للكاتب: جون ريفنسكروفت -John Ravenscroft
ترجمة: أيمن هاشم
“أخشى أن أتلف شيئًا في يوم من الأيام…”
(بول سيمون – لا أزال مجنونًا بعد كل هذه السنين)
عندما كان عمري ست سنوات، فقد والدي صوابه وهاجم نفسه بمطرقة.!
أعتقد أن الناس لا يصابون بالجنون هذه الأيام كما كانوا يفعلون سابقًا. صار لديهم رهاب ونوبات هلع وهالات اكتئابية ثنائية القطب أو انفصام في الشخصية. هناك بالتأكيد عشرة أشكال على الأقل من الاضطرابات النفسية بأسماء براقة – ويمكنك حتى خلطها بعضها ببعض لإختيار ما تشاء من بينها.
لكن في عام 1959، حين كنتُ طفلاً ساذجاً، لم تكن الأمور بهذا التعقيد. كنتَ إما سويًّا أو مجنونًا. وجهان لعملة، وحافتها لا قيمة لها. لقد تدهورت عملة أبي، انتُشلت وهي تدور في الهواء، ورُفعت على طاولة المطبخ. وقد سجل في جانبه “مجنون”. من تلك اللحظة، صار هو كذا: أحمق، مختل كمن فقد توازنه للأبد، ملوَّنٌ، وبثلاثة أشرعةٍ تُحركه رياحُ الجنون.
لم تكشف لنا أمي الحقيقة أبدًا. كذبت على الجميع: عليّ وعلى سوزي وجيراننا وساعي البريد وبائع الحليب، وعلى أي شخص طرح سؤالًا محرجًا. لدرجة أنها كذبت على نفسها. حسب روايتها، كان ضغط العمل هو الذي قاد أبي إلى الانهيار، لكني وسوزي كنا نعلم أن هذه ليست سوى قطعة من الصورة. خلال سنوات لاحقة عثرنا على بعض الشذرات الأخرى ولصقناها في الفجوات، لكن حتى هذه اللحظة، لم نعرف الحقيقة كاملة. الحقيقة (الكاملة) وحدها.
سوزي هي أختي الكبرى – ولا تزال ، كانت تحميني. هي أكبر مني بأربع سنوات، وفهمت أكثر بكثير مما كنت أفهم. لكن حتى أنا أدركت حينها أن ثمة خطبًا ما، وكنت أرى الإحساس بالذنب يغرز أنيابه في قلب أمي كلما تخلت عن حذرها، مثل قطع العظام المكسورة التي كنت أراها تبرز من يد أبي اليسرى كلما حلمتُ به. نعم، كان هناك بحر من الذنب يغمر منزلنا في تلك الأيام. لم أكن أعرف من أين تأتي كلَّها.
عمل أبي سنواتٍ طويلةً في المصنع ذاته، يكافحُ ليعيلنا بأقل من عشرين جنيهًا إسترلينيًا في الأسبوع. كان عملاً شاقاً وهو يكدُّ على الصفائح المعدنية ليصنع قبعات مداخنٍ ومصابيح قطاراتٍ وأبواب سيارات، لم يكن هناك مكان يمكننا شراء حاجيات المنزل أو ملابس لنا. كنا أنا وسوزي نرتدي ملابس مستعملة، وننام عليها أيضاً. أتذكر أمي وهي تقص نعالاً من الكرتون لتضعها في أحذيتنا.
كان يكره عمله بقدر ما كان جده يكرهه قبله. لاحقًا سأكره أنا عملي أكثر مما كره كلُّهما معًا. كثيراً ما فكرت أن في هذه الثلاثية علامة تحذير وكنتُ أرى في ذلك تحذيرًا؛ آثارَ أقدام «جين المجنون».
هذه هي الأشياء التي أعرفها عن أبي. عاشقًا للقراءة، للكتب، وللعوالم التي تخبئها الصفحات. لكن للمعيشة، اضطر ليقضي أيامه في العمل على الحديد يلفظ شررَه ويتنفس قطرات الزيت والعرق. حرارة الفولاذ ورائحة الألمنيوم والضوضاء المستمرة والضجيج العقيم يقضي على الروح ببطء.
لكنه كان في الخمسينيات، أيام كانت «الرجولة» تُقاس بصمت الرجال وهم يكبتون وجعهم. الحرب لم تكد تجف ندوبها، قبل أن تسوء حالته، ذهب أبي إلى الطبيب. فحصه الطبيب، نظر إليه كأنه محتال، وقال أنه سليم جسدياً. رفض أن يعطيه إجازة مرضية. “عليك أن تبذل جهداً أكثر يا رجل”، قال. “اجمع نفسك.” واذهب للنادي تشرب بضع كؤوس، ثم استلم راتبك وأعد الكرة من جديد. ومَن يُظهر ضعفه العقلي يُصبح أسوأ من «المثلي» – أعتقد أن ذلك كان القشة الأخيرة. بعد أيام، انكسر شيء ما في رأسه، وبدلاً من أن يجمع نفسه، مزقها.
لا أتذكر كيف عاد أبي إلى البيت تلك الليلة. لكن سوزي تذكر: كانت أمي تلاحقها الاقساط المتأخرة، فأخذ الدائنون نصف الأثاث، وصارت أمي تحتسي الجن.
وبعد أن رقدنا أنا وسوزي، دبَّ خلافٌ جديد. وجدنا أنفسنا مختبئين تحت فراش سوزي، نبكي. أعتقد أن ذلك كان القشة التي قصمت ظهره. بعد أيام، شبّ شيءٌ في رأس والدي، لم يتدارك نفسه وقتها، بل مزقها.
