للكاتب: حمزة موسى
” أُغمضُ عيني كل مرة و لا أرى الا الكوابيس، و حين استيقظ أجدُ جزءً مني مشوهاً او معطوباً؛ لأن الموت _ و هو لصُ بارع _ مُصِر على الَّا يأخذني كاملاً “.
السنة الماضية، و في ليلة عيد الفطر تحديداً، مررتُ باسوأ الم اسنان عرفتهُ في حياتي_ رغم أن مشاكل الأسنان ليست أمراً جديداً عليّ_ لكن هذه المرة بالذات كان الألمُ مرعباً، تيار من الكهرباء ينطلقُ من فمي و يزحفُ في أعصابي كالجنود في خنادقِ القتال و اخيراً الى المخ و يتفجر هناك. قاومتُ عِدةَ مرات رغبتي في تشويهِ وجهي كمحاولةِ للحدِ من وخزِ هذه الإبرِ الصغيرة في مركز الألم في مخي. و الأدهى و الامر أن جميع العيادات ستكون مغلقة على الأقل لثلاثةِ ايامِ قادمة. لمدةِ ثلاثة ليالِ لم استطيعْ النوم الا القليل و لا الأكل بالطبع و أقتصرتُ على بعض المشروبات كمحاولة للبقاء على قيد الحياة خاصة و أني أسكنُ جسماً يبحث عن مبررِ للموت دائماً. كنتُ استعيدُ تلك الفترة بشكل ضبابي جداً كل مرة رغم عظيم الأثر الذي تركتهُ داخلي، حتى وجدت مبكراً خلال هذا اليوم دفترَ مذكراتي و وجدت أني كتبتُ عن هذه الليالي الثلاثة ربما لأن الكتابة تمنحُ افكارنا جسداً و روحاً نتخففُ بها قليلاً حتى لا نختنق. وجدت الآتي…
١٠ أبريل / ٢٠٢٤م
١٢:٤٠ م” آه! لكننا نفهم متأخرينَ جداً، أن هذه الحياة لا معنى لها، و أن كل ما في الأمر أنها نكتة سخيفة لكن_ بشكلِ ما_ علينا جميعاً أن نضحكْ! “.
١١ أبريل / ٢٠٢٤م
١:١٤ م” و حينئذِ ما الأنسانُ في ذاته؟ اليسَ سوى حشرة تافهة تطنُّ مصطدمة بزجاجِ نافذة؟ “._ فيرناندو بيسوا” حياة بلا هدف و لا معنى، كل الأعوام التي عشتها في هذا العالم المقزز كانت مليئة بالسخافة، لا أريد لهذا الألم أن يكون دون مبرر، آه كم ارغبُ في اليقين، لكنه لا يأتي دون دفعِ ثمن، لا أريد أن أعيشَ بقية عمري اراكمُ الأسئلة عليَّ أن اتسائل لأعرفَ حقيقة نفسي”.
١٢ أبريل / ٢٠٢٤م
٢:٣٦ م” و أحسستُ أنني أتذوقُ الحد الأقصى من طعم الوحدة و العزلة التي أعيشُ فيها حالياً ” _ أوسامو دازاي” لا أريد أن أُطلقَ على ما أمر به أوصاف مثل اتألمُ الماً لم تعرفهُ البشرية من قبل، و لا أعاني من الغرورِ بحيثُ أدَّعي أن لا أحد شعر بما أشعرُ به من بؤسِ و عذاب و يأس، أريد أن اعفي المي من هذه الحمولاتْ لكن ما العمل؟ أنني رجلُ شقيُ و ضائع، أُراقبُ الأيام و هي تمضي، أُؤدي دوري في المسرحية… و أنتظرُ إسدالَ السِتار “.إن هذه الليالي لم تعد مجرد حدثِ مررتُ به، بل شكَّلتْ لدي مفاهيمَ شتَّى، و قذفتْ بي في عاصفةِ من الأسئلة المحمومة عن الألم و القدر و الحياة، صارت النظارة التي أبصرُ بها الوجود. دفعني الألم أن أنبشَ ذاكرتي بحثاً عن شيء يمنحني الرغبة في الحياة _ لأن لهُ جبروتُ و سلطة لا يعلمها الا من جربه_ فلم أجد الا لحظاتِ قليلة لكنها صادقة و حقيقية كالجرح النازف. و سرعان ما صار الأمر اشبه بفيلم سينمائي، و أنا ارى حياتي تعرض امامي على شكل مقتطفاتِ منتقاة بعناية فائقة.