سايمون أتر
يطلق الدينكا على الزواج كلمة “رواي” – Ruääi، وهي كلمة ثرية المعنى، تحمل في طياتها مفهومًا أعمق من مجرد الارتباط بين رجل وامرأة؛ فهي تعني القُربى، بما تتضمنه من روابط إجتماعية. كما يُطلق على العرس لفظ “ثييك” – thiëëk، ومعناه الدفع أو تقديم المهر، باعتباره هدية أو ثمنًا لهذه القُربى. – مع ملاحظة ان كلمتي”رواي” و”ثييك” مرادفان تُسخدما احيانا في نفس السياق – تبديلاً- دون المساس بالجوهر.
أما النقاش حول المهر فيُعبَّر عنه بكلمة “أكوين” – kuën أو akuën، التي تعني العدّ أو الحساب، في إشارة إلى العملية الدقيقة التي ترافق تحديد قيمته.
ويُشترط في المهر أن يكون من الأبقار، التي تُعد الثروة الأهم والأكثر رمزية لدى الدينكا، حيث يتم توزيعها في عملية تُسمى Tɛ̈k ɣɔ̈k – أي تقاسم الأبقار – بين أهل العروس. وهذه الخطوة نفسها لها طقس خاص يُعرف بـ Tɛ̈k lunĵ، وهو تقسيم المهر على الأقارب المستحقين.
وفي الزفاف، يُستخدم لفظ “أتووج” – atɔ̈c، الذي يشير إلى لحظة الانتقال الرسمي للزوجة إلى بيت الزوج، بما تحمله من معانٍ اجتماعية وروحية.
هذه السعة في المفردات تعكس سعة في مفهوم الزواج نفسه. وهنا يظهر أحد أهم الفروق الأساسية بين الزواج عند الدينكا والزواج في المجتمعات الأخرى.
فبينما يُنظر إلى الزواج في كثير من الثقافات كوحدة عقدية تربط الزوجين طيلة حياتهما وتنتهي بموت أحدهما أو كليهما، فإن الزواج عند الدينكا يستمر حتى بعد موت أحد الزوجين أو كليهما، لأن “رواي” ليس مجرد رباط بين شخصين، بل هو شراكة أو قرابة بين عشيرتيهما، يستمر أثرها إلى الأبد.
هذا التأبيد يجعل الزواج عند الدينكا هو، طقس العبور التجميعي المحوري، و وسيلة أساسية لتوسيع شبكة القرابة بين أناس لا تجمعهم رابطة الدم. ولهذا يخضع الزوجان “المرتقبان” لفحص دقيق في النسب والسلوك قبل الموافقة على الزواج؛ فإذا وُجدت صلة قربى مباشرة، أو كُشف عن عيب كبير – مثل سوء الخُلق أو ممارسة السحر أو وجود لعنة – يتم رفض إتمام الزيجة.

وكما ان الزواج هو طقس العبور التجميعي المحوري لدي الدينكا كذلك يمثل البقر “المهر” محور الزواج. البقر عند الدينكا ليست مجرد مورد اقتصادي، بل رمز للوفاء والخصوبة واستمرارية الحياة. فالمهر المدفوع بالأبقار لا يعبّر فقط عن قيمة الزوجة في عُرف المجتمع، بل عن التحالف طويل الأمد بين الأسرتين، حيث يبقى المهر رابط بين العائلتين لعقود، ويصبح مدخلًا لتبادل المساعدة في أوقات الأزمات.

في فلسفة الدينكا، يربط المهر – بقيمته المعنوية- الماضي بالحاضر والمستقبل، ويجعل الفرد جزءًا من نسيج جماعي لا ينفصم حتى بالموت. فالزوج أو الزوجة الراحل يبقى حضوره فاعلًا من خلال الأبناء وواجبات القرابة المستمرة، ما يعكس تصورًا دائريًا للحياة لدي الدينكا، حيث تبدأ وتنتهي الروابط ضمن شبكة القرابة، لا في حدود الأفراد فقط.
بهذا المعنى، لا يمثل الزواج عند الدينكا مجرد علاقة عاطفية أو عقد مدني، بل هو مؤسسة اجتماعية متجذرة في الذاكرة الجمعية، تُترجمها اللغة بمفرداتها الغنية، وتحيطها الطقوس بحرص وجلال، لتظل “رواي” رابطًا يوحد الأجيال ويعبر حدود الزمن.
اترك تعليقاً