يقولون دائمًا إن «الهدوء» أمرٌ خطير. وإنْ كان أبي هادئًا فحسب، فعندما ينفجر الهدوء يغيِّر الوجوه. في صباح الاثنين، عند العاشرة تمامًا، توقف عن طرق المعادن والفولاذ، أخذ مطرقة أثقل ووضعها أمام زملائه، وشرع في تحطيم يده اليسرى: قصف كل الأصابع وشطر ركبته اليمنى. كاد يبدأ على جمجمته حين أمسكه صديقه تشارلي من الخلف. رغم أن أنف تشارلي انكسر، ظل متمسكًا حتى خلع الآخرون المطرقة من يد أبي.
لم نرَ أبي مدة طويلة بعد ذلك. وعندما عاد، لم يعد هو. كان يجلس في كرسي غرفة الجلوس يبكي وينظر للحائط. مرة رأيته يبكي. من المخيف أن ترى والدك يبكي حين تكون في السادسة؟ صرت أقضي كل وقتي خارج البيت. بين اللعب مع الأولاد ومنعهم لي من المشاركة لأنه يقولون «جين المجنون»، كنت أفضل البقاء في الشارع.
عملت أمي في تنظيف المكاتب لياليً، لكن الديون تكدست. لا أعلم ماذا كان سيحدث لو استمرت الحال، لكنها لم تدم طويلًا.
في صباحٍ باكر، نهض أبي من كرسيه، خرج من الباب، وركب حافلةً متجهةً نحو قريته. عند جسرٍ خشبيٍّ فوق سكة القطار، صعد على الدرابزين وقفز أمام قطار الصباح. لقد اختار القطار الذي أتى من برمنغهام ليأتيه- ويصدمه كأقوى مطرقةٍ يحلم بها أي إنسان.
حين بلغت الثالثة عشرة، وبدأنا ندرس الوراثة في مادة الأحياء، شرحت لنا الآنسة لوزبي قصة عالم الوراثة مِندل وبذوره. وما إن فهمت الأساس، حتى بدأت أخشى: تخيلتُ رعاة بقرٍ يتجولون في دواخلي. حتى اليوم، ما زالوا هناك. أطلقُ عليه «جين المجنون».
(جين المجنون) تخيلته شخص قاسٍ. يلبس قبعة رعاة سوداء، ووشاحًا أحمر، وجينزًا أزرق مُلطَّخًا بالغبار. على وركه يحمل مسدّسي كولت محشوّين بالحمض النووي، وموطنه مدينة «النواة». أعلم أنه تقريبا قتل والدي، وربما جرح جدي أيضًا. جين المُجنون شؤمٌ صُلب.
كلما تعمقت معرفتي به، شعرتُ بشراكه يُمزق شعيرات دمي من هنا وهناك.
لم يُظهر لي وجوده كثيرًا حتى دخلت الجامعة. هناك، في عالم الفتيات والمخدرات والكحول وضغط الامتحانات، وجد جين مُتعةً لا تُقاوَم. بدأت رحلة التفكك: أسابيع ضائعة، درجات متدنية، جلسات مع مستشارين نفسيين. لكننا نجونا، أنا وجيني. نلنا شهادة جامعية، وتأهيلًا للتدريس، وحتى زوجة على الطريق.
خلال أربعة وعشرين سنة. جين المجنون كان يعكر صفوي ويهاجمني بين الحين والآخر، لكنني تعلمت حيله. رغم أنه أصابني مرات، استطعت البقاء واقفاً – لكن قبل عيد ميلادي السادس والأربعين بأسبوع، هاجمني جيني هجمةً مباغتة. وعلى شاكلة أبي، فقدتُ صوابي.
وربما في الحقيقة إنه وبرغم هجومه عليّ، الا إنه واجه صعوبات. اليوم لم يعد أحد يقول «مجنون». صاروا يتكلّمون عن «ضغط الحياة»، و«الاكتئاب»، والمُعالجات الدوائية. لكن لو استطاع أبي أن يطمئن قليلًا لأربعين سنة إضافية، لربما أبلى بلاءً حسنًا، وحظِي برفقةٍ أكثر تعاونًا. في التسعينيات، يحمل الجنون بعض الهيبة، ربما كان سيكتسب بعض الاحترام. الآن، هناك لمعة حول الانهيار العصبي، خاصة إن كان صاحبها ثرياً أو مشهوراً. كل المجلات الرخيصة تعرض وجوهاً تتحدث عن “بروزاك”، عن صراع طويل مع ظلام الروح. أروقة دور النشر تعج بمشاهير ثانويين، مغنين باهتين، وممثلي مسلسلات، يأملون أن يكشفوا عن تاريخهم مع المرض العقلي لإحياء مسيرتهم. أبي لم يكن ليصدق، لكن في التسعينيات، خزانة بها هيكل عظمي مجنون أو اثنين قد تكون مفيدة لو تشتت انتباه الجمهور.
أما أنا فلا أشعر بالهيبة. أشعر بالخوف، خوفٌ عارم. بدأت أحلم بأشياءٍ لا أودُّ رؤيتها: مطارق، ودخان القطار، والجسور الخشبية.
وقبل كل شيء، أحلمُ بجين المُجنون. أحلمُ به يقود خيوله عبر شراييني، يُطلق الرصاص على أعصابِي، ويهمس لنفسه في صمتٍ وهو يسيرُ وحيدًا في أحشائي، ناشرًا الفوضى في كل خليةٍ يمر بها.
اترك تعليقاً