أو ما يعرف بالأرواح(ييث – Yieeth)
عندما تنبثق التصورات الأرواحية من وعي الشعوب كنبضٍ كونيٍّ متكرر، تطلُّ ديانة الدينكا من سهول جنوب السودان بوصفها نسيجاً روحياً فريداً. هنا، حيث يمتزج الإله الأعلى(نياليك) بتجلياته في الأسلاف والطبيعة، تُحاكُ لعبةٌ مقدسةٌ من الوساطة والمُطلق. أو كما يرى *فونت* في “الأسطورة والدين”:
“هذه التصورات هي النتاج النفساني الضروري للوعي المكوِّن للأسطورة، وأن الأرواحية البدائية تعتبر التعبير الفكري عن حالة البداءة البشرية، حسبما أمكن لنا أن نتعرف على هذه الحالة.”
إنَّ الاستجابة الإنسانية البدئية للظواهر الغامضة – تلك التي تستفزُّ التأمل وتلد التصورات الروحية – تُشكِّل اللبنة الأولى لبناء العالم المقدس. وفي قلب هذا البناء، تقف ديانة الدينكا التقليدية كشاهدٍ على *توحيدٍ روحيٍّ مركزي*، لا كأرواحيةٍ مشتَّتة.
فهي في جوهرها *عبادة توحيدية مركزية للإله الخالق (“نياليك” ) تحتوي على عناصر يمكن وصفها بـ”الأرواحية” (الأرواح في الطبيعة، أرواح الأسلاف)، تعمل الأرواح كوسطاء ومظاهر لقوته في العالم المادي. الماشية والقرابة والتضحيات والكهنة هم روابط أساسية في هذه الشبكة الروحية المعقدة التي تهدف إلى الحفاظ على الانسجام بين البشر والإلهي والطبيعي. لا تزال هذه المعتقدات والممارسات حية وقوية بين الكثير من شعب الدينكا، رغم انتشار الديانات(المسيحية/الإسلام) .
نظرية الأرواح
“نظرية الأرواح” يمكن أن تشير لعدة اتجاهات فكرية أو فلسفية، بحسب السياق الذي تقصده.
أهم المعاني التي يرتبط بها المصطلح:
1. الأرواحية (Spiritualism): مذهب أو عقيدة تقول بأن أرواح الموتى يمكنها التواصل مع الأحياء عبر وسطاء روحيين (mediums) أو بطرق خاصة.
انتشاره: ظهر بقوة في القرن 19 في أوروبا وأمريكا، مع جلسات تحضير الأرواح. والهدف: إثبات أن الروح تستمر في الوجود بعد الموت وأن هناك عالماً آخر موازيًا.
2. الأنيميزم (Animism) – نظرية الأرواح في الأنثروبولوجيا: وهي رؤية بدائية/أنثروبولوجية للعالم تعتبر أن كل شيء في الطبيعة — إنسان، حيوان، نبات، وحتى الصخور والأنهار — له روح أو جوهر حي.
أصل الكلمة: من اللاتينية anima (روح).
انتشارها: موجودة في الكثير من المعتقدات التقليدية في إفريقيا، آسيا، وأمريكا الجنوبية، ومنها أساطير الشعوب الأصلية والقبائل.
3. النظريات الفلسفية عن الروح:
*أفلاطون: الروح خالدة، كانت موجودة قبل الجسد وستبقى بعده، ومعرفتنا الحقيقية تذكّر لما عرفته الروح قبل الميلاد.
*أرسطو: الروح صورة الجسد ومبدأ حياته، وليست منفصلة عنه عند البشر إلا في بعض الجوانب (العقل الفعّال).
*ديكارت: الروح جوهر مفكر منفصل عن الجسد المادي، وهي مصدر الفكر والوعي.
الفلسفات الشرقية (الهندوسية، البوذية): الروح (آتمن أو بودهي) تمر بسلسلة تناسخات حتى تصل للتحرر (موكشا أو نيرفانا).
4. النظرية الروحية في الأدب والأسطورة:
في الأساطير والأدب، “نظرية الأرواح” قد تكون إطارًا رمزيًا لتفسير الحياة والموت، العلاقات بين العوالم، أو أصل الكون.
في بعض الأساطير الإفريقية (مثل عند قبائل الدينكا والنوير)، الأرواح قد تكون وسطاء بين البشر والإله، أو تمثل أسلاف القبيلة. في الروايات الفانتازية الحديثة، تُستعمل فكرة الأرواح لطرح أسئلة فلسفية عن الهوية، الخلود، والمعنى.
الأرواح (ييث – Yieeth / ياث – Yaath):
هذه هي الجانب الأقرب إلى مفهوم “الأرواحية” عند الدينكا، و هي عبارة عن تجليات أو قنوات لقوة (“نياليك”) في عالمهم.
تنقسم إلي:
* أرواح الأسلاف (Yieeth ee Koc)
فهي ليست أطيافاً (Atip- أتيب) لكل ميت حسب تصورات شعب الدينكا، إنما لأسلاف مهمين، خاصة مؤسسي العشائر أو العائلات الكبيرة (“الكلانات”).
إنهم *جسورٌ بين الأرض والسماء*، يحرسون الذرية ويسقونها ببركاتهم. فـ”دينق ديت” (الأب الأول) و”أبوك ديت” (أم البشرية) ليسا ذكرى، بل حضوراً يُستدعى بالقرابين.

