أشكالُ العالم الإثنا عشر

للكاتبين: لويس خورخي بورخيس و أدولفو بيوي كاساريس

ترجمة: علي أرباب

لذكرى خوسيه س. ألفاريز

الجدي، الدلو، الحوت، الحمل، الثور، فكّر أخيليس موليناري في نومه. ثم خالجته لحظةُ شك. رأى الميزان، والعقرب. وما إن أدرك خطأه، حتى انتفض مستيقظاً.

كان وجهه قد تشرّب دفء الشمس. وعلى الطاولة الصغيرة جوار سريره، فوق نسخةٍ من تقويم بريستول السنوي وكومة من أوراق اليانصيب، كانت عقارب المنبّه تعلن أنها العاشرة إلا عشر دقائق. نهض موليناري وهو ما زال يردّد أسماء الأبراج. تطلّع من النافذة. وهناك، عند زاوية الشارع، وقف الرجل المجهول. ابتسم موليناري ابتسامةَ من لم يخب توقعه. عبَر الدهليز متمهلاً، ثم عاد بشفرة حلاقة وفرشاة وقطعةٍ صغيرة من صابون مُصفرّ وكوب ماءٍ مغلي.

فتح النافذة على مصراعيها، ورمق الرجل المجهول بنظرةٍ مبالغة في لامبالاتها، وببطءٍ، وهو يصفّر لحن تانجو “البطاقة الموسومة”، شرع في حلاقة لحيته.

بعد عشر دقائق، كان موليناري في الشارع، مرتدياً بدلته البنية التي لا يزال يدين بآخر قسطين من ثمنها لمحلات “رابوفي” للخياطة الإنجليزية الراقية. اتجه صوب زاوية الشارع بخطىً واثقة. وفي الحال تظاهر الرجل بأنه منشغلٌ بقراءة نتائج اليانصيب الملصقة على الجدار.

معتاداً طقوس هذه المسرحية الكئيبة، جاوز موليناري زاوية الرجل المجهول إلى زاوية شارع “هومبرتو”. توقّفت حافلةٌ فاستقلّها. وليهوّن على الرجل الذي يتبعه مهمة ملاحقته، جلس في المقدمة. وبعد أن قطعت الحافلة شارعين أو ثلاثة تلفّت موليناري حوله. كان مُطارده، الذي تفضحه نظاراته السوداء، يطالع صحيفةً. وقبل أن تبلغ الحافلة وسط المدينة، كانت قد امتلأت بالركاب. كان في وسع موليناري مغادرتها دون أن يلحظه أحد، لكنه كان يخطط لما هو أفضل.

انتظر حتى “حدائق باليرمو بير” ثم نزل. ودون أن يلتفت للوراء مرةً واحدة، اتجه شمالاً بمحاذاة سور السجن، ودخل من البوابة الرئيسية. كان يعتقد أنه يتصرف بصورة طبيعية، غير أنه قبل أن يصل إلى الحراس المسلحين، ألقى سيجارةً كان قد أشعلها للتو.

تبادل بضع كلماتٍ مع رجلٍ بقميصٍ داخلي كان يجلسُ خلف مكتب. ثم اصطحبه أحد ضباطُ السّجن إلى الزنزانة رقم ٢٧٣.

قبل أربعة عشر عاماً، وبينما كان الجزار أجوستين ر. بونورينو في موكبٍ كرنفالي في حي بيلجرانو متنكراً في زيّ إيطالي، إذ تلقّى ضربةً قاتلةً على رأسه. كان من المعروف أن قارورةً من المياه الغازية أردته قتيلاً بيد أحد أفراد عصابةٍ تُعرف باسم “الحَدوات المقدسة”. لكن الفوائد الجمّة لهذه العصابة في موسم الانتخابات، دفعت بالشرطة لأن تُلصق التُهمة بإيسيدرو بارودي، الذي كان يصفه البعضُ بأنه “أناركيّ”، وهو ما كانوا يعنون به أنه غريب الأطوار.

في حقيقة الأمر لم يكن إيسيدرو بارودي فوضوياً ولا غريب أطوار. كان يمتلك محلّ حلاقة في حي باراكاس جنوبيّ بوينس آيرس. لكنه أرتكب هفوة أن يؤجّر غرفةً في منزله لكاتب عرائض من قسم شرطة الحيّ الثامن ظلّ يماطلُه سداد أجرة سنةٍ بأكملها.

هذا الاتفاق بين سوء الحظ وسوء التقدير كان كافياً ليصِم مصير بارودي. جاءت شهادة الشهود – وجميعهم من عصابة “الحَدوات المقدسة” – متطابقة، فحُكم عليه بالسجن واحداً وعشرين عاماً.

لاحظ موليناري أن هيئة قاتل العام ١٩١٩ طالها تغيّرٌ فرضه نمط حياةُ رتيب؛ كان قد بلغ الأربعينيات من عمره، بديناً، متجهّماً، حليق الرأس، تلتمع عيناه بحكمةٍ غير مفهومة.

هاتان العينان كانتا شاخصتين الآن إلى موليناري الشاب.

“كيف يمكن أن أخدمك يا صديقي؟”

لم تكن في نبرة صوته حفاوة ظاهرة، لكن موليناري كان يعلم أن بارودي لم يكن ينفر من الزوار. وفضلاً عن ذلك، لم تكن ردّة فعل بارودي تهمُّه بقدر حاجته إلى من يبوح له ويستشيره. بتمهّلٍ ودِربة كان بارودي منهمكاً في تخمير الماتّي في كوبٍ خزفٍ أزرق.

عرض شيئاً من الماتّي على موليناري. وبرغم توتره وتلهّفه لأن يروي مغامرته التي قلبت حياته رأساً على عقب، إلا أن موليناري كان يعلم ألا جدوى من محاولة دفع إيسيدرو بارودي للتعجّل. لكن ادهشته السهولة التي وجد بها نفسه ينخرط في حديثٍ عفوي عن سباق الخيول، وكيف أن الغش والتلاعب باتا يُفسدان نتائجه حتى صار من المستحيل التنبؤ بالفائز. لم يُعر دون إيسيدرو لذلك أدني اهتمامٍ، بل راح يكرر شكواه المفضّلة ضد الإيطاليين، الذين تسللوا إلى كل شيء، حتى إلى السجن نفسه.

