قراءة حول رواية “الغرفة ثمانية” للكاتبة رهام حبيب الله
بقلم اسراء الريس
تقدم رهام تجربة سردية مشغولة بحساسية عالية، ومشحونة بأسئلة الكرامة والمعنى والعدالة في أكثر أماكن الحياة هامشية: سجن النساء. لا تسعى الرواية إلى الإثارة أو الفضول، بل تذهب إلى عمق الجرح الإنساني، حيث تتحول الغرفة التي تضم النزيلات إلى مسرح مكشوف لحياة تُسلب بالتدريج، بقرارات خارجية وقسوة داخلية، فيما تتشبث النساء ببقايا أنفسهن في وجه عالم لا يتذكرهن إلا حين يُكتب عليهن العقاب.
النص لا يكتفي بأن يكون رواية عن السجن، بل هو عن كل السجون التي تُبنى في حياة النساء باسم العائلة والمجتمع والدين والزواج. الكاتبة اختارت أن تنحاز بوعي كامل إلى صوت الأنثى، لا بوصفها ضحية فقط، بل ككائن يبحث عن ذاته تحت الركام، كمن تقاوم غرقًا هادئًا في قاع الحياة. الشخصيات هنا لا تتحرك تحت ضوء التعاطف بل في مناطق الشك والأسى والتمزق، ومصدر قوة الرواية أنها لا تقدم بطلات مثالية بل نساءً حقيقيات، ممتلئات بالتناقض والرغبة والغضب.
اللغة في الرواية تلعب دورًا عضويًا. فهي تنزلق بسهولة بين الفصحى والعامية، دون تصنّع أو قسر، وتعكس الحالة الشعورية لكل شخصية وتؤسس لمشهدية صادقة تضع القارئ في عمق التفاصيل اليومية داخل الغرفة. تفاصيل الحياة الصغيرة تتحول إلى رموز: قطعة قماش تُخاط لتغدو وسادة، ارتجاف عين “السيدة” كعلامة، طريقة الجلوس، الصمت، الضحك، وكل ما يبدو عابرًا في الظاهر، يُستثمر في بناء داخلي متماسك.
تتوزع الرواية بين الأصوات، لكن دون أن تفقد بوصلة السرد. ثمة سردية جماعية واضحة، تنبع من تعدد الشخصيات، لكنها في الوقت نفسه تنحني في كثير من اللحظات أمام العمود السردي الذي تمثله “السيدة”، قارئة الودع وراوية الألم والعار والمصير. هذه الشخصية تحديدًا تشكل نقطة التقاء بين الخرافة والواقع، بين الذكاء الشعبي والتاريخ الشخصي، وتظل مثالًا على كيف تصنع السلطة في المجتمعات الصغيرة من دون أن تكون بيدها بالضرورة.
المشهد الأخير في الرواية يترك أثرًا طويل المدى. لا يُبنى على ذروة درامية مفتعلة بل على لحظة صامتة من السقوط الكامل. وتلك بالضبط هي قوة هذا النص: لا يحتفل بالبطولة ولا يقترح فداءً ولا خلاصًا، بل يضع المأساة أمام القارئ عارية، ثقيلة، ومعقدة، دون رغبة في تجميلها أو تحميلها معنًى خارجيًا.
رواية “الغرفة ثمانية” عمل مكتوب بإحساس دقيق، ووعي عميق بالبنية الاجتماعية والثقافية، وجرأة أدبية تُحسب للكاتبة في تناولها موضوعات لا تزال موصومة أو خاضعة للصمت. النص لا يطلب شفقة، بل يُجبر قارئه على الإنصات والاعتراف. رواية مكتوبة بإخلاص، وقابلة لأن تظل حاضرة في الذاكرة، ليس بسبب صدمتها، بل بفضل صدقها الكامل.
اترك تعليقاً