صورة مُتخيلة ومولدة بالذكاء الاصطناعي عن أبوك ديت” (أم البشرية)
*أرواح مرتبطة بالطبيعة (ييث باي – Yieeth ee Bai)
بحسب فلسفة الدينكا الروحية يمكن أن تتجلى قوة نياليك في ظواهر طبيعية أو أماكن معينة مثل الأنهار، أو تلال معينة، أو على شاكلة أشجار مقدسة، ظواهر المطر كوميض البرق وصوت الرعد المدوي، إلخ.
كل هذه التجليات، أنهارٌ تهمس بقدرة الإله، وتلالٌ تحمل أنفاسه، وأشجارٌ تمتدُّ جذورها في الماوراء. هنا تُصبح الظواهر الطبيعية كلماتٍ متجسدةً لا آلهةً منفصلة.
أرواح مرتبطة بالمجموعات
كل عشيرة أو مجموعة عائلية كبرى تحمل في وعيها الجمعي روحياً حامياً خاص بها (غالبًا ما يكون سلفًا مؤسسًا) يتجلي كطوطم حي كما هي للشعوب البدائية الآخري، هذه الأرواح تُذكِّر بأن الهوية الجماعية هي اتحادٌ عضويٌّ مع المقدس.

وبما إن الدينكا الدينكا تعتقد أن المرض والشقاء (جسدي أو مجتمعي) غالبًا ما يكون نتيجة لانتهاك النظام الأخلاقي، مما يغضب (“نياليك”) أو الأرواح، أو بسبب السحر أو تأثير أرواح شريرة، مما يستدعي لمجموعة من الممارسات و الطقوس من أجل إسترضاها بواسطة الكهنة (البانج بيض – Banybiith) والعرافون او ما يعرف ب(تيت – Tiet) غالباً ما تكون عبر تقديم التضحية والقرابين. لإسترضاهم في أوقات الشدة (الجفاف، المرض، الحرب)، أو الشكر على النعم (موسم ممطر جيد، ولادة، شفاء)، أو تكريم أرواح الأسلاف وطلب حمايتهم وبركاتهم، و التكفير عن الذنوب واستعادة الانسجام مع النظام الأخلاقي الإلهي.

في معتقدات الدينكا الروحية تظل مفهوم تناسخ الأرواح(أو التقمص) بعيدة كل البعد عن معناها الحرفي حسب السياق التاريخي والفلسفي لإنتقال الروح بعد الموت إلى جسد جديد، سواءً بشري أو حيواني أو نباتي أو جماد. التي تُصنف إلى أربعة أنواع رئيسية:
– *النسخ*: انتقال الروح إلى جسد إنسان آخر.
– *المسخ*: انتقالها إلى جسد حيوان.
– *الرسخ*: انتقالها إلى نبات.
– *الفسخ*: انتقالها إلى جماد .
إذ تختصر ثقافتهم الروحية حسب الروايات إلى إنتقال بعض القدرات الروحية مثل التنبؤ والشفاء الروحي من فرد ميت(أحد الأسلاف) إلى آخر لأن أواصر الدم هي قنواتٌ لنقل البركة الروحية، مثل أن تمس الروح بشكل مؤقت شخص آخر (الوسطاء الروحيين) ، أو ممكن آخذها كدلالة رمزية في بعض الطقوس، و نفس الحال بالنسبة إلى المسخ للحيوانات بحيث لا ينفصل عالم الدينكا الروحي عن نسيجهم المادي ف(المواشي) عند الدينكا نعم؛ لها *بعد روحي عميق*. هي هبة من (“نياليك”) لهم، ورمز للبركة والحياة والهوية الاجتماعية، تستخدم في جميع التضحيات الهامة، ودمها وحليبها له دلالات طقوسية، يمكن إختصار مفهومها الروحي بألوان وأنماط قرون الأبقار إذ تحمل دلالات روحية(كنية لبعض أنواع الأرواح) وتستخدم في الطقوس التي تعتبر إعادة نسجٍ للعالم، عبر تضحياتٍ ثلاثية الأبعاد: استرضاءً، شكراً، أو تكفيراً، رغم إن بعض الروايات للدينكا قد تشير إلى إنتقال بعض الأرواح كروح(قرنق ديت – Garang Dit) أو (مدول – Mdol) عبر قطعان المواشي من مرعي(مراح) أو عشيرة إلى آخرى، ولكن تبقى نظرية الإنتقال هنا مجرد قنوات للعبور والتنقل، بعيداً عن مفهوم المسخ الحرفي. و يُخطئ من يرى في معتقدات الدينكا شكلاً من أشكال التقمص المادي (نسخ/مسخ/رسخ/فسخ). الحقيقة أكثر شاعريةً: القدرات الروحية (كالعرافة والشفاء) قد تنتقل كصدىً من سلفٍ إلى خلف.
فتختصر طقوس (الإستدعاء أو الإستجلاب) و التضحيات للأرواح عند الدينكا للتواصل مع الأرواح، الصلاة والدعاء حيث يتم توجيه الصلوات غالباً إلى (“نياليك”)، من خلال أرواح الأسلاف كوسطاء.
بهدف إستعادة الصحة، والتي تعني أكثر من الشفاء الجسدي؛ إنها تعني *السلام، الانسجام، الازدهار، والعلاقة الصحيحة مع الإله الأعلي والأرواح والمجتمع والطبيعة.
اترك تعليقاً