قال: “أصبح السجن الآن مكتظاً بأجانب من أنسابٍ مشبوهة لا يدري أحدٌ من أين يأتون.”

اغتنم موليناري، الميّال بدوره لنوبات الحميّة القومية، فرصته للسخط، فقال أنه ضاق ذرعاً بالإيطاليين والدروز، ناهيك عن الرأسماليين الإنجليز الذين أغرقوا الأرجنتين بالسكك الحديدية ومسالخ اللحوم. وأردف قائلاً أن أحد هولاء الإيطاليين كان أول ما صادفه البارحة في بهو مطعمٍ للبيتزا.

قال دون إيسيدرو:

“قل لي، هذا الإيطالي الذي ذكرته … أهو رجلٌ أم امرأة؟”

“لا هذا ولا ذاك”، أجاب موليناري بلا تردّد. ثم أضاف: “دون إيسيدرو، لقد قتلتُ رجلاً.”

“يقولون أنني قتلتُ رجلاً أيضاً، ومع ذلك فانظر إليّ.

هوّن عليك. مسألةُ الدروز هذه معقّدة، لكن طالما أنه ليس ثمة كاتب عرائض من القسم الثامن يضمر لك الضغينة، فلن يصيبك مكروه.”

ذُهل موليناري، ثم تذكّر أن اسمه ارتبط بلغز مقتل ابن خلدون بفضل إحدى الصحف الصفراء_ صحيفةٌ وضيعة لا ترقى لمستوى الصحيفة الرصينة التي كان يكتب لها موليناري تقاريراً عن مباريات كرة القدم وبعض رياضاتٍ أخرى أكثر “نبلاً”. تذكّر موليناري أيضاً حدة ذهن بارودي الشهيرة، وأنه بفضل فطنته وتغاضي نائب مفوّض الشرطة جروندونا، كان يحظى بمطالعة متمعنة للصحف المسائية في زنزانته.

لم يكن دون إيسيدرو غافلاً عن تفاصيل قضيةِ مصرع ابن خلدون المريبة. ومع ذلك، طلب من موليناري أن يروي له ما حدث، راجياً منه ألّا يتكلم بسرعة، لأنه لاحظ ثقلاً متنامياً في سمعه مؤخراّ.

في شبه استرخاءٍ حكى موليناري قصته:

“صدقني أنا رجل عصريّ، ابن هذا الزمان. لقد رأيتُ الكثير، لكنّني أجد متعتي في التأمل أيضاً. ويبدو لي أن البشرية قد تجاوزت عهد المادية الخالصة. لقد حضرت مؤخراً طقوس قدّاسٍ ومناولة قربان، وقد خلّف زحام جماهير الكنيسة في نفسي أثراً لا ينمحى. فكما قلتَ لي في زيارتي الأخيرة لك – وصدقني إذ أقول أن كلماتك لم تذهب سدىً – إن لغز الحياة لا بد له أن يُحلّ.

هل تفهمني؟ إن المتصوفة ورهبان اليوجا، بحِيَلهم وتمارينهم التنفسية، يعرفون شيئاً أو شيئين. وبرغم أن التزامي الصارم بكاثوليكيتي قد دفعني لهجران “المعهد الوطني للدراسات الروحانية”، لكن قناعتي راسخةٌ أن الدروز قومٌ مستنيرون، وأنهم أقربُ إلى جوهر السرّ من كثيرين ممّن مرتادي الكنائس كل أحد.

خذ مثلاً الدكتور ابن خلدون؛ إن الرجل يمتلك مسكناً هو قبلة الأنظار في شارع ماتسيني، ومكتبته مذهلة.

أول مرة التقيته فيها كانت في إذاعة “راديو فينيكس”، في يوم عيد الأشجار. كان قد ألقى خطاباً مؤثراً، وأثنى فيه على إحدى مقالاتي. وبعد ذلك دعاني إلى منزله، وأعارني كتباً تتناول موضوعاتٍ جادّة، ثم ألحّ عليّ في حضور حفلٍ يقيمه. كان العنصر النسائي غائباً، لكن مثل هذه اللقاءات الثقافية لها قيمتها برغم كل شيءٍ … صدّقني.

يتهمُ الناس الدروز بعبادة الأوثان، لكن في قاعة اجتماعهم لم أرَ غير تمثالِ ثورٍ معدني قدرتُ أنه يكلّف ثروة. وعرفت بعد ذلك أنه في كل يوم جمعة، يتحلّق “العُقّال” – وهم المتقدّمون من المريدين – حول الثور.

كان الدكتور ابن خلدون يحاول أن يضمني للطائفة، ولم أرَ سبباً وجيهاً للرفض؛ كما أنني أردتُ الإبقاء على علاقةٍ طيبة مع الرجل العجوز، ثم إنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. لكن طائفة الدروز “منغلقة”، وقد رأى بعضهم أن من غير اللائق أن ينضم “غربيٌّ” لصفوفهم.

خذ مثلاً عبد الحسام، وهو صاحبُ أسطولٍ من شاحنات اللحوم المجمّدة؛ أصرّ عبدالحسام على أن عدد المختارين ثابت، وأن قوانين الجماعة لا تنص على قبول “مهتدين” من عقائد أخرى. واعترض أيضاً أمين الصندوق، عز الدين. لكنه نكرة؛ ينفق يومه بكامله خلف مكتب يُخربش أرقاماً في دفاتر الحسابات. وقد اعتاد الدكتور ابن خلدون أن يهزأ به وبدفاتره. ظل هؤلاء الرجعيون، بتحيزاتهم البالية، يحاولون إضعاف موقفي. ولا أتردد في القول أنهم، بشكل غير مباشر، كانوا وراء كل ما حدث.

في الحادي عشر من أغسطس وصلتني رسالةٌ من ابن خلدون، يبلّغني فيها أنني في الرابع عشر من الشهر سأخضع لاختبارٍ عسير، وأن عليّ أن أُعدّ نفسي له جيداً.”

