للكاتبة: ريتا صابر
ليلة مُضنية أخرى، تُضاف لحصالة الأرق، أُفنيها بالغطس المتناوب، بين حوض الماء والخيال الأخرق، التعذيب الطويل الذي تمارسه الأيام المارّة المُرّة المُضاعة، بليلاتها وويلاتها وفداحة الإنتباه بل والتركيز على ما أحاول مراراً غضّ القلب عنه : خطأ الوجود الكبير! أفرد للأمام يدي، وأُعدد على أصابعها الأمور التي من شأنها ترميم مزاج بهذا القدر من التهالك، الأمور التي بالطبع لن تتضمن قلبك -تحسباً لأي خيبة- أقول هذا وأفكر فوراً فيما كانت ستفعله يداك لزجر هذه الفظاعة، أو ما سيصنعه تداخلك من إعادة هيكلة، بعدها، يغدو النوم كمهمة صعبة، أتقلب لمرات ومرات، لأستقر مشقوقة للسقف، أُقاطع ذراعي خلف رأسي، وأُدير تسجيل لمكالمة أنهيناها للتو، ها نحن هنا، أعني : أنا وانت في الجهة المقابلة، وعتمة أمدُ فيها إشتهائي عبر مساحة فارغة من الفضاء, أقشعر لصوتك الساري خلال السماعة، قاضياً علي صوتي الهزيل، تتنهد متحدثاً عن الوقت، الوقت ل قلبي : المصيدة الكبيرة, وليدٍ ألِفت الإنفلات وسط الحشد الكثيف وما أتقنت التلويح يوماً، عن حوجة السكينة، لمخيلة مكدسة بالمشاهد، ترصدك كحدث حياتي كبير، قائم بنفسه، أقاطع حديثك الرمزي الميؤوس منه والجاد، وعزوفك المتعمد بوضوح عن التحدث عما ترغب في الحديث عنه، وكل الذي يحدث، إجترار لحوادث عشقية انتقائية، تستوطن المفاصل، تجوِّف الوخذ الذي يأتي بحجم قبضة اليد فقط، و … ” الذاكرة، بالوعة الأشقياء، وُجدت أصلاً لتمد لسانها للنسيان وتسخر منه، لكننا… ” تصمت فجأة، هذه ال”لكن” التي تنقطع فيها انفاسك، عاطفية جداً وشريرة، تنسف مقدرتي الكافية لتخيُّل ضمك لي في برودة الوحدة،بعيني المغمضة، والحائط اليبدو مائلاً أمامي بعد أن خسرت مواجهة السقف، أحاول تشتيت ذهني عمّا نهذي به في التسجيل الفظيع، دون ان اضطر لإيقافه، أفعل ما يفعله طفل عاجز، في حفل إرغامه اليومي على شرب الحليب الذي يكره، فيشرب قافزاً عن المذاق بالمذاق في غابات السكاكر، متسلقاً أشجار البسكويت المُحلى، محاولاً تشتيت انتباهه عن حقيقة ما يجري، هكذا، أتغافل الإصغاء للهمهمات، أتجاهل الشوق والمشقة، وأفكر : أي غبي فكر في تصميم تطبيق بهذا الشر؟ وهو بالطبع يدرك رغبات المُحبين المنحرفة وتلهفهم الجليّ لتكرار أي شعور.. كيف لم يأخذ هوس الإستعادة على محمل الجد؟ نحن الذين بلغت بنا التعاسة لحدٍ مهول، وتغور فينا الخوف، مم؟ من كل شئ، نخاف من الزمن المارق سريعاً كطلقة طائشة، أن يبدد رغباتنا أو -على ألطف نحو- يبدلها، نخاف من رغباتنا نفسها، قوتها ووضوحها أن تتطيح بنا، نخاف أن نُحبط، ونُخذل، أن نحزن ونسقط ونُنسى على الجانب، نخاف من الفراغ، لذلك نتقنه، فنكتب ونتحدث ونُحب ونلتقط الصور ونغني وينتحر البعض، نخاف الزوال، فصنعنا الrecorder call ، وكأنما سيحدث كل شئ فعلاً كمرة أولى.تضحك، لأول مرة في الدقيقة الرابعة والخمسين من المكالمة اللعينة، تضحك بثلاثِ هاءات، يمكنني تخيّل ثنية عينك المحدقة الآن في كل شئ، ولا ترى شئ، ثلاث هاءات أخرى متقطعة، تودي بمقدمة ساقي لبرودة وإرتجاف سريع، لأفكر في الهيئة الراكلة التي حطمنا بها قلوب بعضنا، ومضينا دون انتباه للأمنيات المحنطة علي العتبات، دون نظرة آخيرة لسجل الأشياء التي ظلت وستظل محض وعودات مناسبة للنقض والنسيان، “ألن تفتح قميصي؟” نصمت معاً، كمن ألمت به كارثة، وصمتك وحده التعزية الرهيبة التي لم تكن لتُمنح لي، في ظل الكلام القاحل المستمر والكئيب، صمتك ال كصوتك، سكون شاحب في برواز لوحة عملاقة لمقبرة، أتململ في الإضطجاع، وزفرة تختزل كل فظاعات اللغة وصداع الوقت المتسارع، تتصلب قدمي مجدداً -ما يحدث حين أرغب بك وأفقد السيطرة- أمسح خطوط العرق الموشومة على سطح كل إنش من جلدي، واتمتم لك بكلامات غريبة ومتطرفة، تضحك : ” حلوة حلا… ” بدلاً عن أُحبك.. دين قاموسك. لماذا نُجرِي محادثات بهذا البؤس وهذا الوقت الطويل؟ “قولي..” “سأموت” أقولها ولا أعنيها، أتخيلها أُكررها ثم أعنيها، وافكر فعلياً في إخلاء الطرف الذي يشدني للعالم، وإفراد اليد ليتدحرج كل الوجود دفعة واحدة، وتخبئتها مجدداً في جيب الموت الخلفي، يبدأ هذا الغرق حين انسحاب صوتينا عن فراغ الهاتف، تلاشيك وإبتعادك، كأنك تنتمي لكون آخر وبعيد، بكائي، نشيجي المر، الألم وأنت تنسل خارجي، ككل مرة .. أصير قاتمة وصغيرة، كنقطة واحدة، أنكمش إليّ، يصمت كل شئ ليتهاوى العالم تحت سريري، وأنزلق أخيراً في النوم.
اترك تعليقاً