بقلم: سايمون أتر
في قلب السهول الشاسعة ، والادغال كثيفة الاشجار حيث يتشابك تاريخ الإنسان مع إيقاع الطبيعة، تتجلى حكمة قبيلة الدينكا العريقة في تعاطيهم مع الحياة اليومية. ولان الألسنة حافظة لحكمة الأجداد، فأن لغتهم ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي كنز من المحكيات المدهشة، والجمل النثرية البديعة، والمقولات المأثورة التي تتلألأ فيها بصائر عميقة عن الحياة. من بين هذه الدرر اللغوية، تبرز مقولة “ɣäc ee adukɛ̈ Nhialic”. هذه العبارة، التي يمكن ترجمتها إلى “البطن قدح الإله/الرب”، ليست مجرد قول يهدف إلى التصبير أو التطمين؛ إنها دعوة روحية عميقة، وسر من أسرار الصمود في وجه قسوة الظروف.
جذور الحكمة: عندما يروي الجفاف حكايات العزّة
تُشير الروايات الشفاهية إلى أن هذه المقولة قد نشأت في أزمنة “المسغبة الشديدة” تلك المجاعات القاسية التي طالما عصفت بمناطق الدينكا عبر التاريخ، نتيجة لموجات الجفاف المتكررة، حيث ينضب الزرع، وتنفق الماشية التي تمثل شريان الحياة. فلا يتبقى للدينكا خيار سوى اللجوء إلى الصيد.
لكن الصيد في مجتمع الدينكا ليس نشاط أساسي لتوفير الغذاء. فالدينكا، في جوهرهم، مجتمع رعوي أصيل، تُشكّل الأبقار فيه مصدر غذائهم الأساسي، كما تُمثل محور حياتهم ، ووجودهم بل فخرهم الأسمى. هذه الحيوانات الوديعة ليست مجرد ثروة مادية؛ إنها رمز للمكانة الاجتماعية، وعمق الارتباط بالأسلاف، وأساس كافة الطقوس والتعاملات. فإمتلاك قطيع من الأبقار يعني أن الرجل ذو قيمة، ذو نفوذ، ومحل احترام.
لذا، عندما يُضطر الرجل الدينكاوي إلى حمل رمحه والخروج للبحث عن طريدة في الأدغال، او سمكاً بين الانهار والمستنقعات ، كان ذلك يُعتبر وصمة “عار” ثقافي عميق. إنه إعلان صامت عن الفقر، عن العجز ، وعن انحدار إلى مرتبة أدنى من المعيشة. ثقل هذا الشعور يتمثل في اضطرار المرء لانتهاك قيم مجتمعه الجوهرية بالتفريط في الحفاظ على المجد الرعوي لمجرد البقاء على قيد الحياة.
في خضم هذا الثقل الروحي والجسدي، تأتي مقولة “البطن قدح الإله/الرب” لترفع الروح، وتُذكّرهم بأن رزقهم الحقيقي لا يقاس بقطيع الماشية المتناقص او نضوب الضرع او موت الزرع ، أو فشل صيد اليوم، بل بمشيئة الخالق (Nhialic)

كرامة النفس: صمت الجوع وشموخ الروح.
في مجتمع الدينكا، تُعد الشكوى من الجوع ليست مجرد ضعف، بل هي علامة على تجريد الذات من الرجولة والكرامة. هذا هو العمق الفلسفي للمقولة: إنها ليست دعوة للتصبر على ألم البطون الخاوية فحسب، بل هي دعوة للحفاظ على شموخ النفس، وعدم الاستسلام لليأس، وصون الرجولة حتى في أحلك الظروف.
فأن يُظهر الرجل ضعفه أمام الجوع بينما أجداده وعشيرته علي مر السنوات يفتخرون بامتلاك الماشية -حتى و ان تناقصت- هو أمر لا يليق. الصيد هنا يصبح رمزًا لهذا السقوط، لذا يجب على الروح أن تسمو فوق هذه الظروف المؤقتة. إنها رسالة بأن الأرزاق بيد الله، وأن قوة الإنسان الحقيقية تكمن في رضاه وصبره وقدرته على تجاوز المحن.

صدى الحكمة الكونية: توحيد الأرواح عبر الزمان والمكان
من المثير والمُلهم في آن أن نجد لهذه الحكمة الدينكاوية صدىً عميقًا في نصوص دينية وفلسفية أخرى عبر العالم. فما جاء في الإنجيل على لسان السيد المسيح: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون …”، يتماثل بشكل لافت مع جوهر هذه المقولة. فكلاهما يحمل نفس الدعوة العابرة للثقافات: التوكل على قوة عليا، والتخلص من القلق المفرط بشأن الحاجات المادية الزائلة، والتركيز على السمو الروحي.
“البطن قدح الإله/الرب” ليست مجرد عبارة للتصبير على الجوع؛ إنها فلسفة حياة متكاملة، تُعلم المرونة التي لا تنكسر، والثقة المطلقة في القدر، والكرامة المتأصلة في أعماق الروح البشرية. إنها تذكير بأن حتى في أحلك لحظات اليأس، حيث ينضب كل شيء، يظل هناك بصيص من الأمل وقوة كامنة في روح الإنسان، وأن شرفه الحقيقي يكمن في صبره، وثباته، وقدرته على الإيمان بما هو أبعد من مجرد اللقمة اليومية.

اترك تعليقاً