تساءل بارودي: “وكيف كان عليك أن تُعدّ نفسك؟”

“حسنٌ، كما لك أن تتوقع، ثلاثةُ أيامٍ من الصوم لا أتناول فيها شيئاً غير الشاي، بالإضافة لتعلُّم الأبراج بالترتيب الصحيح كما يقضي به تقويم بريستول. وهكذا طلبتُ إجازةً مرضية من عملي الصباحي في دائرة الصرف الصحي. أدهشني في البداية أن تُقام الطقوس يوم الأحد، لا الجمعة، لكن أوضحت الرسالة أن “يوم الرب” أنسبُ لاجراء امتحانٍ على هذا القدر من الأهمية. وأن عليّ الحضور إلى الفيلا قبل منتصف الليل.

مرّ يوم الجمعة والسبت بهدوءٍ نسبي، لكني استيقظت صباح الأحد بشبه انهيارٍ عصبي. أتدري، دون إيسيدرو؟ حين أسترجع الأمر الآن، أعتقد أنني كنت استبطن ما كان سيحدث. لكنني لم أتراجع. قضيتُ اليوم بأكمله وتقويم بريستول في يدي. كان مشهداً هزلياً، إذ أخذت أنظر في ساعتي كل خمس دقائق لأرى إن كان بوسعي شرب كوبٍ آخر من الشاي. لا أدري لمَ كنت أنظر إلى الساعة؛ إذ لم أتوقف عن الشرب على أية حال. كان حلقي متيبساً وكنت أجرع الشاي لمجرّد كونه سائلاً. ولكن رغم لفهة انتظاري للامتحان، فاتني القطار المغادر لمحطة “ريتييرو”. وكان قطار الحادية عشرة والثلث الذي ركبته أبطأ من الذي فاتني. كنتُ قد حفظتُ ترتيب الأبراج عن ظهر قلب، لكنني واصلت مراجعة التقويم في القطار، وأزعجتني مجموعةُ حمقى يتشاجرون حول انتصار فريق”المليونيرات” على فريق “صبية تشاكاريتا”، وصدقني، لم يكن أحد منهم يعرف شيئاً عن كرة القدم.

ترجّلتُ في محطة “بيلغرانو آر” على بُعد ثلاثة عشر شارعاً من الفيلا. كنت أتمنى أن ينعشني المشي، ولكنه أنهكني تماماً. وتبعتُ تعليمات ابن خلدون بحذافيرها، فاتصلت به من الحانة عند زاوية شارع “روزيتي”.

أمام الفيلا تراصت صفوفٌ من السيارات؛ وبدا البيت مضاءً وكأن فيه مأتماً، وترامت أصوات الحضور من داخله.

كان ابن خلدون ينتظرني عند البوابة. ولفت انتباهي أن بدت عليه آثار الشيخوخة. لم تسبق لي رؤيته إلا نهاراً، ولذا لم أنتبه قبل تلك الليلة كم كان يشبه دانونتسيو بلحيته ووقفته.

والمفارقة أنني كنت على وشك أن أفقد عقلي قلقاً من الامتحان، ولكنني رغم ذلك تنبّهتُ لهذه التفصيلة التافهة.

سرنا على ممرّ مرصوف يلتف بمحاذاة المنزل، ثم دخلنا من بابٍ خلفي. كان عزّ الدين في المكتب، واقفاً عند خزائن الملفات.”

قاطعه دون إيسيدرو بلطف: “أنا أيضاً محفوظٌ في ملف منذ أربع عشرة سنة.” ثم تابع: “لكن هذا المكتب … صفه لي قليلاً.”

“حسنٌ .. الأمر في غاية البساطة. إنه يقع في الطابق العلوي. ثمة دَرَجٌ ينزل مباشرة إلى قاعة يجتمع فيها الدروز، نحو مئة وخمسين منهم، جميعهم مقنّعون ومسربلون بأرديةٍ بيضاء متحلقين حول الثور المعدني.

أما الملفات، فهي في غُرفةٍ صغيرة ملحقة بالمكتب، غرفةٍ أقرب لكونها محراباً. لطالما كانت لدي قناعة أن الغرف التي لا نوافذ لها مضرّةٌ بالصحة على المدى الطويل. ألا توافقني الرأي؟”

“لا تحدثني أنا عن غرفٍ بلا نوافذ،” أجابه دون إيسيدرو، “فمنذ أن انتقلتُ للمعيشة في هذا الجزء من المدينة اكتفيت بجدرانٍ مصمتة. أكمل وصفك لغرفة المكتب لو سمحت.”

“إنها غرفةٌ فسيحة. تضمُ مكتباً من خشب البلوط عليه آلةٌ كاتبة من طراز ‘أوليفييتي’. وبعض مقاعدٍ وثيرة تغوص فيها حتى أذنيك، ثمة أرجيلةٌ تركية بدت مكسورة لكن من الواضح أنها باهظة الثمن، وثريا من الكريستال، وسجادةٌ شرقية الطابع لكنها تصميمها أقرب ل”المستقبلية”، ثمة تمثالٌ نصفي لنابليون، ومكتبةٌ عامرة بالكتب الجادّة: ‘تاريخ العالم’ لتشيزار كانتو، ‘عجائب الدنيا والإنسان’، ‘المكتبة الدولية لمشاهير المؤلفين’، ‘دليل ديلي ميرور السنوي’، ‘البستانيُّ المصوَّر’ لبيلوفّو، ‘كنز الشباب’، ‘المرأة المجرمة’ للومبروزو،

ومن يدري ماذا كانت تضمّ غير ذلك من كتب.

كان عزّ الدين متوتر الأعصاب. وقد فهمت السبب على الفور؛ كان يحاول الانهماك في دفاتره. وكانت على الطاولة أمامه كومةٌ هائلةٌ منها.”

كان اهتمام الدكتور ابن خلدون، منصباً على الامتحان الذي سيجريه لي، وأراد التخلّص من عزّ الدين، فقال:

“لا تقلق، سأتولى مراجعة دفاترك هذه الليلة.”

