الأدب الروسي بين التكرار والابتكار: أزمة فقدان الصوت

·

·

,

إسراء الريس

من قمم دوستويفسكي وتولستوي إلى صدى الاستنساخ الأدبي المعاصر، تختصر رحلة الأدب الروسي مأساة الإبداع حين يتحول من فعل ابتكار إلى تكرار بلا روح. كان الأدب الروسي يومًا ما أحد أعمدة الإبداع العالمي، يفتح نوافذ جديدة على الوجود الإنساني ويطرح أسئلة لم يجرؤ غيره على طرحها. اليوم، يبدو المشهد وقد خفت بريقه، كأن صوتًا كان يملأ العالم توقف فجأة عن الكلام.

منذ بداياته الحديثة في القرن التاسع عشر، شكّل الأدب الروسي قوة كبرى.

لم يكن بوشكين مجرد شاعر قومي، بل مؤسس لغة أدبية جديدة استطاعت أن تلتقط النبض الشعبي والنبالة معًا.

تولستوي بدوره نقل الرواية إلى مستوى من العمق الأخلاقي والأنطولوجي لم يبلغه أحد من قبله، فيما فتح دوستويفسكي جراح النفس البشرية على مصاريعها، كاشفًا تناقضات الحرية والإيمان واليأس. أما تشيخوف فابتكر فن القصة القصيرة بصفائه المكثف، ليجعل من التفاصيل اليومية بابًا لفهم الوجود. لم يكن هؤلاء الكبار يكررون بعضهم، بل كان كل واحد منهم يخلق لغته الخاصة داخل اللغة الأم، يبتكر أفقًا جديدًا للتجربة الإنسانية، ويضيف نغمة فريدة إلى السيمفونية الروسية الكبرى.

هذا الإرث جعل الأدب الروسي حاضرًا في وجدان البشرية جمعاء. لم يعد شأنًا محليًا أو إقليميًا، بل صار صوتًا عالميًا يعيد تعريف معنى الأدب. لكن في العقود الأخيرة تغيّر المشهد. لم تعد الرواية الروسية قادرة على إشعال النقاش الفلسفي والأخلاقي كما فعلت من قبل. كثير من الأعمال المعاصرة تبدو أسيرة قوالب السوق العالمية: محاكاة لأساليب كافكا أو بيكيت أو حتى زولا، دون أن تضيف شيئًا جديدًا. النتيجة تضخم في عدد الكتب والعناوين، يقابله تراجع في القيمة النوعية، وغياب للأصوات القادرة على اختراق الصمت العالمي بصرخة حقيقية.

لفهم هذه الأزمة، يمكن الاستعانة بما طرحه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في كتابه خارج الفلسفة. عند دولوز، الأدب ليس مجرد انعكاس للواقع ولا تسلية جمالية، بل هو فعل مقاومة. الأدب يبتكر لغة داخل اللغة، يكسر القوالب الجاهزة ويُدخل الاختلاف إلى قلب التكرار. التكرار الذي يخلو من اختلاف لا يخلق أدبًا، بل ينتج نسخًا ميتة. بهذا المعنى، يبدو الأدب الروسي المعاصر في حالة تراجع لأنه فقد طاقته على توليد الاختلاف. صار يكرر بدل أن يبتكر، يقلد بدل أن يقاوم.

هذا الوضع ليس فريدًا. الأدب الفرنسي بعد القرن العشرين مرّ بمحنة مشابهة. من قامة فيكتور هوغو وفلوبير وبودلير، إلى انحسار البريق الفلسفي لصالح الأدب الأنجلوساكسوني الذي فرض هيمنته على السوق. ومع العولمة، صارت الرواية التجارية والبوليسية هي المهيمنة، بينما تراجع الأدب العميق إلى هوامش مكتبات مزدحمة بالعناوين. ما يعيشه الأدب الروسي اليوم يمكن قراءته في هذا السياق: أدب بلا مشروع وجودي واضح، منشغل أكثر بالمنافسة على الجوائز والمبيعات من الانشغال بطرح الأسئلة الكبرى.

غير أن الأزمة ليست نهائية. الأدب الروسي لم يمت، لكنه يعيش خواءً مؤقتًا. قوته التاريخية تكمن في قدرته على العودة إلى الجذور، إلى تلك الطاقة التي جعلت من نصوصه الكبرى نصوصًا كونية. ما يحتاجه الآن هو أن يستعيد شجاعته في خلق صوت جديد يهزّ اللغة من الداخل، صوت لا يرضى بأن يكون صدى لغيره، ولا يخشى أن يضع يده على جراح العالم المفتوحة. فالأدب حين يفقد صوته، يتحول إلى ضجيج بلا معنى، والضجيج لا يسمعه أحد.

السؤال إذن ليس إن كان الأدب الروسي قادرًا على العودة، بل متى وكيف. فالتاريخ يثبت أن هذا الأدب ينهض دائمًا من رماده. لكن النهضة لن تأتي عبر محاكاة موضات السوق أو التعلق بأمجاد الماضي، بل عبر مغامرة جديدة تعيد الاعتبار لوظيفته الأساسية: مقاومة الجمود والتكرار، والبحث عن معنى يليق بإنسان معاصر فقد بوصلة اليقين.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *