انطلاقاً من نقطة أساسية،يضع الشعار الجسد الأنثوي في مركز النقاش، مشيرًا إلى استهدافه المنهجي في النزاعات عبر العنف الجنسي، الإكراه، أو الاستغلال. لكن هذا التركيز يثير تساؤلاً ،لماذا يُفرد الجسد الأنثوي كساحة للحرب؟ ألا تُخاض الحروب على كل الأجساد—الرجال، الأطفال، الكويريين، النازحين، المعاقين، المفقرين؟ فالجسد كموقع لممارسة السلطة حسب فوكو. عندها تُصبح الأجساد “مُنتجة” للسلطة عبر استهدافها، تمجيدها، أو تهميشها في الحروب.ويستخدم الجسد الأنثوي، في هذا السياق، كرمز للأمة أو الشرف، مما يجعله هدفًا استراتيجيًا للعدو. لكن هذا الاستهداف ليس حصريًا.فالرجال هنا مثلاً، يُستهدفون كجنود أو “شهداء”، حيث تُحول أجسادهم إلى أدوات للعنف أو رموز للبطولة. الأجساد السوداء،المعاقة، الكويرية، أو النازحة تواجه عنفًا مضاعفًا بسبب تقاطع هوياتها مع أنظمة الاضطهاد. هنا، يمكننا استحضار جوديث بتلر ومفهومها للجسد كـ”مادة اجتماعية” تُشكلها الخطابات.
لكن الشعار موضع المساءلة، بتركيزه على النساء، يخاطر بإعادة إنتاج ثنائية جنسية (ذكر/أنثى) تُغفل تعقيدات الجسد كموقع للعنف المتقاطع. وإذا كانت الحرب تُخاض على الأجساد، فلماذا يُفترض أن الجسد الأنثوي هو الساحة الأولية؟ وهل هذا الافتراض يعكس تحيزًا ثقافيًا يربط المرأة بالضعف أو “الشرف”، بينما يُمجد الجسد الذكوري كفاعل للعنف؟
من يتكلم وباسم من؟
كما يقول فوكو،الخطابات تُنتج السلطة وتُعيد إنتاجها.ورغم طابع الشعار الإنساني،نراه يُنتج خطابًا يحمل تناقضات داخلية.أولاً، من يملك سلطة إطلاق هذا الشعار؟ غالبًا ما يُستخدم في سياقات دولية، مثل تقارير الأمم المتحدة أو الحركات النسوية الغربية، مما يثير تساؤلات ما بعد استعمارية حول من يُمثل من. هل النساء في السودان، فلسطين، أو الكونغو—اللواتي يعشن العنف مباشرة—هن من صغن هذا الخطاب، أم أنهن مواضيع تُحكى عنهن؟
ثانيًا، الشعار يُركز على العنف الجنسي كممارسة مركزية، لكنه قد يُغفل أشكالًا أخرى من العنف التي تُمارس على النساء، مثل النزوح، الفقر، أو الإهمال الطبي.ويعكس هذا التركيز تحيزًا ضمن الخطاب النسوي الليبرالي الذي يُعطي الأولوية للعنف الجسدي المرئي على حساب العنف الهيكلي. مثلاً،النساء اللاجئات في مخيمات اللاجئين يواجهن مخاطر العنف الجنسي، لكنهن يعانين أيضًا من انعدام الأمن الغذائي والصحي، وهي أشكال عنف لا تقل خطورة لكنها أقل “إثارة” للخطابات الدولية.
ثالثًا، الشعار يحمل افتراضًا ضمنيًا بأن الحروب يمكن أن تُخاض “بشكل أخلاقي” إذا لم تُستهدف أجساد النساء. هذا الافتراض يُعيد إنتاج فكرة “الحرب النظيفة”، وهي فكرة أتفق في نقدها مع ليفيناس عندما تحدث عن وهم الأخلاق في سياق العنف المنظم. فالحرب، بطبيعتها، هي انتهاك للآخر، سواء كان هذا الآخر امرأة، رجلاً، أو طفلاً. الشعار، إذن، قد يُسهم دون قصد في تطبيع الحرب كممارسة طالما أنها لا تستهدف فئة معينة.
غياب المناهضة الجذرية: لماذا لا نرفض الحرب كليًا؟
الشعار، رغم قوته، لا يذهب إلى حد رفض الحرب كمبدأ. إنه يطالب بتغيير قواعد اللعبة—أي حماية النساء—لكنه لا يسأل،لماذا تُخاض الحروب أصلاً؟ من منظور حنا آرنت، الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، لكنها تكشف عن فشل السياسة في احتواء التنوع البشري.لكن الشعار، بتركيزه على النساء، يُغفل هذا الفشل الأعمق، وهو فشل الأنظمة السياسية والاقتصادية في إيجاد حلول غير عنيفة.