لا أدري إن كان عزّ الدين قد صدّقه أم لا. لكنه ارتدى رداءاً أبيض لينضم إلى بقية من في القاعة دون أن يلتفت نحوي ولو للحظة. وما إن انفرد بي الدكتور ابن خلدون حتى قال لي:

“ألم تخرق شروط صومك؟ هل حفظتَ أشكال العالم الاثني عشر؟”

طمأنته إنني، منذ الساعة العاشرة من مساء الخميس – بعد أن تناولت حساءً خفيفاً وقطعة لحمٍ مشوي مع جماعة من دعاة “الحساسية الجديدة” في سوق الجملة – لم أتناول شيئاً سوى الشاي.

طلب مني عندها أن أُعدد له الأشكال الاثني عشر. ففعلت ذلك دون أن خطإٍ واحد، جعلني أكرّرها خمس أو ست مرات. ثم قال أخيراً:

“أرى أنك قد التزمت بالتعليمات. لكن ذلك وحده لم يكن ليكفي لو لم تكن مجدّاً وشجاعاً أيضاً. وأنا على ثقة أنك كذلك، ولذا قررت أن أتجاهل معارضي انضمامك.

سأكلفك باختبارٍ واحد – هو الأصعب والأخطر من بينها جميعاً. وقد خضتُ ذات الامتحان قبل ثلاثين سنة في جبال لبنان، لكنّ أساتذتي حينها كانوا قد مهّدوا لي قبله باختباراتٍ أسهل. كان امتحاني أن أعثر على عُملةٍ نقدية في قاع البحر، وغابةٍ من الهواء، وكأسٍ في جوف الأرض، وسيفٍ من عتاد الجحيم. أما أنت، فلن تبحث عن أربعة أشياء سحرية؛ بل ستبحث عن الأساتذة الأربعة الذين هم قُوّام “مُربّع الذات الإلهية المُحتجِب”.

هؤلاء الأربعة حاضرون في القاعة الآن، في مهمةٍ تعبّدية، وهم متحلّقون حول الثور المعدني يصلّون مع إخوانهم من العقّال، وجوههم مقنعّة مثل سائر الحضور. لا علامة تميّزهم … لكن قلبك سيتعرّف إليهم.”

آمرك أن تُحضر يوسف من بينهم. ستنزل إلى قاعة الاجتماع، مستحضراً في ذهنك، وبترتيبٍ صحيح، أشكال السماء الاثني عشر. وحينما تبلغ الشكل الأخير، الحوت، تعود مجدداً إلى الأول، الحَمَل، هكذا تُعيد الدائرة.

ستدور ثلاث مراتٍ حول العُقّال، وستقودك خطاك إلى يوسف، ما دمتَ لم تُخلّ بترتيب الأشكال. ستقول له: ‘ابن خلدون يريدك’، ثم تحضره إليّ.

بعدها سأكلّفُك بإحضار الأستاذ الثاني، ثم الثالث، فالرابع.”

“لحسن الحظ، كنت قد قرأتُ تقويم بريستول مراراً وتكراراً، حتى انطبعت الأشكال الاثنا عشر في ذهني.

لكن، كما تعلم، لأجل أن تخطيء يكفي أن يُقال لك ألا تفعل.

لم أكن خائفاً، أؤكد لك، لكن تملّكني توجّسٌ لم أجد له تفسيراً. صافحني الدكتور ابن خلدون قائلاً أن صلواته ستصحبني، ثم نزلت إلى الى القاعة.

كنت منهمكاً في استظهار الأشكال؛ وضاعف المشهد من ارتباكي، الأردية البيضاء، الرؤوس الخاشعة، الأقنعة الناعمة، وذلك الثور المقدس الذي لم أره من هذا القُرب من قبل.

رغم ذلك، أكملتُ ثلاث دوراتٍ دون خطأ، ثم وجدت نفسي خلف شخصٍ ملتفٍ برداء لا يختلف في شيء عمن حوله.

لكن عقلي كان مشتتاً بترداد الأبراج، ولم يكن لديّ وقتٌ للتفكير، قلت له: ‘ابن خلدون يريدك.’

تبعني الرجل، وظللتُ أراجع الأبراج في ذهني ونحن نصعد الدرج إلى المكتب.

كان ابن خلدون يصلّي؛ أشار إلى يوسف ليدخل الغرفة الداخلية، ثم التفت إليّ مجدداً وقال: ‘الآن نادِ لي إبراهيم.’

عدتُ إلى القاعة، أكملتُ ثلاث دوراتٍ من جديد، ووقفت خلف رجلٍ آخر في رداءٍ أبيض، وقلت له: ‘ابن خلدون يريدك.’ ثم قُدتُه إلى المكتب.”

قاطعه بارودي:

“على مهلك، يا صديقي، على مهلك. هل أنت على ثقةٍ أن أحداً لم يخرج من المكتب بينما كنتَ في القاعة تدور دوراتك الثلاث مثل ساحرات كولردج؟”

“اسمع .. أنا على ثقةٍ تامة. أعترف أن تركيزي كان منصباً على الأشكال، لكنني لست ساذجاً إلى هذا الحد. لم أرفع عينيّ عن ذلك الباب. لم يدخل أو يخرج منه أحد.

أمسك ابن خلدون بذراع إبراهيم وأدخله إلى الغرفة الأخرى، ثم قال لي: ‘الآن أحضر لي عزّ الدين.’

يا للعجب يا دون إيسيدرو، في المرتين الأوليين كنت واثقاً من نفسي تماماً؛ أما هذه المرة فقد فقدت أعصابي.

نزلتُ، وسرتُ حول الدروز ثلاث مرات، ثم عدت ومعي عزّ الدين. كنت مُنهكاً تماماً. وفي الدرج أصابني دوارٌ غام له بصري. ظننت أنه شيء يتعلق بداء الكلى الذي أصابني. بدا كل شيء مختلفاً – حتى الرجل الذي إلى جواري.

كان إيمان ابن خلدون بي قد بلغ حد أنه حين عدتُ كان يلعب السوليتير بدلاً عن أن يصلي. اقتاد عزّ الدين إلى المحراب، ثم قال لي بصوتٍ أبويّ: ‘هذا التمرين قد أنهكك. سأذهب بنفسي لإحضار المُريد الرابع .. خليل.’

