بادئ ذي بدء، عليّ الإعتراف صراحة أن ثوريّتي لم تتخلّق بين دفّتي الكتب، ولا على مقاعد النخب الثقافية. لقد وُلدت من طين التجربة، من هشاشة الواقع، من منطقة مضطربة عرفت الانقلابات والتقلّبات، وشهدت ثوراتٍ ووأدها، هزائمَ وانبعاثات. ولعل الشرارة الأولى لم تكن نظرية أو مفهوما فلسفيا مجرّدا، بل كانت صورة.
الصورة، كما يرى والتر بنيامين، تمتلك هالة خاصة؛ هالة لحظةٍ فريدة لا يمكن تكرارها. كانت تجربتي في ما يُسمّى بمرحلة التغذية البصرية، كمصوّر هاوٍ، نابعة من تلك الصور القديمة بالأبيض والأسود التي التُقطت لجيفارا ورفيقه كاسترو في أدغال كوبا. لم تكن مجرّد وثائق تاريخية، بل تجسيدا لهالة الثورة، حيث يتقاطع الزمن مع الأبدية، وتغدو الوجوه علاماتٍ على جسد التاريخ. الشهيد عبد العظيم، وهو يقف أمام العسكر مجاهرا بسلمية في يده اليسرى قبل أن تصيبه رصاصتهم الغادرة بلحظات… الصورة هنا ليست محايدة، بل متورطة حتى النخاع؛ تُحرّض وتبشّر، تلتقط وهج اللحظة وتعيد بثّه بوقعٍ يفوق آلاف الكلمات.

فيدل كاسترو وتشي جيفارا
في نظر بنيامين، تقاوم الصورة الثورية الاستنساخ المُفرغ من المعنى، الذي يُميّز منتجات الحداثة التقنية. وعلى الرغم من أن الصور تُنتج تقنيا، إلا أن ما يُميّز الصورة الثورية هو قدرتها على استعادة البُعد الطقسي لما هو سياسي؛ فهي لا تُرى فحسب، بل تُمارس وتُعاش وتُناضل.
في إفريقيا، لطالما كانت الصورة شريكا في سرد الحكايات الكبرى التي لم تُكتب بعد. في داخلي، كانت صورة توماس سانكارا، بوقفته الواثقة ونظرته المتجاوزة للحظة، مشهدا مفصليا في تشكّل وعيي. بدا كما لو أن الثورة يمكنها أن ترتدي بزّة عسكرية، وتتحدث بلسان نقي، وتحمل كتابا بيدٍ وبندقية في الأخرى، وتخوض حركة تغيّر مجرى التاريخ. لقد التقطت العدسات فكر سانكارا وأحلامه، كما لو كانت ترسم خريطة لبلدٍ يمكن أن يكون. صوره بين العمال والمزارعين تعكس مشروع بناء وعي اجتماعي ودولة جديدة.

توماس سانكارا
ولا يغيب عن ذاكرتي أميلكار كابرال، بصرامته ووداعته، وعينيه الذكيتين اللتين أرعبتا الإمبريالية في الاجتماعات المصيرية. صوره ما تزال تغرس في أجيال متلاحقة معاني الثورة، والأمل، والصمود. ببزّته البسيطة وخطبه الجذرية، أعاد رسم المشهد الإفريقي. التقطته العدسات قبل أن تخلّده الكتب. وكذلك جون قرنق، بحضوره الطاغي وخطاباته المتقدة، ظل محاطا بهالة بصرية تشبه ما وصفه بنيامين بـأثر الغياب الحاضر.

