حين تصبح الكتابة امتيازًا: دوائر مغلقة وموهبة مشروطة

·

·

,

من سلسلة مقالات إعادة إنتاج السرديات (٥)

قيمة النصوص لا تُستمد من لغتها فقط، ولا من عمقها، بل كثيرًا ما ترتبط بموقع النشر، وبمن يمتلك مفاتيح الوصول إلى المنصة. في المساحات النسوية، كما في غيرها، لا تتاح الكتابة للجميع.

فالمشهد يخضع لزوايا ضيقة، ورؤية مشروطة بمن يُشاهد ومن يُشاهد له.من تفتح أمامها أبواب النشر والتمويل والطباعة تُقدَّم بوصفها كاتبة ومنظّرة ومتحدثة رسمية، بينما تبقى تجارب كثيرة خارج التمثيل، رغم حيويتها. تُعاد صياغة مشهد السلطة المعرفية والاجتماعية بشكل دائري، عبر منظومة تحكمها علاقات غير معلنة ولكن مؤثرة.

حين تكتب فتاة من مكان بعيد عن المركز …..والمركز هنا لا يُختزل في الخرطوم أو العاصمة فقط، بل يشمل كل موقع يُنتج الامتياز: رأس المال الرمزي، والشبكات، والتمويل، والمنصات لا تُستقبل كتابتها كامتداد طبيعي للنسيج النسوي، بل تُعامل كحالة “جديرة بالاهتمام”! فقط لأنها جاءت من خارج السياق المتوقع.!

الكتابة من مكان معزول، أو دعم مؤسسي، أو حضور شبكي، تظل محاطة بدهشة غير مبررة. كأنها كُتبت من فراغ لا من حياة كاملة.

مراكز النفوذ، بمختلف أشكالها، لا تنشأ مصادفة ، تتكون عبر تراكمات اقتصادية وسياسية وتنظيمية تُعيد بناء الحقل بما يخدم الامتياز، وتُقصي من لم تُمنح له شرعية المشاركة وفق القالب المعتمد.

المسألة لا ترتبط بفن الكتابة وحده، بل بطريقة إنتاج المعرفة:

من يُصوغ السرديات، من يُمثل النسوية، من يُنسب إليه التمكين. ؟ ومن يُترك في الظل.؟

كل أدوات النشر والتمويل والأرشفة تتحرك ضمن أنظمة سلطة تُقصي من لا ينتمي إلى شبكة محددة، أو من تكتب بشروطها الذاتية، بعيدًا عن الاعتراف المؤسسي.

في سياق تتقاطع فيه الرأسمالية النيوليبرالية مع إرث الهيمنة الاستعمارية، تتشكّل شروط الظهور والتمثيل من جديد، داخل فضاءات التمويل والمنظمات والمبادرات النسوية على حدّ سواء.

تتحوّل بعض مؤسساتنا، عن وعي أو دونه، إلى مرآة تعكس ذات البني التي قاومناها: تعيد إنتاج من يُعتبر “قابلًا للدعم”، وتُهمّش أصواتًا لا تندرج تحت التصنيفات المريحة للمانحين، أو التي تُربك خطابًا نسويًا سائدًا قائمًا على شرعية مفترضة.

هكذا، يصبح الإقصاء مُقننًا ومؤسسيًا …. لا كفعل مباشر، بل كسلسلة اشتراطات تبدأ من اللغة، وتُصنَّف بناءً على رأس المال الرمزي، والوضعية المجتمعية، والانتماء لشبكات بعينها.

نحن أيضًا نحمل هذا الإرث، ونعيد تشكيله في مساحاتنا، حين يغيب سؤال العدالة الجندرية عن جوهر التنظيم، ويُستبدَل بمؤشرات تمويل، وقوالب جاهزة للظهور، ومراكز تمثيل جديدة تُعيد إنتاج هوامش المركز !!

من داخل هذه المنظومات، تظهر أكثر الظواهر إيذاءً: اقتباس التجارب دون إذن، واستحضار الأفكار تحت مسمى الاستلهام، وسرد الحكايات منزوعة من سياقها وأسماء صاحباتها.

هذا النص لا يأتي من موقع شخصي بحت، بل من إيمان بأن ما هو شخصي، سياسي. وأن الكتابة تظل التزامًا تجاه مشروع نسوي حيّ، متنوع، لا يخضع للاحتكار ولا للتحوير.

هنا يتولد السؤال الضروري:

هل تُصبح الموهبة مشروطة بمنابر معينة؟هل يحتاج الكاتب أو الكاتبة إلى اعتراف ممأسس كي يُحتسب ما يكتبه كمعرفة؟

هل يمكن لحركة تنادي بالعدالة أن تستمر في تدوير ذاتها داخل آليات لا تسمح إلا بمن تشبههم؟

النص لم يعد فعلًا فرديًا، بل ساحة تتصارع فيها الأصوات على الظهور، والتوثيق، والشرعية. من تُكتب عنها التجربة تُقصى أحيانًا من روايتها ! من تُعاش على لسانها الحكاية تُعاد صياغتها بلغة لا تشبهها.!

الحركات النسوية كثيرًا ما تطرح أسئلة التمثيل. لكن من تُعبر عنها؟ ومن تُقصي في طريقها نحو الاحترافية أو التقدير الدولي؟ هل ما زالت تتسع لكل النساء، بكل اختلافاتهن وتجاربهن، أم أنها تميل إلى خطاب ناعم قابل للتداول، يُرضي السوق والمنصة والمؤسسة؟الحاجة اليوم تتجه نحو مراجعة جذرية تتجاوز الشعارات:

• الاعتراف بالعنف الرمزي حين يحدث باسم التنظيم

• مراجعة التمويل وشبكات الدعم التي تصنع التراتبية

• تفكيك احتكار النشر، وبناء أرشيفات أكثر عدلًا

• تكريس ثقافة الاعتراف، والشفافية، واحترام النسب

هذه التجارب لا تنتظر إذنًا لتُروى، ولا مباركة لتُحتسب.“

أولست أنا أيضًا امرأة؟”سؤال طرحته سوجورنر تروث، وما زال يتردد إلى اليوم، في كل قاعة وورشة ونص.

هذا الحديث لا يهدف إلى الإدانة، بل إلى المحبة.

محبة لحراك نريده حيًا، متعددًا، لا انعكاسًا عقيمًا لنخبة مألوفة.

فلتكن الكتابة مساحة انفتاح، لا امتياز.فعل مساءلة، لا تلميع.

فعل اعتراف، لا إنكار.

ولتُفتح المنصات لمن تُكتب عنهن، لا فقط لمن يتقنّ الكتابة عن غيرهُن.

وإعادة إنتاج السرديات لا تكتمل دون التوقف أمام أدوات البنية ذاتها.

حين نتحرك بدافع الانتماء أو الاعتراف المشروط، نتنازل تدريجيًا عن ذواتنا.

تفكيك منظومة الاعتراف ليس تمرينًا فكريًا، بل خطوة تأسيسية تُعيد تعريف المجتمع نفسه، خارج التصورات المألوفة.

ليس ضروريًا الانتماء لمنظومة بعينها كي نكون مرئيات أو محبوبات أو مقبولات.

المعرفة لا تحتاج ختمًا.

والتجربة حين تُروى بصوتها، تخلق مكانها.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *