدكم الآن أن تطيعوا قيّم دير سان إيلود. ناولني إياها!”. ومدّ إليه يده التي يرتدي فيها الخاتم.
“هل لي … أو هل لجون هنا … أن نرسم حتى مسماراً واحداً منها … مسماراً واحداً فقط؟”. قال الراهب بضراعةٍ، وبرغمِه.
“لا وَزَر!”. قال ستيفن وهو يتناول العدسة، “خنجرك يا جون، وهو في قرابه سيَفي بالغرض.”
فكّ الأسطوانة المعدنية من الفرجار، ووضعها على الطاولة، وبمقبض الخنجر هشم البلورة حتى صارت غباراً برّاقاً جمعه في باطن كفّه، ثم نثره في الموقد.
ثم قال: “يبدو أن الخيار قائم بين خطيئتين: أن نحجب عن العالم نوراً هو بين أيدينا، أو أن نكشف للعالم هذا النور قبل أوانه. ما رأيتموه، رأيتُه أنا منذ زمنٍ بعيد بين أطباء القاهرة. وأعرف أي عقيدةٍ استنبطوها منه. أحَلَمتَ يا توماس؟ وأنا كذلك … ولكن بعلمٍ أوسع. لكن هذه الولادة، يا أبنائي، جاءت قبل حينها. لن تكون إلا أمّاً لمزيدٍ من الموت، مزيدٍ من العذاب، مزيدٍ من الشقاق، وظلمةٍ أشدّ في هذا العصر المظلم. ولذلك، أنا … العارفُ بعالمي وبالكنيسة … أحمّل ضميري إصر هذا القرار. اذهبوا. لقد انتهى الأمر.”
ثم دفع بآخر ما بقي من خشب الفرجار بين جذوع الزان في الموقد حتى أتت عليه النار.
اترك تعليقاً