أميلكار كابرال
لكن الثورة ليست حكرا على الذكور، ولا على الزعماء. حين نُحدّق في التاريخ الطويل لنضالات النساء، نجد أن العدسة هي من أنصفت حضورهن حين خذلتهن السرديات الرسمية. النساء الإريتريات اللواتي قاتلن في الخنادق جنبا إلى جنب مع الرجال، لم تُكتب بطولتهن بقدر ما وثّقتها الصور. رغم ملامح التعب في بعض اللقطات، إلا أن صورهن وهن يرقصن وينشدن أغاني الثورة وسط سهول وتلال أرض الحبشة المقدسة، تفيض بمرحٍ لا يوصف. إنها وثائق خالدة لذاكرةٍ لا تنضب. ومن الأمثلة القريبة لذاكرتي أيضا هي صور المناضلات الجزائريات إبان الاستعمار الفرنسي، مثل جميلة بوحيرد، اللواتي أصبحت صورهن في السجن وأثناء المحاكمة رموزا لتاريخٍ مقاوم، مشحونٍ بالمأساة والشرف. لعبت الصورة دورا جوهريا في توثيق تعقيد الهوية النسوية زمن الحرب، حيث تتقاطع بين الغُبن والقوة، بين الأسر والانعتاق. كنَّ أقرب إلى كائناتٍ أسطورية خرجن من ملحمة طويلة.
وبعيدا عن الثورات العسكرية القديمة، نجد في ثورة ديسمبر السودانية مفارقة مدنية جديدة يمكن تسميتها بثقة (ثورة الصورة). لم يكن الحدث السياسي وحده ما جذب انتباه العالم، بل كانت عدسة المصورين التي خلّدت اللحظة. ثورة لم تندلع من فراغ، بل كانت ذروة سخطٍ متراكم وتوقٍ عميق للتغيير. لكن ما ميّزها عنصرٌ خفي وقوي في آنٍ واحد: الصورة.
لقد كانت الصورة الأيقونية، المتفجرة بالمجاز والمعنى، هي من أخرجت الثورة من حدود الجغرافيا إلى فضاء عالمي. صورة الفتاة التي تسترجع عبوة الغاز المسيل للدموع، أو تلك التي تظهر ميارم وكنداكات في الصفوف الأمامية وهتافاتهن الهادرة تشق عنان السماء، لم تكن مجرد توثيقٍ للحظة؛ بل تجسيدا لتاريخٍ طويل من المقاومة النسوية المنسيّة في النصوص الرسمية.
تقول سوزان سونتاغ في كتابها المهم عن التصوير الفوتوغرافي:
“التصوير لا يكتفي بإظهار الواقع، بل يصنع واقعا جديدا يفرض حضوره بقوة”. وهذا ما حدث بالضبط في ديسمبر. تلك الصورة لفتاةٍ تقف على سقف سيارة لم تكن مشهدا عابرا، بل تحوّلت إلى أيقونةٍ استعادت من خلالها النساء تاريخا طويلا من المقاومة والتغييب.
الصورة هنا لم تكن توثيقا فحسب، بل إعلانا عن ميلادٍ جديد لجسدٍ جماعي ظل يتشكّل طويلا في الهامش. أعادت العدسة صياغة العلاقة بين المواطن والميدان، بين السلطة والنظرة، بين الجسد والحكاية. يقول بنيامين: “في عصر الاستنساخ التقني، تفقد الأشياء هالتها، إلا أن الصورة الثورية تُعيد لتلك الهالة اعتبارها، لأنها لا تُستنسخ، بل تكشف ما لم يكن يُرى”.
إن التصوير يعيد تشكيل ما نراه وما نتذكره. إنه لا يُظهر الحقيقة، بل يخلق نسخة جديدة منها. وهذا تماما ما حدث، بحسب سونتاغ. فأسطورة ديسمبر تشكّلت من الصور التي خرجت من العاصمة الخرطوم وسائر مدن السودان. لم تكن مجرد نقلٍ للواقع، بل إعادة تشكيلٍ وجداني له. صنعت الصور وجدانا ثوريا جمعيا، وأدخلت المعركة إلى الفضاء الرقمي العالمي، فأصبحت الثورة مادة حيّة، صورة بعد صورة، لحظة بعد لحظة. وعلى عكس ما حاججت به سونتاغ، بأن الصورة تفقدنا الإحساس كلما أعدنا النظر إليها، إلا أنني ينتابني قشعريرةٌ نادرة كلما أعدت تأمل هذه الصور، بل تفتح لي آفاقا جديدة.
