الطوطم وحدود الدم: تابو سفاح القربى لدى الدينكا

·

·

, ,

تبرز مؤسسة *الطوطم* لدى قبائل الدينكا ليس كظاهرة دينية غريبة فحسب، بل كحجر زاوية في البناء الاجتماعي والثقافي. هذه المؤسسة، التي قد تبدو لنا اليوم كبقايا من عصور سحيقة تخلى عنها معظم العالم لصالح أنماط حديثة، تحتفظ لدى الدينكا – وشقيقاتها من القبائل النيلية – بحيوية فائقة وقوة تنظيمية تُحسد عليها، لا سيما في تنظيمها الدقيق لأكثر العلاقات البشرية حساسية: الزواج والقرابة.

الطوطم: النسب الرمزي والحامي الأسطوري

كما حلل العالِم سيجموند فرويد في عمله المؤسس “الطوطم والتابو”، يمثل الطوطم – سواء أكان حيواناً مقدساً، أو شجرة وارفة، أو قوة طبيعية جارفة – كياناً يتجاوز كونه مجرد رمز. إنه *”الأب الأول”* الأسطوري، الحامي الوجودي للجماعة البشرية المرتبطة به برباط لا ينفصم، أو ما يُعرف محلياً بلغة الدينكا بمصطلح *”ياض”*. هذا الارتباط ليس اعتباطياً؛ فهو يُحدد هوية الفرد وينظم انتماءه الاجتماعي في نسيج معقد من العلاقات والالتزامات.

حرمة الدم المشترك

ينتج عن هذا النظام الطوطمي قانونٌ اجتماعي صارم، أشبه بسياج مقدس يُحيط بعلاقات القرابة: *التحريم المطلق للزواج أو العلاقات الجنسية بين أفراد ينتمون إلى طوطم واحد داخل العشيرة أو القبيلة*. هذا التحريم، الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد تقليد بدائي، يتكشف عند التمعن بوصفه نتاج *حكمة اجتماعية متبلورة عبر حقب موغلة في القدم*. إنه ليس فرضاً فحسب، بل آلية بالغة التعقيد صُممت للحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي وضبط الحدود بين الجماعات البشرية، متجذراً في صرامة أخلاقية لا هوادة فيها.

الاستثناء والطقس: كسر الحاجز وثمن الانفصال

صحيح أن قلب النظام الطوطمي ينبض بهذا التحريم، إلا أن الأنثروبولوجيا تسجل حالات نادرة من “الخروج” على هذا القانون، و عند الدينكا يشرح لنا الكاتب/ أتيم سايمون عندما كتب عن الطوطم، وزواج الأقارب ولماذا تبيح عشيرة اكوربيل مثل هذا الزواج؟

  إلا أن هذا الخروج ليس أمراً هيناً؛ فهو أمرٌ يُعالج بصرامة وطقوس بالغة الدلالة، تُجسد عملية *”موت اجتماعي”* للزوجين.

تتم بذبح قربان للطوطم، وتُقطع إلى شطرين في مشهد درامي مفعم بالرمزية، ليرمز هذا الفعل إلى *انفصال صلة القرابة* بين العروسين و**انقطاعهما الأبدي** عن عشيرتيهما الأصليتين. قد يُفرض أيضاً على الرجل دفع *”مهر دموي”* يعادل دية القتل، اعترافاً من الأهل بأن هذه الزيجة تحمل بذور الشؤم، وتنازلاً قاسياً عن البنت.

الطوطمية المقارنة: أوجه شبه وأبعاد كونية

لا تقف ظاهرة الطوطمية وحظر زواج المحارم عند حدود الدينكا. فسكان أستراليا الأصليون، على سبيل المثال، يقدمون نموذجاً موازياً يعكس فكرة *”القرابة الافتراضية”* بين البشر والطبيعة (حيواناً، نباتاً، ظاهرة). في كلا النظامين، يصبح الطوطم رابطة مقدسة تُحرم الزواج حتى بين أفراد من قبائل مختلفة إذا تشاركوا الطوطم ذاته، مؤكدةً على قوة هذا الرابط الرمزي الذي يتجاوز الدم البيولوجي أحياناً.

طوطم الدينكا في مواجهة الحداثة والأديان السماوية، وصمود الهوية

الأكثر إثارة في سياق الدينكا هو *صمود نظامهم الطوطمي* رغم رياح التغيير العاتية. فبينما تخلت شعوب بدائية عديدة في الأمريكيتين وآسيا وأوروبا عن طوطميتها لصالح أنظمة حديثة، تمسكت الدينكا – كقلعة ثقافية منيعة – بهذا الإرث المتجذر في الأساطير والتقاليد. بل إن قوة هذا النظام تتجلى في مواجهته للعقائد السماوية المستوردة. فمع اعتناق بعض أفراد الدينكا للإسلام – الذي يبيح زواج أبناء العمومة – لم يهتز هذا “الركن الركين” من ثقافتهم. بقى *الطابع الطوطمي متجذراً في الوجدان الجمعي**، واضعاً **العرف الثقافي والتقاليد المتوارثة فوق النص الديني الجديد*. إنه شاهد صارخ على سطوة الذاكرة الجمعية وقدرتها الفائقة على الصمود في وجه التشريعات الدخيلة.

الحكمة الخفية: البيولوجيا والتماسك الاجتماعي

قد يبدو هذا النظام البدائي للوهلة الأولى متخلفاً، لكن الأنثروبولوجيا والعلوم الحديثة تكشفان عن *حكمة بالغة* تكمن في صميمه. فتحريم زواج الأقارب داخل الطوطم الواحد، بالإضافة إلى أبعاده الدينية والاجتماعية التي قد توازي تحريمات في ديانات كالمسيحية، يجد تبريراً قوياً في *المعرفة البيولوجية البديهية*. إنه يشكل آلية غير واعية للحفاظ على الصحة الجينية للقبيلة، حيث يمنع تراكم العلل الوراثية وضعف النسل الذي ينجم عن زواج الأقارب، كما تؤكد علوم الوراثة المعاصرة. وهو أيضاً، من منظور أخلاقي، سدٌ منيع ضد ما يُنظر إليه كـ “انحدار نحو الفساد والانحطاط” الداخلي، مما يصون قوة النسيج الاجتماعي وصرامته الأخلاقية.

تظل الطوطمية لدى الدينكا أكثر من مجرد نظام قديم؛ إنها *نسغ حيوي يجري في عروق هويتهم الثقافية*. إن قدرتها على تنظيم العلاقات الأكثر حميمية، وصمودها أمام تحديات الحداثة والتحول الديني، واشتمالها على حكمة بيولوجية واجتماعية فطرية، يجعلها نموذجاً أنثروبولوجياً فريداً.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *