(1914–1918م)
قاد السلطان عجبنا بن أروجا بن سبا، زعيم قبائل النيمانج في جبال النوبة بالسودان، واحدة من أطول وأشرس الثورات ضد الاستعمار البريطاني. امتدت مقاومته من عام 1914 حتى فبراير 1918، وتمركزت في مناطق استراتيجية بالقرب من مدينة الدلنج، تشمل كرمتي، النتل، تندية، سلارا، وحجر السلطان. حيث إمتنع السلطان عن أداء الضرائب والدفع للمستعمر، فكانت هذه المناطق مسرحاً لمعارك ضارية، أبرزها المواجهة التي اندلعت إثر اغتيال مفتش المركز البريطاني “هتون” في نوفمبر 1917 في كمين إستفز السلطات الإستعمارية، مما دفعها إلى إرسال قوة عسكرية ضخمة بقيادة المقدم “سميث” لقمع التمرد.

وصلت أخبار هذا الحصار الدامي والقوة الضاربة إلى مسامع مندي فعند اشتداد الحصار البريطاني على قوات والدها من ثلاث جهات (والال، كلامو، النتل) وعُزلت قواته عن مصادر المياه في “كوديلو بونغ”، قررت مندي تحدي المستحيل. ربطت رضيعها على ظهرها، وحملت بندقيتها، وضربت “البُخسة“ (رمحاً قصيراً) في الأرض، إعلاناً عن إصرارها على الانضمام للمعركة، وفقاً لتقاليد النيمانج التي تعتبر هذه الإيماءة تعهداً بعدم التراجع.
وقد فشلت كل المحاولات في منعها من الذهاب خوفا عليها.. وصلت مندي أرض المعركة وما أن شاهدها أبطال القبيلة حتى تعالت صيحاتهم، *فاندفعت مندي إلى الصفوف الأمامية تقاتل بضراوة، وتغني بأعلى صوتها تشجع فرسان القبيلة،* والذين أعادت لهم مندي الروح المعنوية فقد حوّلت وجودها إلى مصدر إلهام للثوار. رغم سقوط ابنها برصاصة بريطانية، واصلت القتال في الصفوف الأمامية، ورفعت الروح المعنوية بالأناشيد الحماسية، وساهمت في إسعاف الجرحى وإعداد الطعام. تحولت قصتها إلى مارش عسكري تُردده الأجيال:
كوجو كونا كرن…
كوجا كونا كرن.. دالا(مندى بت سلطان)..
كوجو كونا كرن… دالا أووووو مندي بت السلطان..
ويضرب الجنود بأقدام الأرض دلالة على عظمة الجبال وتخليدا لذكرها، وهي تحكي عن مندي التي تقاتل كالفرسان وتعالج وتطبخ
اعتمد البريطانيون على تفوقهم التكنولوجي، حيث زوّدوا قواتهم بمدافع رشاشة وعربات مصفحة (كروسلي وفورد)، بينما اعتمد النيمانج على تكتيكات حرب العصابات والأسلحة التقليدية كـالمرمطون (رماح) وأبو جقرة (سكاكين).
لكن المفارقة الأكبر كانت في الاستراتيجيات الميدانية:
- حصار بريطانيا الجهنمي: شنّت القوات البريطانية حصاراً شاملاً عبر إحراق القرى وتسميم الآبار، محاولة تجويع الثوار وإجبارهم على الاستسلام.
- مناورات السلطان عجبنا: استغل تضاريس الجبال الوعرة، وتخزينه المحاصيل كالبطيخ كمصدر بديل للمياه، مما أطّال أمد المقاومة.
بحسب وثيقة بريطانية “عمليات سميث في جبال الأما“ (1918) ، تكبد الطرفان خسائر جسيمة:
- القوات البريطانية: فقدت ضابطين بريطانيين (هتون وويلي)، و7 جنود، مع إصابة 18 آخرين.
- قوات النيمانج: سقط 26 مقاتلاً في معركة النتل (أبريل 1917)، و10 في تندية (مايو 1917)، بينهم القائد كجور حماد قيدوم الذي وصفته الوثائق البريطانية بأنه: “أشرس قادة الغارات وأقوى زعماء الأما بعد عجبنا”. “(He was a notorious leader of raids and the most powerful Nyima Chief after Agabna, who looked upon him as his chief fighting lieutenant)
وبعد معارك شرسة والتي إستمرت لأكثر من ثلاثة شهور (أكتوبر- نوفمبر – ديسمبر) إستطاعت قوات الحكومة من إقتحام معقل السلطان عجبنا، وأخيرا تم أسره هو ومعاونيه عدا أحد ابنائه الذي أستطاع الهرب يوم 28 ديسمبر 1917م. بعد ذلك تم تسليمه للقائد البمباشي ميلن والذي قام فوراً بالحكم عليه بالإعدام رميا ميدانياً في قريته سليكون وذلك يوم 30 ديسمبر 1917م. وفي اليوم التالي 30 ديسمبر 1917م تم تنفيذ الحكم بالاعدام شنقاً حتي الموت للبطل السلطان عجبنا وقائد أركان جيشه كليكون، وذلك وسط أهله وعشيرته، وبحضور قسري لعدد من الزعماء النوبه الأهليين ليأخذوا العظة والدرس لكل من تسول له نفسه بمواجهة الحكومة.
إستمرت الثورة، وكلما أخمدوها في جبل ما قامت في جبل أخر، حيث إنتقلت هذة المره إلي سلارا مرة أخري. وفي معركة سلارا حاول قوات السلطان عجبنا كسر الطوق المحكم إلا أنهم واجهوا نيراناً كثيفاً من قوات الحكومة مما أدي الي إستشهاد خمسون بطلاً في الحال وجرح وأسر العشرات منهم. بنهاية العملية كانت قري بأكملها قد تحولت إلي ركام والآف الجثث لأسر كاملة في كهوف الجبال، إما بضربات المدفعية أو الموت بالجوع والعطش أو الإثنين معاً. ولتأكد من عدم وجود أحياء في الكهوف من خلفهم قامت قوات الجيش الحكومي بإستخدام قنابل داخل هذه الكهوف لتأكيد مقتل أي كأئن كان داخل هذه الكهوف.
إستمرت الثورة حتى بعد إعدام السلطان عجبنا وصديقه “كلكون” شنقاً في الدلنج (27 ديسمبر 1917)، لكنها تركت بصمة لا تُمحى:
- تراث شفهي: تحوّلت أناشيد النيمانج إلى سرديات وطنية، تُدرس كرمز للمقاومة الثقافية.
- درس استعماري: اضطرت بريطانيا إلى إعادة تقييم سياساتها، بعد أن كشفت المقاومة هشاشة الآلة العسكرية أمام إرادة الشعوب وأن ثورة السلطان عجبنا كواحدة من اطول واكبر الثورات التى واجهتها الجيش الاستعمارى طيلة فترة وجودها في السودان.
اترك تعليقاً