الإرهاق غريمُ التركيز، لكن ما إن خرج ابن خلدون حتى تحركت لموضعٍ أتلصص منه عليه. دار ثلاث دورات دون تردد، ثم أخذ بذراع خليل وصعد به. قلتُ أن المحراب لا باب له سوى الذي يفتح على المكتب. حسناً، دخل ابن خلدون من ذلك الباب مع خليل، ثم خرج ومعه أربعة من الدروز المقنّعين.

رسم ابن خلدون علامة الصليب – فهؤلاء الدروز شديدو الورع – ثم قال لهم بأرجنتينية لا تشوبها شائبة أن يخلعوا أقنعتهم.

قد تقول إنني أختلق هذا كله، لكني رأيتهم بأم عيني:

عزّ الدين بوجهه أجنبيّ السحنة، وخليل، نائبُ مدير شركة لأنابيب الصرف والخدمات الصحية، ويوسف، وهو صهرُ رجلٍ أنفيّ الصوت، وإبراهيم، شريك ابن خلدون، شاحباً، بوجهٍ غير حليق، ويبدو كجثة.

من بين مئة وخمسون درزياً متطابقي الهيئة ها هم الأساتذة الأربعة أمامنا!”

“كاد الدكتور ابن خلدون من فرط حماسته أن يعانقني.

لكن البقية كانوا من ممن يكرهون إبداء مشاعرهم، كانت الخرافات والمحارم التي تثقلهم تجعلهم يتوجسون حتى من أن يربّت على أكتافهم. كانوا مُغضبين وأخذوا يتصايحون بالدرزية. حاول المسكين ابن خلدون جاهداً أن يُقنعهم، لكنه نزل عند رأيهم في النهاية. قال أنه سيخضعني لاختبارٍ آخر أكثر صعوبة، إلا أن نتيجته ستحدد مصائرهم جميعاً، بل وربما مصير العالم بأسره.’

قال: ‘سنعصب عينيك بهذا القناع. وسنضع في يدك هذه العصا الطويلة، وسنختبئ جميعاً في زوايا متفرقة من المنزل أو الحديقة. ستنتظر هنا حتى تدق الساعة الثانية عشرة. ثم تبدأ البحث عنا، واحداً تلو الآخر، مسترشداً بالأبراج. هذه العلامات التي تحكم العالم.

أثناء الامتحان، سنوكل إليك ترتيب الأبراج. سيكون الكون كله طوع إرادتك. إذا لم تُخلّ بترتيب الأبراج، فمصيرنا ومصير العالم سيستمر في مجراه المحدد. أما إذا أخطأت – كأن تأتي، مثلاً، بعد الميزان بالأسد أو العقرب – فإن الأستاذ الذي تبحث عنه سيهلك، وسيسقط العالم ضحية لفوضى رياحٍ ومياهٍ ونارٍ هوجاء.’

وافقوا جميعهم باستثناء عزّ الدين. كان قد التهم كماً من السجق جعله في شبه غيبوبة من النعاس، وبلغ به الارتباك حداً أنه صافحنا جميعاً عند خروجه – وهو أمرٌ ليس من سجيته مطلقاً.

“سلّموني عصا من الخيزران، وعصبوا عينيّ، وتفرّقوا، فوجدت نفسي وحدي. ارتعدُ من الرعب!

كنت منهمكاً في استظهار الأبراج بترتيبها الصحيح؛ منتظراً دقات الساعة الثانية عشرة، متيقناً من أنها لن تأتي أبداً. متحيّراً كيف سأشقّ طريقي في المنزل مغمض العينين.”

لم يكن المنزل يوحي بأنه لا نهائيٌ فحسب، بل وبدا غريباً بالكامل.

بدون قصدٍ مني وجدت نفسي أفكر في السلالم والردهات والأثاث الذي يعوق طريقي، فكرت في القبو والفناء والعُلّية. سمعتُ أصواتاً عديدة —حفيف أغصان الأشجار في الحديقة، خُطىً في الطابق العلوي، الدروز وهم يغادرون المنزل، صوت محرك سيارة عبد المالك من طراز ‘إيزوتا’. أتعرف؟ كان عبدالمالك هو من ربح يانصيب زيت الزيتون من شركة “راجّيو”. المهم أن الجميع كانوا يغادرون، وأنا وحدي هناك، في القصر، بينما الدروز مختبئون في مكان لا يعلمه إلا الله.

حين دقّت ساعة منتصف الليل طار قلبي شعاعا! انطلقت بعصاي – أنا، الشابُّ في ريعان عمري – أسير كالمعاق، كالأعمى، إن كنت تفهم ما أعني.

استدرتُ يساراً على الفور. أتذكُرُ صهر الرجل ذي الصوت الأنفي الذي حدثتك عنه؟ ذاك رجلٌ داهية، ظننت أنني سأجده تحت الطاولة. طوال ذلك الوقت، كنت أرى في ذهني بصفاءٍ كالزجاج رموز الميزان والعقرب والقوس، ورموز كل الأبراج. نسيتُ الردهة الأولى، وظللت أتعثر. ثم دخلت إلى صوبة النباتات، وفجأةً ضللت طريقي. لم أعد أعرف أين الباب وأين الجدران. وماذا كنت تتوقع من حِمية ثلاثة أيام من الشاي وحده، ناهيك عن ضغط الأعصاب؟ لكنني تماسكت وتوجهت نحو مصعد الطعام، متوقعاً أن يكون أحدهم قد اختبأ في مخزن الفحم. لكن هؤلاء الدروز، مهما بلغوا من ثقافة، لا يملكون دهاءنا الأرجنتيني الفطري.

عدت إلى قاعة الاجتماع، وتعثرت بطاولة ثلاثية الأرجل يستخدمها بعض الدروز الذين لا يزالون يؤمنون بتحضير الأرواح، وكأننا ما زلنا في العصور الوسطى. شعرتُ أن العيون في اللوحات الزيتية كلها تحدق بي. ربما أضحكك هذا، لطالما قالت أختي أن بي شيئاً من جنون الشعراء.