والحروب كنتاج لأنظمة اقتصادية وسياسية تعتمد على التجييش وصناعة السلاح والموت.ويمكننا رؤية الحرب كجزء من الرأسمالية التي تُنتج الأزمات لتبرير وجودها بحسب ماركس.كما أن الشعار لا يواجه هذه الأنظمة، بل يركز على أحد أعراضها (العنف ضد النساء). مع أن المناهضة الجذرية للحرب تتطلب تفكيك هذه الأنظمة، سواء كانت الرأسمالية العالمية أو النظام الأبوي الذي يُبرر التجييش.
والملاحظ أنه في المجتمعات الشرقية، يُمجد موت الرجال في الحروب عبر خطابات الشهادة والشرف، بينما يُستخدم العنف ضد النساء لإذلال الجماعة. كلا الخطابين يخفيان حقيقة مشتركة،أن الأجساد تُستغل كأدوات للسلطة.وهنا نجد أن الشعار لا يتحدى هذا الخطاب القومي، بل قد يُعززه بشكل غير مباشر عبر التركيز على “حماية” النساء كرمز للأمة.
و من منظور كيمبرلي كرينشو، تتطلب العدالة التقاطعية النظر إلى تداخل أنظمة الاضطهاد.رغم أنه قد يُستخدم في سياقات نسوية، لا يأخذ دائمًا في الاعتبار كيف تُستهدف الأجساد المختلفة بشكل غير متكافئ. على سبيل المثال، الأجساد الكويرية أو ذات الإعاقة تواجه عنفًا مضاعفًا في النزاعات، لكنها نادرًا ما تُدرج في الخطابات المناهضة للحرب.ويضعف هذا الغياب قدرة الشعار على أن يكون أداة لمناهضة شاملة.ورغم استناده إلى مرجعيات نسوية وإنسانية، لكنه يعاني من قيود تأثير النسوية الليبرالية التي تركز على حماية “حقوق” النساء دون تحدي الأنظمة الهيكلية التي تُنتج العنف.ويغفل هذا النهج الطبيعة الرأسمالية والاستعمارية للحروب.
وقد يُعيد إنتاج ديناميكيات “المنقذ الأبيض” عندما يُستخدم في سياقات دولية دون إشراك أصوات النساء المتضررات مباشرة كما يشير سبيفاك. من يتكلم باسم النساء في السودان أو فلسطين؟ وهل هذا الخطاب يعكس تجاربهن أم يُشكلهن كضحايا سلبيين؟
والمعروف أن الجسد هو وسيط التجربة الإنسانيةمن منظور موريس ميرلو-بونتي .كما يغفل بتركيزه على الجسد الأنثوي، أن كل الأجساد تُختبر الحرب بشكل مختلف.وأن مناهضة الحرب تتطلب إعادة تصور الجسد ليس كموقع للمقاومة والحياة.
“لا تُخاض الحروب على أجساد النساء” هو دعوة قوية، لكنه يحمل حدودًا فلسفية وأخلاقية.
إنه يُركز على الجسد الأنثوي كساحة للحرب، لكنه يُغفل أن الحرب تُخاض على كل الأجساد وعلى النسيج الإنساني ذاته. كما أنه يُعيد إنتاج خطابات السلطة التي تُبرر الحرب طالما أنها تُخاض “بشكل أخلاقي”.
من منظور فلسفي، المناهضة الجذرية للحرب تتطلب: تفكيك خطابات السلطة: يجب تحدي الخطابات القومية، الدينية، والرأسمالية التي تُبرر الحرب وتُمجد التضحية.إعادة تصور الجسد: الجسد ليس مجرد هدف للعنف، بل هو موقع للمقاومة والتضامن.
مناهضة الحرب تعني حماية كل الأجساد، بغض النظر عن جنسها أو هويتها.رفض الحرب كمبدأ: بدلاً من تغيير قواعد الحرب، يجب رفضها كممارسة لأنها، بطبيعتها، تنتهك كرامة الإنسان.الشعار، في نهاية المطاف، هو نقطة انطلاق، لكنه لا يكفي. إنه يدعونا إلى تخيل عالم لا تُخاض فيه الحروب، ليس فقط على أجساد النساء، بل على أي جسد أو أي أرض.
هذا التخيل يتطلب فلسفة جديدة للسلام، فلسفة تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان، السلطة، العالم.
(مجتزأ من حوارات نسوية مع رؤيا)
اترك تعليقاً