أتذكر أني أستنجدتُ بأمرينِ دون سواهما، و لطالما كنت مخلصاً لهما_ أي الأدب و السينما_ أتخذتُ من المي زريعةً و بدأت في قراءة كتاب ” لتر من الدموع_ نضال شابة للحياة- مذكرات آيا ” يتحدث عن صراعِ فتاة مع مرض تصلب الأعصاب و هي تحاول أن تتشبثَ بالحياة و أن لا تسمحَ لنفسها بأن تمر هكذا دون أن تتركَ أثراً، آه! الحياة التي لم تبادلها الحب، و كلما ازداد حب آيا ازدادت قسوتها، كأنها تنتقمُ و تحاسبها على السعادة التي ظلتْ تلتهِمُها بنهمِ شديد، اعني في نهاية الأمر فإن الحياة عدو سيء اليس كذلك!.في لحظة من العِتابْ على الحياة تقول آيا: ( لماذا اختارني هذا المرض؟ كلمة القدر ليست تفسيراً كافياً ) و في جملتها هذه الكثير من الحزن، و البكاء على الحظ العاثر، أن تسكُنَ روحُ مثلها جسداً معطوباً كهذا. لم أفهم ابداً هذه الرغبة في قراءة مثل هذه الأشياء… ربما هو الشعور بالواجب تجاه أحزانِ هؤلاء الذين حاولوا بكل الطرق أن يبرروا الآمهم. أنه أمر مدهش! لا أظن أنه للحظةِ في حياتها المضنية، و لا حتى في اكثر لحظاتِ تصورها جموحاً خطرت ببالها فكرة أن شخصاً في كسلا_ منطقة مجهولة بالنسبة للعالم_ قد يقرأ كلماتها و يحزن لمصابها. لكن لأن الكلمات_ و هي معجزة صغيرة_ لها اجنحة و مجسَّات، تعرف بها من يحتاجها اكثر من غيره. و في نفس الوقت تزامناً مع الكتاب شرعتُ في البحث عن فيلم يغذي شهوتي لفهمِ هذه الأسئلة التي اصبحت كموجِ البحر، لأنه كما يقول المخرج الروسي تاركوفسكي_ و أظنهُ استعارها من كافكا_ : ” إن السينما هي نوع من انواعِ الصلاة ” و يعني اذا كان الهدف من الصلاة هو خلق علاقة روحية اياً كان شكلها و محاولة السمو بالانسان، و منحهُ و لو جزء بسيط من العزاء في هذه الحياة فإن السينما_ الحقيقية منها_ تفعلُ ذلك بإمتياز. بعد الكثير من البحث وجدتُ ضالتي في فيلم يدعى ” الوان الفردوس ” و هو فيلم ايراني تدور احداثهُ حول الطفل محمد الضرير و علاقته مع ابيه، الذي يبدو أنهُ لا يريد محمد و يحاول بكلِ الطرق أن يتركهُ في المدرسة الداخلية حتى اثناء الاجازة.فلسفة الفيلم كلها تتكيءُ على جملتين، الاولى قالها محمد_ و هو طفل ممتلئ بحبِ الحياة رغم كل شيء و مرهفْ الحس بشكل ساحر، دائماً يلمسُ الزهور و الحياة من حوله _ في لحظة من البؤسِ الخالِص: ” قال لي المعلم مرة أن الله يحب الضرير أكثر لأننا لا نرى، ولكني سألته لو كان ذلك حقيقياً إذا لماذا خلقنا ضرارًا! هل خلقنا هكذا حتى لا نراه؟..أجابني المعلم إن الله لا تدركه الأبصار، إن الله في كل مكان، تستطيع أن تراه بإحساسك.. ومنذ ذلك الحين وأنا اتلمس الأشياء، إلى أن يأتي اليوم وتلمس يدي يداه، لكي أخبره بكل شيء ، وبكل ما في قلبي من ألم وحزن “. يعرضُ لنا المخرج ” مجيدي ” بذكاءِ شديد الحياة من زواية محمد حيث أنهُ لا ذنبَ له غير أنهُ ولد هكذا، و لا يستطيع المشاهد أن يمنع نفسهُ من التساؤلِ عن الشر الذي فعلهُ ليلقى كل تلك المعاملة من والدهِ.