لكنني حافظت على تيقظي، وسرعان ما اكتشفت موضع ابن خلدون. مددت يدي، فإذا به أمامي. وجدنا السُلّم، دون عناءٍ كبير، وكان أقرب مما ظننت، وصعدنا إلى المكتب. لم نتبادل كلمة واحدة في طريقنا للمكتب، كنت ذهني ما يزال منشغلاً بالأبراج. تركتُ ابن خلدون وذهبت أبحث عن درزيٍّ آخر. حينها سمعت ضحكةً مكتومة. ولأول مرة راودني الشك.

بدأت أظن أنهم يسخرون مني. وفجأةً سمعتُ صرخة.

أقسم أنني لم أُخطئ في ترتيب الأبراج، لكن ربما، بفعل الغضب والمفاجأة اختلطت عليّ الأمور، فليس من ديدني تبرير اخطائي.

استدرت، أتحسس بعصاي، وعدت إلى المكتب. وهنا تعثرت بشيءٍ على الأرض. انحنيت، لمستُ شعراً، ثم أنفاً، فعينين … وبلا وعيٍ مني، نزعت العصابة عن عينيّ.

كان ابن خلدون ملقًى على الأرض فمه مزبدٌ باللعاب والدم.

تحسسته، كان لا يزال دافئاً لكنه كان جثةً هامدة.

لم يكن في الغرفة أحدٌ، رأيت العصا التي أسقطتُها، كان طرفها ملطخاً بالدم. حينها فقط أدركت أنني قتلته.

لا بد أن الأبراج قد اختلطت عليّ عندما سمعت الضحكة والصرخة، وقد كلّف ذلك رجلاً حياته – وربما حياة الأساتذة الأربعة أيضًا.

أطللتُ من الشرفة وناديت، لكن لم يُجبني أحد. مذعوراً هرعت إلى الجزء الخلفي من المنزل، وأنا أغمغم: “الحمل، الثور، الجوزاء…” محاولًا حماية العالم من الدمار. ورغم أن الحديقة كانت تمتد بطول حيٍّ كامل، فقد وجدت نفسي عند سورها في لمح البصر. لطالما قال لي تولّيدو فيراروتي إن لي مستقبلاً في سباقات الماراثون، لكنني في تلك الليلة كنت بطلاً في القفز العالي.

بقفزةٍ واحدة اجتزت السور، رغم أن ارتفاعه يناهز الستة أقدام. نهضتُ وأخذتُ أنفض شظايا الزجاج التي علقت بي، كنت أسعل بلا توقف. كان عمودٌ من الدخان، كثيفٌ وأسود كحشوِ لحافٍ قديم، يتصاعد من الفيلا. انطلقت أركض بلياقة فقدتها منذ شبابي. وحين وصلت إلى شارع روسيتي التفتّ ورائي؛ كان المشهد أشبه باحتفالات يوم الاستقلال: كانت السماء مضاءةً بنارٍ تلتهم البيت — هكذا يفعل خطأٌ بسيط في ترتيب الأبراج!

مجرد التفكير في الأمر جعل حلقي أشد جفافاً من لسان ببغاء. لمحْتُ شرطياً عند الزاوية فغيّرت اتجاهي، مسرعاً عبر ميادين ومساحاتٍ مفتوحة. كم هو مخزٍ لمواطنٍ أرجنتيني أصيل أن تظل مثل هذه الأراضي في مدينتنا!

طاردني جمعٌ من الكلاب فكدت أفقد وعيي. يكفي أن يبدأ أحدها بالنباح، حتى تُصم بقيتها أذنيك. ليس للمرء أن يشعر بالأمان في تلك الأحياء غربيّ المدينة، كما أنك لن ترى أي شرطي في الجوار. لكن، بعد فترة، أدركت أنني في شارع شارلون، فهدأت ثائرتي قليلاً. انعطفت يميناً، ثم يساراً، فوجدت نفسي عند سور مقبرة تشاكاريتا.

كان ثمة شرذمة من الصعاليك عند ناصية الشارع يهتفون: “الحمل، الثور”، ويصدرون أصواتاً لا تليق بفمٍ بشري.

ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ تظاهرت بأنني لا أراهم ولا أسمعهم. أتصدق؟ استغرق الأمر مني بعض الوقت قبل أن أدرك أنني أردد أسماء الأبراج بصوتٍ مسموع.

ضللتُ طريقي مجدداً. تعرف كيف هي الأمور في تلك الأحياء؛ لا يفقهون شيئاً عن التنظيم المدني، وجميع الشوارع تنتهي بك في متاهة. لم تخطر ببالي فكرة البحث عن وسيلة مواصلات. وكان حذائي في حالةٍ مزرية.

وصلت إلى المنزل عندما بدأ عمال النظافة تجوالهم. كان الإنهاك قد بلغ بي حد المرض، وأظن أن حرارتي قد ارتفعت. ألقيت بنفسي على السرير، لكني لم أسمح لنفسي بالنوم حتى لا أفقد تركيزي على الأبراج.

عند الظهر طلبتُ إجازة مرضية من الجريدة ومن دائرة الصرف الصحي. كان هذا حينما زارني جاري، الذي يعمل مندوب مبيعاتٍ لشركة “بريل كريم” وأصرّ على أن أرافقه إلى غرفته لتناول السباجيتي. إنني افتح قلبي لك الآن يا دون بارودي، لقد شعرتُ ببعض التحسن في البداية. لم يخلُ جاري من حس لباقة savoir faire، ففتح زجاجة من الموسكاتيل المحلي اللطيف. لكنني لم أكن في مزاجٍ مناسب للأحاديث العميقة. متذرٌعاً بثقل الصلصة على معدتي انسحبت إلى غرفتي. لم أغادر البيت طوال اليوم. لست ناسكاً بطبعي لكن قلقي مما جرى في الليلة الماضية حدا بي أن أطلب من ربة المسكن أن تحضر لي نسخة من الصحيفة المسائية. تجاوزت صفحة الرياضة، واتجهت مباشرةً إلى أخبار الجريمة، وهناك رأيت صور المحرقة.