وقد برز مع الثورة جيلٌ جديد من المصورين والمصورات، من داخل السودان وخارجه، حملوا كاميراتهم كما يحمل الآخرون اللافتات، وخاضوا الثورة بالتوثيق البصري متجاوزين كل المخاطر الممكنة. لم تكن صورهم للزينة، بل فعلا سياسيا ومقاومة صامتة. وبتعبير سونتاغ: “نصٌّ موازٍ للحدث، لا يقل عنه فاعلية أو وقعا”. وهنا تكتسب الصورة وظيفة مزدوجة: سجلٌّ للذاكرة الجمعية، وأداةٌ للمحاسبة الأخلاقية. قد تُعرض يوما في محكمة، أو تُرفع على جدران متحف للذاكرة الأليمة. ليست مجرد أثرٍ بصري، بل حقيقةٌ محمولة بالنور، كما تحب سونتاغ أن تصفها.
لقد أعادت الصورة تعريف النضال، من أداة توثيقٍ هامشية إلى عنصر فاعلٍ في صلب الحدث. المصورون الذين جابوا الشوارع يحيطون الأفراد والحشود بتغطية، لم يكونوا مجرد شهود، بل مشاركين، يحملون كاميراتهم كما تُحمل الأسلحة أو اللافتات. وفي مشهدٍ مؤثر آخر، نجد الصور التي التُقطت لضحايا المجازر والانتهاكات والأسرى في بيوت الأشباح المظلمة… والتي شكّلت مع الوقت ملفا بصريا للعدالة المنتظرة. لم تكن موجهة فقط للعالم، بل رسائل داخلية تعزز صمود الناس وتمنحهم اعترافا بأن دماءهم لم تُهدر في الخفاء. الصورة الثورية لا تمنحنا فقط المعرفة، بل تمنحنا الشعور بأننا شهدنا شيئا لا يُنسى، كما تقول سونتاغ. وهذا هو جوهر الصورة في زمن الثورة: أن تُخلّد ما لا يمكن إعادته، وتُصوغ خطابا موازيا للميدان، قد يبقى أكثر من الهتاف ذاته. ويا للمفارقة: أن يكون هذا البقاء رهين آلةٍ يُفترض أنها محايدة، الكاميرا. لكن الحقيقة أن كل صورة تُلتقط في لحظة خطر، هي فعل شجاعة، واختيارٌ سياسي بامتياز.
لقد علمتنا ديسمبر، وسائر الثورات السابقة، أن الصورة لا تلتقط فقط ما يُرى، بل تكشف المستتر، وتُضمر ما هو أبعد من الإطار. إنها ليست مجرد انعكاسٍ للحقيقة، بل تكوينٌ لها، وتحريرٌ منها. وأن هذه الصور، بالرغم من قلّتها، إلا أنها إضافةٌ مهمة للأرشيف البصري العالمي.
في النهاية، ليست مبالغة أن نقول إن الصورة كانت، ولا تزال، شريكا أصيلا في الثورة. إنها العين التي فضحت القمع، والعدسة التي خلّدت الكرامة، والمشهد الذي أضاء طريق التغيير. إنها ذاكرتنا الجماعية الصلبة، والأثر الذي يبقى بعد أن يخبو الهتاف. إنها الدليل، الشاهد، والملهم… لمن لم يُولدوا بعد.
المراجع
والتر بنيامين، العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيا
سوزان سونتاغ، عن الفوتوغرافيا
سوزان سونتاغ، الالتفات إلى ألم الآخرين
أرييلا أزولاي، العقد المدني للتصوير الفوتوغرافي
اترك تعليقاً