اما الجملة الثانية قالها الأب: ” ما هو الذنب الذي فعلته لكي يكون على عاتقي تحمل تربية طفل أعمى بقية حياتي، من الذي سوف يرعاني عندما أصبح شيخا ضعيفا؟ لماذا الله لا ينظر لي ويساعدني في هذه المحنة؟ لماذا عليا أن أشكره لأشياء لم يعطيها لي، أشكره للطفل الأعمى الذي رزقني به، أم لزوجتي التي توفيت، لقد تحملت هذا العذاب لمدة خمسة سنوات، انظري إلى حالتي، رجل فقير عديم الحظ، فقدت أبي عندما كنت صغيرا حتى أنني لا أستطيع تذكره، من الذي أخذني في أحضانه؟ من عطف علي؟ “. هنا يضعنا المخرج في مأزقِ فالأب لم يكن وحشاً او سيئاً كلياً، فقط يريد من الحياة أن تمنحهُ القليل من الراحة، فرصة ليغمضَ عينيه دون فاجعة. و كعادةِ السينما الايرانية فهي تأخذُ هذه القصة البسيطة كعادتها… ففي فيلم ” طعم الكرز ” تدور القصة حول رجل يبحثُ عن شخص ليدفنَ جثته بعد أن يموت، و في فيلم ” اين منزل صديقي؟ ” حول طفل يريد اعادة دفتر الى صديقه لكن تبلورها بحيث تجعلها حالة انسانية كاملة، مليئة بالتساؤلات و الهواجس و الهوس و الاسئلة، تتحدث عني و عنك، و عنَّا جميعاً. في نهاية الفيلم حين يسقطُ محمد في النهر و يغرق وجدتُ نفسي اسقطُ في بكاءِ مرير، يا الله! ما اقسى الحياة و اشقاها، ما المعنى؟ من كل هذا العذاب الذي خاضهُ هذا الطفل… كيف يؤمنُ الناس بعدالةِ ما، كيف يعرفونَ يقيناً أن لهذه المآسي هدف و غاية.جعلت كل هذه الأشياء وازعاً في نفسي، أن أكتب عن كل شيء اراه. طوال حياتي لم أُخلصِ للكتابة ابداً و هذا لمعرفتي أني_ باختصارِ شديد_ لست كاتباً مدهشاً، لطالما ارتبطتِ الكتابة عندي باشخاصَ مدهشين، و لديهم اشياء يدافعونَ عنها بالكتابة، اما انا فليس لدي شيء، تحوم حولي جملة اظن أنها لمحسن خالد ” و الآن أنا بلا مهمةأكبر كل يوم و لا أتقدم نحو شيءتحلق فوقي النسور، و أنا اتحرك من جثتي الى جثتي “.
و لكن اذا كان العالم لن يخسر شيئاً اذا لم أكتب، فأنا ساخسرُ كل شيء، لا أريد أن أكونَ مجرد ترس في الآلة، مجرد كومبارس في هذه المسرحية الهزيلة، و بلا ادنى شك لا اريد اعادة التدوير.قررتُ انشاء مدونة، فالحياة رغم كل فظاعتها، و قرفها، هي كل ما نملكهُ، ربما بالتساؤل و الكتابة اجد معنى لهذا الألم، و اظن اننا اذا امعنا النظر جيداً ربما نستطيعُ ابصارَ السحر الذي لا يكفُ عن الحدوث كل يوم، اطلقتُ عليها اسم ” سأكونُ بين اللوز ” على اسم كتاب السيرة الذاتية للكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي، اتمنى اذا جاء يوم _ بعد أن يأخذني الموت_ و قرأ شخص ما هذه الأجزاء التي اتمنى أن أكتبها، أن أكون فعلاً بين اللوز.!
اترك تعليقاً