في الساعة الثانية عشرة والنصف صباحاً، اندلع حريقٌ هائل في فيلا الدكتور ابن خلدون بحيّ ماتسيني. ورغم الجهود الجبّارة التي بذلتها فرق الإطفاء، فقد التهمت النيران المنزل بالكامل، وأودت بحياة صاحبه، العضو البارز في الجالية السورية-اللبنانية، الدكتور ابن خلدون، الذي كان رائداً في مجال استيراد بدائل مشمع الأرضيات.

أصبتُ بالذعر. كان محرّر المقال بوديتسوني، وهو معروفٌ بإهماله، وقد ارتكب عدة أخطاء في هذا المقال. فقد أغفل تماماً الطقس الديني الذي جرى تلك الليلة، وذكر أن المجتمعين كانوا يعقدون جلسة لمراجعة المحاضر وانتخاب هيئة إدارية جديدة! ثم أضاف أن السادة خليل ويوسف وإبراهيم غادروا المنزل قبيل الكارثة، وأنهم ذكروا في شهاداتهم أنهم ظلوا مع الفقيد يتجاذبون أطراف أحاديث وديّة حتى منتصف الليل، وبحسب روايتهم فإن الفقيد لم يُظهر أي علائم على توقعه للمأساة التي ستنهي حياته، وتحيل إلى رمادٍ بيتاً يُظهر كل فضائل الضاحية الغربية لمدينتنا. بل على العكس، كانت روح دعابته حاضرة كالمعتاد. أما سبب هذا الحريق الكبير فلم يتبيّن بعد.

لستُ متسيّباً في عملي، لكن منذ ذلك الحين لم أعد إلى الجريدة ولا إلى دائرة الصرف الصحي. كانت حالتي النفسية في الحضيض. وبعد يومين، تلقيت زيارةً من رجلٍ دمث، استفسر عن دوري في موضوع طلب مقشات ومماسح لصالح مقصف الموظفين في المستودع الحكومي بشارع بوكاريلي. ثم انحرف بالحديث إلى الجاليات الأجنبية، وكان اهتمامه منصباً على الجالية السورية-اللبنانية. ثم وعد بشكلٍ مبهم أنه سيعود لزيارتي لاحقاً، لكنه لم يفعل. بدلاً من ذلك، ظهر شخصٌ غريبٌ تماماً وتمركز عند ناصية شارعي، وهو يتبعني أينما ذهبت متخفيّاً خلف نظارات سوداء.

أنا أعلم أنك لست من أولئك الذين تنطلي عليهم ألاعيب الشرطة أو غيرهم. دون إيسيدرو، ساعدني! إنني يائس!”

قال إيسيدرو: “أنا لست ساحراً ولا عرّافاً، ولا أمضي وقتي في حلّ الألغاز. إلا أنني لن أبخل عليك بمساعدتي، لكن بشرطٍ واحد: عِدني أن تفعل كل ما آمرك به.”

قال موليناري: “تحت أمرك دون إيسيدرو.”

“جيد. سنبدأ الآن. ردد أسماء الأبراج حسب ترتيبها.”

“الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، العذراء، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت.”

“حسناً. والآن، رددها بالعكس.”

شحب وجه موليناري وقال بتلعثم: “الحوت … الجدي…”

“خزعبلات. كفى. الآن غيّر الترتيب وردد الأبراج بأي ترتيب تشاء.”

“أغيّر الترتيب؟ يبدو أنك لم تفهمني، يا دون إيسيدرو. هذا مستحيل!”

“مستحيل؟ أعطني أول برج، وآخر برج، وما قبل الأخير.”

مذعوراً، أطاعه موليناري. وهو يتلفّت حوله كمجنون.

: قال دون إيسيدرو: “جيد. الآن وقد أفرغت رأسك من هذه الترهات، عُد إلى عملك في الجريدة. ولا تخش شيئاً.”

صامتاً، مبهوتاً، وكأنما وُلد من جديد، خرج موليناري من السجن.

في الخارج، كان الرجل في انتظاره.

***

بعد مضيّ أسبوع، قال موليناري لنفسه إنه لم يعد يحتمل الانتظار، فلا بد له من زيارة ثانية إلى السجن. ومع ذلك راوده قلقٌ إزاء مقابلة بارودي مجدداً، لأن بارودي كشف ستر غروره وسذاجته المؤسفة.

آلمه أن يقع رجلاً بمثل ثقافته الواسعة ضحيةً لخداعٍ مذلّ على يد شرذمة من المتعصبين الأجانب!

في الأثناء، غدت زيارات الرجل الدمث أكثر تكراراً، وأكثر إثارةً للقلق. لم يَعُد يكتفي بالحديث عن السوريين من أصلٍ لبناني، بل صار يتحدث عن دروز لبنان كذلك. كما اتّسعت موضوعات حديثه لتشمل أموراً جديدة – كإلغاء التعذيب في عام ١٨١٣، ومزايا أداةٍ كهربائية للتعذيب استوردتها شعبة التحقيقات الجنائية حديثاً من بريمن، وأشياء من هذه الشاكلة.

ثم في صباحٍ ماطر، استقلّ موليناري الحافلة عند زاوية شارع هومبرتو. وعندما نزل في حي باليرمو، نزل الرجل الغريب وراءه. كان قد ترقّى من نظاراته الداكنة إلى رتبة التنكر بلحية شقراء.

وكعادته، استقبل بارودي موليناري بفتورٍ بادٍ. لكن لباقته منعته من الإتيان على ذكر لغز فيلا ماتسيني. بل شرع في الحديث عن موضوعٍ طالما شغل باله؛ ما يتسنّى للمرء فعله إن كان ملّماً بألعاب الورق. تطرّق لتعاليم لينكسي ريفارولا، الذي تلقى ضربةً بكرسي ومات في ذات اللحظة التي كان يستخرج فيها ورقة آس البستوني الثانية من أداةٍ خاصة كان يُخفيها في كمّه.

وكأنما ليستطرد في شرح القصة، أخرج بارودي رزمة أوراق لعبٍ متسخة، وطلب من موليناري أن يخلطها، ثم يصفّها على الطاولة ووجهها إلى الأسفل.

قال بارودي: “صديقي العزيز، إنك تتمتع بقوىً سحرية، وستستخرج من الأوراق لهذا العجوز البائس ورقة أربعة القلوب.”

قال موليناري متلعثماً: “أنا … أنا لم أدّعِ يوماً أن لديّ قوى سحرية. أنت تعلم جيداً، يا سيدي، أنني قطعت كل صلتي بأولئك المتعصبين.”

“وقد قطعت هذه الرزمة أيضاً. أعطني ورقة أربعة القلوب. لا تخف. إنها أول ورقة ستتناولها يدك.”

وبيدٍ مرتجفة، التقط موليناري ورقةً عشوائياً وناولها لبارودي.

“رائع”، قال بارودي وهو يمعن النظر فيها، “والآن ستعطيني فتى البستوني.”

ناوله موليناري ورقةً أخرى.

“والآن سبعة الديناري.”

فناوله موليناري ورقةً ثالثة.

قال بارودي: “لقد أجهدك هذا التمرين. سأختار الورقة الأخيرة بنفسي. إنها ملك القلوب.”

تناول ورقة عشوائية وأضافها إلى الأوراق الثلاث السابقة، ثم طلب من موليناري أن يقلبها.

كانت الأوراق هي: ملك القلوب، سبعة الديناري، فتى البستوني، وأربعة القلوب.

“لا تندهش كثيراً.” قال بارودي، “فبين هذه الأوراق واحدةٌ مميزة — الأولى التي طلبتُها، لا التي قدمتها. طلبتُ أربعة القلوب؛ فأعطيتني فتى البستوني. ثم طلبتُ فتى البستوني؛ فأعطيتني سبعة الديناري. وطلبتُ سبعة الديناري؛ فأعطيتني ملك القلوب.

ثم قلتُ أنك تعبت، وسأختار الورقة الرابعة بنفسي؛ ملك القلوب، لكن ما اخترته فعلاً كان أربعة القلوب، الورقة التي كنت قد وضعتُ عليها علامةً منذ البداية.

وهذا بالضبط ما فعله معك ابن خلدون. طلب منك أن تستدعي الدرزي الأول، فناديتَ له الثاني. طلب الثاني، فأحضرتَ الثالث. طلب الثالث، فأحضرتَ الرابع.

ثم قال لك أنه سيحضر الرابع بنفسه، وبدلاً عنه أحضر الأول.

كان “الأول” هو إبراهيم، أقرب أصدقائه إليه، ولذا لم يكن ابن خلدون ليجد صعوبةً في التعرّف عليه حتى وسط الزحام.

هل ترى الآن ما الذي يحدث لمن يورّط نفسه مع الأجانب؟

أنت بنفسك قلت لي أن الدروز مجتمعٌ مغلق. لقد كنت محقاً. وأكثرهم انغلاقاً كان ابن خلدون، عميد الجالية.

كان كلّ ما أراده بقيّة الدروز بعض العبث بأرجنتينيٍ بسيط، لكن ابن خلدون أراد إذلالك عن قصد.

قال لك أن تحضر يوم الأحد، بينما الجمعة ـ كما قلت ـ هو يوم طقوسهم. ولكي يلعب بأعصابك، جعلك تقتات على الشاي و”تقويم بريستول” لثلاثةِ أيام. وأجبرك أن تمشي … لا أدري كم ذكرتَ من الشوارع. وبعد ذلك ألقاك وسط حلقةٍ من الدروز المتسربلين بالملاءات، ثم زاد الطين بلّة بابتداع حكاية الأبراج و التقويم.

كان يستمتع بوقته. لكنه لم يكن قد اطلع بعد على دفاتر حسابات عزّ الدين .. ولن يفعل قط.

كانوا يتشاجرون بشأن الدفاتر حين دخلتَ عليهم، لكنك ظننتَ أنهم يناقشون رواياتٍ أو شعراً. ومن يدري ما كان يعبث به أمين الصندوق.

من المؤكد أنه هو من قتل ابن خلدون وأحرق المنزل حتى لا يطّلع أحدٌ على تلك الدفاتر.

ذكرتَ أنه ودّعكم، وأنه صافحكم جميعاً ـ وذكرتَ أنه لم يكن يصافح أحداً ـ ليؤكد لكم أنه قد غادر فعلاً. لكنه اختبأ قريباً، وانتظر خروج الآخرين ـ الذين كانوا قد ملّوا المزحة على الأرجح ـ وحين كنتَ تتحسس طريقك نحو ابن خلدون، بعصاك معصوب العينين، عاد عزّ الدين إلى المكتب.

وعندما عدتَ مع الرجل العجوز، انفجر الاثنان بالضحك لرؤيتك تجوس كالأعمى. ثم خرجت تبحث عن درزيٍّ ثانٍ، وكان ابن خلدون يتبعك ليتأكد من أنك ستصل للقاعة، وكان هو نفسه من تُحضره معك من جديد.

قمتَ بأربع جولات، متخبّطاً في طريقك، وفي كل مرة كنت تعود بنفس الشخص. وفي المرة الأخيرة طعنه أمين الصندوق في ظهره — لقد سمعتَ صرخته. وفي طريق عودتك إلى الغرفة، متحسساً طريقك، كان عزّ الدين قد فرّ، بعد أن أشعل النار في دفاتر الحسابات.

وبعد ذلك، ولكي يبرّر اختفاء تلك الدفاتر، أشعل النار في المنزل بأكمله.

بُوخاتو، محافظة سانتا في ٢١ ديسمبر ١٩٤١م

بوستوس دوميك (ستُ معضلاتٍ لدون إيسيدرو بارودي)

____

أشكال العالم الإثنا عشر للكاتبين : خورخي لويس بورخيسأدولفو بيوي-كاساريس نُشرت تحت الاسم المستعار H. Bustos Domecq. ظهرت لأول مرة في المجموعة الأدبية “Seis problemas para Don Isidro Parodi” عام 1942، ثم نُشرت ترجمة إنجليزية نادرة في مجلّة Texas Quarterly في خريف 1960م


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *