آدم إبراهيم
في مدينة جوبا، حيث تتداخل التحولات السياسية والاجتماعية مع تفاصيل الحياة اليومية، قد يبدو الحديث عن الفن ضربا من الترف. غير أن الفنان أكوت دينق، المعروف بـ”سوليب”، يقدّم نموذجا مغايرا، حيث يتحول الفن إلى حاجة داخلية، ومشروع وجودي متكامل يعيد من خلاله صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الذات والعالم.
خلال سنوات إقامتي في جوبا، كان من حسن حظي أن أشاركه السكن. لم يكن هذا التشارك مجرد اقتسام لمساحات مادية، بل كان بمثابة دخول يومي إلى مختبر فني حي، حيث تتخلّق اللوحات على مهل، وتنضج الأفكار عبر حوارات طويلة وعميقة حول الفن والثقافة والمجتمع والذاكرة. كنت أراقب كيف تبدأ اللوحة بخطوط متواضعة، ثم تنمو تدريجيا لتتحول إلى عالم مكتمل بالألوان والانفعالات والرموز. وكانت نقاشاتنا تمتد لتلامس قضايا فكرية وإنسانية، تغذّي العقل والوجدان معا. ومع مرور الوقت، أصبح من دواعي سروري أن تتحول بعض أعمالي الفوتوغرافية، خاصة البورتريه، إلى مصدر بصري للعديد من لوحاته، في تفاعل عضوي بين لحظة الالتقاط ومسار التكوين.

يعيش أكوت الفن بكل تفاصيله. لا يفصل بين حياته اليومية ومشروعه الإبداعي؛ بل يدمجهما في تجربة واحدة، حتى يكاد من يعرفه ألا يميّز بين الفنان والإنسان. هو شخص مرهف، هادئ الحضور، يميل إلى التأمل، وتغمره مشاعر صادقة تجاه من حوله. يحافظ على روابط قوية وحميمة مع عائلته وأصدقائه، وهي علاقات ليست هامشية بالنسبة له، بل جزء أصيل من نسيجه الإبداعي؛ تغذي حساسيته، وتثري أعماله، وتمنحها دفئا إنسانيا نادرا.
لم يكن أكوت يوما فنانا منغلقا على مرسمه، بل انخرط بفاعلية في الفضاء العام، ساعيا إلى ترك أثر ملموس. خلال السنوات الماضية، شارك في مبادرات جماعية وحملات مجتمعية، مثل مشروع (أنا تابان) لترسيخ ثقافة السلام عبر الفن، وحملة “دِفاي هت ناو” لمحاربة خطاب الكراهية. كما بادر بشكل فردي إلى تجميل مدينة جوبا عبر رسم الجداريات في شوارعها، ساعيا لتحويل الجدران الباهتة الصمّاء إلى ذاكرة بصرية نابضة، وبثّ لمسة جمالية في تفاصيل مدينة منهكة. بالطبع، لم يكن الأمر سهلا؛ فقد واجه مرارا رفض ملاك المباني السماح باستخدام جدرانهم، ما قلّص المساحات المتاحة له. ومع ذلك، لم يتراجع، بل استثمر كل فرصة، وحوّلها إلى إنجازات مؤثرة.

من أبرز تلك الإنجازات جدارية المنتخب الوطني لكرة السلة، التي رسمها قرب ملعب كرة السلة في حي نمرة تلاتة. تحوّلت الجدارية لاحقا إلى معلم بصري بارز، خاصة بعد مشاركة الفريق في أولمبياد باريس 2024، لتصبح أكثر من مجرد عمل فني؛ تحوّلت إلى رمز وطني ومصدر إلهام، لا سيما للفئات المهمّشة والمشرّدة، التي وجدت فيها انعكاسا لكرامتها وتجسيدا لهوية جامعة، عزّزها الفريق بإنجازاته، وأكملها أكوت بريشته. لكن من المؤسف أن هذه الجدارية لم تصمد طويلا، وتعرضت للمحو خلال أعمال الترميم التي طالت المكان لاحقا.
ومن بين مشاريعه اللافتة أيضا، مبادرته في إعادة تدوير البلاستيك، تحديدا زجاجات المياه (الكريستالات)، وتحويلها إلى أعمال فنية باستخدام تقنيات الكولاج، عبر تلوينها ودمجها مع الخشب. في مدينة تنتشر فيها مخلفات البلاستيك على الأرصفة وتتسلل عبر الخيران إلى النهر، مكوّنة مشهدا بصريا مؤذيا للبيئة، جاءت مبادرة أكوت كمساهمة فردية جادة للحد من هذا التلوث. لم تكن المهمة سهلة، لكنها جسّدت قناعته بأن للفن دورا يتجاوز الجماليات إلى معالجة قضايا البيئة والمجتمع، حيث تحوّلت النفايات إلى مواد خام لصنع أعمال فنية بديعة تحمل رسالة بيئية بقدر ما تحمل قيمة جمالية.

لا يقتصر حضور أكوت على الفضاء العام، بل يمتد إلى المجال الأكاديمي، حيث عمل أستاذا مساعدا في مدرسة الفنون والدراما بجامعة جوبا، مجسّدا نموذج الفنان المعلّم؛ لا يكتفي بنقل المعرفة، بل يرعى تجارب طلابه، ويدفعهم لاكتشاف ذواتهم الفنية في بيئة لا تزال بأمسّ الحاجة إلى هذا النوع من الرعاية. إلى جانب ذلك، يتقن أكوت التصميم الغرافيكي، وأسهم بإبداعه البصري في عدد كبير من الفعاليات الثقافية والفنية في المدينة، عبر تصميم ملصقاتها ومطبوعاتها وهوياتها البصرية. كما ساهم في تنظيم معارض وورش فنية، فردية وجماعية، بصورة شبه دورية، ما جعل المشهد الفني في جوبا أكثر حيوية وثراء خلال السنوات الماضية.

اليوم، يخوض أكوت فصلا جديدا في مسيرته، بمتابعته دراسة الماجستير في مجال الرسوم المتحركة (الأنيميشن) في القاهرة، وهو تخصّص نادر في جنوب السودان، مما يجعل خطوته مغامرة طليعية تفتح أمامه أفقا جديدا للخيال والتعبير البصري. ومن المؤكد أن هذا المسار سيزوّده بأدوات سردية بصرية أكثر تطورا، تتيح له رواية القصص وتجسيد الذاكرة بأساليب أكثر ديناميكية وعمقا.
أكوت سوليب ليس مجرد فنان تشكيلي؛ إنه مشروع فني وإنساني متكامل. دليل حي على أن الفن يمكن أن يكون أسلوب حياة، وأداة للوعي، ومسارا لبناء ذاكرة جمعية وهوية جامعة. عبر ريشته، وتفاعله الحي مع مجتمعه، يقدّم أكوت نموذجا نادرا للفنان الذي يرى العالم بألوانه، ويعيد صياغته بشغف لا يخبو.

_____

______

اترك تعليقاً