فيلم “هناك” (Being There) هل نسير على الماء؟

·

·

, ,

بستاني التلفزيون ووريث الذكاء الاصطناعي: هل مضى زمن الحكمة وحلّ عصر الإجابات المعلبة؟

في اليوم الذي هزم فيه “ديب بلو” بطل الشطرنج غاري كاسباروف، قال كاسباروف حينها إن هناك شيئًا في الكمبيوتر لم يفهمه، وإنه أثار خوفه. كانت هناك لحظات بدا فيها الكمبيوتر وكأنه… يفكر. بالطبع، الشطرنج ليست لعبة فكر بل استراتيجية رياضية، وقد أثبت “ديب بلو” أنه يمكن التفوق فيها دون الحاجة إلى وعي.

نُعيد إستذكار ذلك اليوم ونحن نواجهه الأجوبة الجاهزة والمعلبة للذكاء الإصطناعي من شات جي بي تي وحتى كل النسخ الحالية، التي تظهر مثل (شانس) فكلاهما مرآة للأخر، سذاجة العبقري أم عبقرية السذاجة؟

لطالما كان الاختبار الكلاسيكي للذكاء الاصطناعي هو: هل يمكن برمجة جهاز لإجراء محادثة تبدو بشرية للإنسان؟ وفيلم “هناك” هو عن رجل يعمل عقله ببرمجة ذكاء اصطناعي بدائية.

زُوِّد عقله بمجموعة من التعميمات السطحية عن العالم، من خلال جهاز التلفزيون، وجرى إستخدامها هكذا مصاغة في سياق حديقة عمل فيها طوال حياته. لكن لأنه يقدم نفسه كرجل نبيل (يسير ويتحدث كصاحب المنزل الثري الذي عاش فيه، ويرتدي بدله الفاخرة)، يُساء فهم بساطته على أنها عمق فكري، وسرعان ما يجد نفسه يقدم المشورة للرؤساء ويصادق الأثرياء.

جيرزي كوزينسكي: “الشهرة في أمريكا لا تقوم على العمق، بل على الظهور والوصول، على ابتسامة، على هيئة. إنها تقوم على الظهور كشخصية مهمة. السؤال الذي يُطرح ليس: ‘هل هو رجل صالح؟’ بل ‘ما هي الدوائر التي يتحرك فيها؟’

الرجل اسمه “تشانس” (Chance)، أي “فرصة”. نفهم أنه عاش كل حياته داخل منزل فخم وحديقة مسورة تعود لملياردير منعزل (ربما كان ابنه). يعرف فقط ما يحتاجه لروتينه اليومي: موضع غرفة نومه، حمامه، وكيف يعتني بالنباتات. تعد له “لويز” وجباته، لكن الفيلم لا يقدم تشخيصًا لحالته. إنه قادر على الاستجابة للإشارات، والتكيف والتعلم ضمن حدود.

في بداية الفيلم، يقدّم نفسه باسم “تشانس… البستاني”، لكن يُساء فهم اسمه ليصبح “تشاونسي غاردنر”، وهو اسم أرستقراطي يتناسب تمامًا مع مظهره. وسرعان ما يخبر الرئيس الأمريكي: “ربيع، صيف، خريف، شتاء… ثم ربيع مرة أخرى”. حكمة!

يقوم بيتر سيلرز بدور تشانس، وهو الممثل الذي قيل عنه ذات مرة إنه “لا يملك أي شخصية على الإطلاق. أنا حرباء. عندما لا أؤدي دورًا، أكون لا أحد”.فقد أدى الدور المثالي لهذا الدور المقتبس من رواية للكاتب يرزي كوزينسكي. يؤدي سيلرز دور تشانس كرجل يعيش في سلام مع نفسه.

عندما يتوفى الرجل العجوز ويُطرد تشانس من المنزل، نشهد مشهدًا شهيرًا يواجه فيه لصوصًا محتملين، ويصوب عليهم ببساطة جهاز التحكم عن بعد، ويضغط زرًّا، ويتفاجأ عندما لا يختفون.

يؤدي سيلرز شخصية تشانس على نفس الإيقاع طوال الفيلم. إنه منفصل، هادئ، آمن بمعرفته الخاصة، وغير مدرك لحدوده. وبفضل سلسلة من الفرص السعيدة، يُستضاف في منزل مليونير يحتضر اسمه “بنيامين راند” تستقبله زوجة المليونير، “إيف” ، في جناح الضيوف، حيث يسعد بوجود جهاز تلفزيون. جملته الأكثر شهرة هي: “أحب أن أشاهد”.

هل مضينا من جنة التلفزيون لجنة الذكاء الإصطناعي؟

سرعان ما يقدّر الرجل الثري صديقه الجديد الذي يبعث على الطمأنينة. يبدأ طبيب العائلة (ريتشارد ديسارت) بإبداء شكوك حول أصالة تشانس، لكنه يصمت عندما يخبره المريض أن “تشاونسي” قد “جعل فكرة الموت أسهل بكثير”. يقدم “بين” تشاونسي للرئيس (جاك واردن)، ليصبح مستشارًا غير رسمي، وسرعان ما يُستضاف في التلفزيون، حيث تتناسب أفكاره السطحية تمامًا مع مساحة “اللقطات الصوتية” المحدودة.

التهكّم (Satire) نوع مهدد بالانقراض في السينما الأمريكية، وعندما يظهر، يكون غالبًا فجًّا وساخرًا، فهو طائر نادر ومرهف يجد نغمته الخاصة ويحافظ عليها. يمتلك الفيلم جاذبية لعبة فكرية بارعة، ينجو فيها البطل من سلسلة من التحديات التي لا يفهمها، مستخدمًا كلمات عالمية المعنى ولكنها بلا معنى في نفس الوقت.

فجميعنا أدمن الحاجة للبقاء ضمن إطار اللقطات التلفزيونية القصيرة (10 ثوانٍ). أو لقطات التيك توك، التي توفر رغبة في تجنب الالتزام بادعاءات أو وعود محددة. ومن ثم نميز قصر مدة انتباه الجمهور، الذي مثل تشانس، يحب أن يشاهد ولكن دائمًا ما يكون جهاز التحكم في يده، الوهم الذي ينتقل حالياً ليصبح زر التنقل (Scroll).

إذا كانت شعارات تشانس تكشف مدى سطحية الخطاب العام، فإن طريقة استقباله تكشف أكثر من ذلك بكثير. لأنه رجل من الطبقة العليا، في منتصف العمر، أنيق، يرتدي بدلات مصممة خصيصًا، ويتحدث بأسلوب المثقفين، فإنه يُفترض تلقائيًا أنه شخصية مرموقة. لكنه في الحقيقة ساذج اجتماعيًا (“ستبقى دائمًا طفلاً صغيرًا”، كما قالت له لويز). هذا يقود إلى صراحة يمكن أن تُفهم على أنها ثقة، مثلما عندما يخاطب الرئيس باسمه الأول، أو يحتضن يده بكلتا يديه.

يُظهر الفيلم تنبؤات سياسية فنحن في عصرٍ حيث ارتقى أشخاص إلى مناصب سياسية رفيعة لمجرد أنهم يظهرون بشكل جيد على شاشة التلفزيون.

يجادل الفيلم بأنه إذا كان مظهرك صحيحًا، وصوتك صحيحًا، وتتحدث بكلام مبتذل، ولديك أصدقاء أقوياء، يمكنك أن تذهب بعيدًا في مجتمعنا. في نهاية الفيلم، يُقترح تشانس بجدية كمرشح رئاسي. حسنًا، لم لا؟

هل نسير على الماء مثل “تشانس”؟ تأملات في زمن “التفاهة المصطنعة”

ومثلما سار المسيح على البحيرة سرت في رؤياي

لكني نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلو ولا أبشر بالقيامة

لم أغير غير إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحاً

محمود درويش

في التسلسل الأخير الذي حظي بالكثير من النقاش في فيلم “هناك”، يسير تشانس بشكل طبيعي على سطح بحيرة. يمكننا أن نرى أنه يمشي على الماء حقًا، لأنه ينحني بفضول ويدس مظلته في الماء، ربما كان يمشي على رصيف مخفي، لكن بما أن المُخرج لم يُظهر رصيفًا، فلا يوجد رصيف. الفيلم هو بالضبط ما يظهره لنا، لا أكثر ولا أقل”.

فماذا يرينا إذن؟ يرينا تشانس وهو يقوم بشيء يرتبط بشكل أساسي بشخصية واحدة أخرى في التاريخ البشري. ماذا يفترض بنا أن نستنتج؟ هل تشانس شخصية مسيحية؟ هل حكمة القادة العظماء لها مظهر المعنى فقط؟ هل نجد في السياسة والدين ما نبحث عنه؟

الآثار المترتبة على الفيلم تبعث على القلق. هل من الممكن أن نكون جميعًا مجرد نسخ ذكية من تشانس البستاني؟ أو من ذكاء اصطناعي، هل نُدرب منذ سن مبكرة على الاستجابة التلقائية لكلمات ومفاهيم معينة؟ هل لا نفكر حقًا في أي شيء لأنفسنا، ونكتفي بتكرار ما نجح مع الآخرين في نفس الموقف؟

الكلمات الأخيرة في الفيلم هي: “الحياة حالة ذهنية”. لهذا، لن يكون أي كمبيوتر حيًّا أبدًا. ولكن بقدر ما نكون مقيدين ببرمجتنا، لن نكون كذلك نحن أيضًا. السؤال ليس ما إذا كان الكمبيوتر (الذكاء الإصطناعي) سيفكر يومًا مثل الإنسان، وسيقوم بما يقوم به الإنسان، بل ما إذا كنا نختار أن نحرر أنفسنا من التفكير مثله؟.

المصادر:
Being There Review by Roger Ebert


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *